منوعات ….
بقلم : عبد القادر رالة – الجزائر …
الزمن نهاية الثلاثينات… المكان الريف الانجليزي ، ضواحي لندن..البطل أحد سكان الضواحي جيمس بولينغ البدين البالغ من العمر خمسة وأربعين سنة وزوجته هيلدا وأولادهما ، وكان يعيش حياة مليئة بالخوف والقلق ، وكانت زوجته أشد منه قلقاً بسبب الظروف وأسعار المواد الغذائية وكمية النقود المتبقية ! اما هو فكان يداري القلق لأنه رجل ورب عائلة!
يمثل بولينغ الطبقة العاملة في انجلترا ، وهو جزء منها ,قد وصفها احسن وصف (ويتم اذلال الواحد منهم ،ويُهان من قبل رئيسه في العمل كما تجثم زوجته مثل كابوس ثقيل وأولاده يمتصون دمه كالعلق)
حدثنا البطل ـ الراوي ـ عن طفولته البائسة في الريف قبل الحرب العالمية الأولى ، وتحدث بإسهاب عن والديه وعاداتهما ، ونظرتهما الى الحياة ، وأي أخبار يفضلان ، فأبوه يفضل الاخبار السياسية ، أما أمه فتعشق أخبار الجرائم وموضوعات الخوارق !
وصف لنا النقاشات المدوية بين أباه وعمه عن حرب البوير في افريقيا بين الهولنديين والإنجليز وقد وعى أغلبه وهو طفل صغير ! ….كما حدثنا باسترسال عن حياة المشاكسة التي يحياها الاطفال ، اولاد الطبقات الدنيا بتشكيل العصابات التي تتكون من الأولاد القذرين ! كما اسهب في الحديث عن أحب الهوايات اليه وهو طفل : صيد السمك… وكانت القراءة أيضا من اهتماماته ، فيقول عن نفسه بأنه قارئ نهم كبير ،فلا تمر أسابيع كثيرة دون أن يقرأ فيها رواية أو اثنتين….
وتحت ظروف المعيشة الصعبة وبطلب من والده توقف جيمس عن الدراسة لكي يعمل مساعدا لبقال ، بينما اخوه جو توقف ايضا عن الدراسة ، لكن لا ليعمل وإنما لكي يتسبب في المشاكل والفضائح الغرامية ثم يختفى تماما هل مات في الحرب ام هو سافر الى امريكا؟
كانت ويلسي المرأة الأولى في حياته ، فحدثنا عن لقاءاتهما في المكتبة ، وعن مغامرتهما العاطفية البريئة!
وفي سنة 1915 توفي والده بأنفلونزا حادة …..
واندلعت الحرب العالمية الاولى فجند جيمس في الجيش ليجد نفسه بعد سبعة اشهر في فرنسا ، وانتهى بذلك عالم ما قبل الحرب الجميل ،ويبدأ عهد الحرب البشع والمخيف! وهذه الحرب شوشت كثيرا عقل جيمس!
ثم ما لبث أن توفت والدته ، وان حزن كثيرا لوفاة والديه ، فإن أسفه الكبير كان على الحياة القديمة التي ألفها ، والتي تغيرت أو رحلت !
وانتهت الحرب بين منتصر ومهزوم لكن العنوان الكبير لتلك الحرب ان الناس فقدوا الايمان ، اذ اصبح عدم الايمان بأي شيء اقوى من ذي قبل! فتلك السنوات التي تلت الحرب كانت اكثر غرابة من الحرب نفسها !
وبعد الحرب بفترة ليست بالطويلة ولا بالقصيرة ، تحصل جيمس على وظيفة في شركة تأمين في ضواحي لندن ،عن طريق احد معارفه من ايام الجندية. ومنذ التوظيف استمرت حياته رتيبة ولم يحث شيئ مهم سوى زواجه بهيلدا سنة1923….
ومن خلال الرواية يبدو لنا جليا تبرمه من هذه الزوجة ، فلم يكن مرتاحا لها منذ البداية ، وطالما فكر في قتلها في السنوات الثلاث الاخيرة! وهو دائم السؤال : لماذا اختار الارتباط بها؟ وبالطبع لا يملك الجواب! وقد وصفها وصفا دقيقا ، عبر صفحات عديدة ، الصفات الجسمية ، الجمالية ، والعقلية والأخلاقية ، وربة بيت جيدة لكن شحيحة! وكلما فكر في الانفصال عنها تراجع لأنه كما قال فعندما تعيش مع امرأة خمسة عشر عاما يكون من الصعب تخيل الحياة بدونها اذ تصبح جزءا من نظام الاشياء!
سبق الحرب العالمية الثانية حديث عن هتلر في كل مكان ! ويبدو ان جيمس لم يكن يعجبه ذلك ،ولا كان يرتاح للشعارات المعادية للألمان ، فقال هازئا من محاضر القى محاضرةعن خطر الفاشية : ـ غريب جدا منطق هذا السيد المشهور ، فلقد اصبحت معادة الفاشية صنعة ومهنة غريبة ، فماذا كان يعمل قبل مجيء هتلر ،وما ذا سيفعل اذا اختفى هتلر ؟ وهو لم يحضر المحاضرة الا تلبية لزوجته المشاكسة….
كان الكل خائفا من هتلر والفاشية ، ووجب على الانجليز ان يتحدوا ، لكن الذين كانوا اكثر خوفا اولئك الذين عايشوا الحرب العالمية الاولى ، وهم لا يفزعون من الحرب بذاتها وإنما من السنوات الي تليها!
سأل جيمس نفسه :ـ من هو الخائف من الحرب ؟ اقصد الخائف من القتال والبنادق الالية ؟ انه انت وكل من رآها ، وليست الحرب هي الوحيدة المهمة فقط بل ما بعد الحرب ، ذلك العالم الذي سننحدر اليه……
والحرب العالمية الثانية على وشك الاندلاع ،يحن جيمس الى الريف ، الى بنفيلد ، المكان الهادئ الذي امضى فيه طفولته قبل اندلاع الحرب الاولى .
فينطلق الى الريف مقدما لزوجته اعذارا يخاف بأن لا تقتنع بها ! ولما وصل تملكته احاسيس مختلفة ، وهو يتذكر أدق تفاصيل المكان ، بعد مغادرته قبل عشرين سنة ،غير أن صدمته كانت كبيرة لان الصورة التي شكلها عن بنفيلد خيالية ، وإنما تغيرت اشياء كثيرة في الواقع ، فالمدينة الريفية الهادئة تحولت الى مدينة صناعية صاخبة!
هرب من المدينة الكبيرة الى مدينته الصغيرة بنفيلد تفاديا للحديث عن الحرب المقيتة والتافهة لكن حديث الحرب وإبطالها والتحضيرات لها يملأ جو الريف الجميل حتى كاد يخنقه!
في مسقط رأسه اصيب بصدمة كبيرة ، كل شيئ تغير ؛ البيوت وسكانها ، الناس ومقابرهم وكنيستهم ، الحدائق وبرك الصيد….. التشوه طال كل شيئ …
وانتهت القصة ـ رواية الصعود الى الهواءـ بشجار بينه وبين زوجته ،لأنه اخفى عنها رحلته الى مسقط رأسه الأثير ، بينما ظنت هي أنه قضى اسبوعا رفقة امرأة ساقطة ! ……
عبدالقادر رالة/الجزائر