منوعات ….
بقلم : جيمس زغبي – واشنطن …
في عام 2003، بينما كنت أدرّس في كلية «ديفيدسون» بكارولينا الشمالية، شاهدت إعلاناً في صحيفة محلية يعلن تخفيضات على منتجات «يوتيكا» للملابس بسبب «إنهاء العمل». وكان ذلك المصنع، المتخصص في إنتاج الملابس، يغلق أبوابه لينتقل إلى آسيا، حيث يمكنه دفع أجور أقل للعمال.
وعندما شاهدت ذلك الإعلان، تذكرت قبل خمسين عاماً مضت عندما كانت مصانع الشركة ذاتها تنتقل للمرة الأولى إلى كارولينا الشمالية بعد أن أنهت أنشطتها في مدينة «يوتيكا»، التي نشأت فيها بولاية نيويورك. وكانت قد فعلت ذلك للاستفادة من رخص العمالة غير النقابية في كارولينا الشمالية.
وما أتذكره بشأن تلك الفترة، ليس كيف أن المصانع أصبحت خاوية على عروشها تاركة أجزاء من «يوتيكا» لتبدو مثل مدينة الأشباح، وإنما الأفاعيل التي فعلها إغلاق المصانع وخسارة آلاف الوظائف في مجتمعي وجيراني، لاسيما أن تلك المصانع قد ميزت الحياة في «يوتيكا» على مدار أجيال. ثم ذهبت فجأة. وتسببت الضغوط الناجمة عن عمليات تسريح العمال في إحداث توترات مزقت كثيراً من الأسر. وقد اضطر نحو ثلث سكان المدينة إلى الرحيل بحثاً عن فرص عمل. وفي فترة قصيرة، تحولت «يوتيكا» من مدينة نشطة إلى بلدة مكتئبة بأحياء خربة. والآن يبدو أن إحدى مدن كارولينا الشمالية تتجه للمعاناة نفسها مثلما حدث مع «يوتيكا» لأسباب مماثلة.
وقبل أشهر أيدت ترشح «بيرني ساندرز» لمنصب الرئيس. وكانت هناك أسباب كثيرة، سأوجزها، ولكن في مقدمة هذه الأسباب أنني لا أستطيع أن أنسى ما حدث لبلدتي وكثير من المدن الأميركية في أنحاء شمال شرق وغرب وسط الولايات المتحدة. وحصل «ساندرز» على تأييدي لأنه يفهم ما فعلته الاتفاقيات التجارية السيئة وطمع الشركات بمجتمعاتنا. وفي الوقت الذي لم يتكبد فيه بعض السياسيين عناء الحديث عن نتائج إغلاق المصانع، وتصدير الوظائف إلى آسيا، كان «ساندرز» هو الشخص الوحيد الذي تناول القضية بقوة، وتعهد باتخاذ قرار حاسم يحمي العمال الأميركيين ومجتمعاتهم.
وبالطبع، أدرك أن «ساندرز» لن يعيد «يوتيكا» إلى ماضيها في الستينيات، ولكن ما فعله بفتح نقاش وطني بشأن هذه القضية المهمة، هو بصيص ضوء على فهم متنامٍ لخطر طمع الشركات التي تواصل وضع مصالحها قبل مسؤوليتها في أن تكون منصفة لأولئك الذين أفنوا أعمارهم في بناء أعمالها.
وقد أذهلتني أيضاً الطريقة التي يتحدث بها «ساندرز» عن الحقائق المجردة بشأن القضايا الأخرى المهمة التي لطالما تم تجاهلها في الولايات المتحدة الأميركية مثل: غياب المساواة في الدخل، والدور المفسد الذي تلعبه رؤوس الأموال في السياسة، والحاجة إلى تغطية رعاية صحية عالمية. وبإظهار تصميم قوي على إثارة هذه القضايا، فتح «ساندرز» مجالاً لجعلها جزءاً من نقاشنا السياسي.
ومن المذهل بالمثل الطريقة التي استجاب بها شباب الناخبين لـ«ساندرز». وفي بداية الأمر، كانت استطلاعات الرأي تظهر أن الناخبين الشباب يعزفون بشكل كبير عن السياسة كالمعتاد. ولكن في ضوء عدم رغبتهم في مجرد الركون إلى الوضع القائم، ألهمهم شغف «ساندرز» وصدقه، وأصبحوا منخرطين في العملية السياسية. وفي استطلاعات الرأي في ولاية تلو أخرى، يكسب «ساندرز» بأغلبية ساحقة تأييد الناخبين الأقل من 35 عاماً، وبنحو هامش 70 نقطة، يقول الناخبون الشباب إنهم يثقون في «ساندرز» أكثر من منافِسته. ويرون أنه صادق، وهذا هو ما دفعهم إلى تأييد ترشحه.
وقد أدهشني أيضاً موقف «ساندرز» تجاه الالتزام بقوة أميركية للقتال في معارك لا طائل من ورائها، وبدعوته الذكية والشجاعة للموازنة بين مخاوف الإسرائيليين ومخاوف الفلسطينيين، وبالتعاطف الذي أظهره تجاه المعاناة التي تحمّلها الشعب الفلسطيني الذي يعيش تحت وطأة الاحتلال. وفيما يتعلق بهذه القضية الحساسة، لم يكن لـ«ساندرز» الموقف الأفضل بين المرشحين في السباق فحسب، ولكن موقفه أيضاً هو الأفضل بين المرشحين منذ عقود. وقد بدا ذلك واضحاً بقوة في مناظرة الحزب «الديمقراطي» التي جرت في بروكلين بولاية نيويورك الأسبوع الماضي، عندما سئل: لماذا اتهم إسرائيل باستخدام العنف المفرط؟ حيث ثبت على موقفه، وبدأ يشرح بهدوء أسبابه التي أسعدت مؤيديه.
وأخيراً، قوبل ترشح «ساندرز» بالتجاهل من قبل الصحافة في بادئ الأمر، وحتى الآن يتم التقليل من فرصه في الفوز. وعلى رغم ذلك، يواصل «ابن مدينة بروكلين»، المولود لأبوين مهاجرين من بولندا، والبالغ من العمر 74 عاماً، حشد الانتصارات بينما يحول بيئتنا السياسية الأميركية إلى الأفضل. ومثلما قال أحد أبناء نيويورك ذات مرة: «إنما الحسم عند النهاية