فلسطين (:::)
بقلم : وليد رباح – نيوجرسي (:::)
رائحة العطر العتيق الذي يخترق الانف منسربا الى جميع الاورده .. ورائحة الخبز الذي ينضج بروية ويشتمه الجائع بنهم .. رائحة القهوة العربية او العطر الذي كان يصنع من رحيق الازهار وليس من مواد كيماويه .. واخيرا رائحة الارض عندما تمطر الدنيا لاول مرة معلنة فصل الشتاء بعد طول انحباس .
من لا يعرف القدس لا يعرف رائحتها .. عندما تتجول بين الازقة تحس بخدر لذيذ يسري في اعضائك كلها .. نوع من الرهبة يجتاحك فتخشى ان تصرح لنفسك ما كنت تقوله علانية .. فالقدس تحفظ الاسرار
تاريخ القدس له رائحة خاصة ايضا .. انه ينبىء بان الغزاة رحلوا بعد ان ظنوا انهم قد امتلكوا حجارتها وارضها وسراديبها العتيقه .. رحلوا دون ان يخلفوا اثرا يذكر .. فاهل القدس عادة يطمسون اثار الغزاة ولا يبقون فيها الا حجارتها القديمه .. وبضعة روائح للذكرى تعيدنا ثانية للقدس عندما نغادرها ..
منحوتاتها الخشبية ايضا لها رائحة خاصة وتصور خاص .. انك ترى الجمال الخشبية تقبع على ارفف دكاكين السياحة فتظن انها سائرة الى المجهول .. وعندما تقترب منها تشتم رائحة الزيتون الذي يخترق الانف وينتشر في شرايين الجسد ..
بالاضافة للرائحه .. فان تصور الغزاة وما فعلوا بالقدس يعيدك الى مئات من السنين وانت تنظر الى قواعد حجارتها العتيقة وقد غرست فيها حلقات من الحديد لربط الخيول التي كانت غازيه .. ثم ماتت تلك الخيول ومات اصحابها ولم يعد لهم من اثر سوى ما كتبه التاريخ .. اما ما فعلوه فيحفره الزمان في وجوه اهل القدس وما قاسوه ونقلوه الى سحنتهم جيلا من بعد جيل ..
لكل رائحة في القدس نكهة خاصة .. الاسوار مبنية من الاسفل بحجارة كبيرة جدا يعجز الانسان عن حملها .. اما في الاعلى فهي مبنية بحجارة صغيرة يمكن ان يحملها البشر .. وقيل منذ قديم الزمان ان النبي سليمان قد سخرت له الجن لبناء سور القدس .. كانت تنقل الحجارة الكبيرة الى سورها حتى اذا ما شعرت الجن بوفاة سيدنا سليمان ارادت ان تنهي العمل بسرعة فقامت ببناء السور من الاعلى كيفما اتفق وبحجارة صغيرة الحجم نسبيا
صخرة القدس انتشرت حولها الاساطير فقيل ان سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم قد عرج الى السموات العلى من فوقها .. وقيل انها معلقة بين الارض والسماء .. ولكنها ليست كذلك .. وقيل ان فيها علامة قدم الرسول ولكن هذا محض كلام .. لكنك عندما تدخل الى الصخرة المشرفة وتهبط بضع درجات الى المغارة التي تنام فوقها الصخرة تحس ان اكداسا من العذاب قد رفعت عن كاهلك .. تحس بالرهبة والخوف والفرح والسرور والحب والفخر .. كل ذلك معا وفي وقت واحد .. فالقدس فيها كل شىء .. ومنها كل شىء .
في القدس طريق الالام .. حيث حمل السيد المسيح صليبه بين ضحكات جند الرومان وهزئهم .. تسير فيها فتصدمك رائحة خاصة تنبعث من كل الازقة التي تؤدي الى طريق الالام .. وكأنما تضم رائحة الدم المسفوح .. تدخل الى عقلك صورته والشوك يخز جبهته وهو يتمايل من ثقل ما يحمله فيزجره الجند هزءا وسخرية ونكايه .. ثم تسير متمهلا الى قبره المزي في كنيسة القيامه .. انها معجزة العمارة في هندستها وحسن مظهرها داخلا وخارجا .. انها القدس .. انها الحياة .
للقدس رائحة المطر من بعد صيف .. رائحة الليالي الصيفية في موسم قطاف الزيتون .. رائحة الحصيد عندما يحلو قطاف السنابل .. رائحة القلب عندما ينبض . او الحياة عندما تستنشق عطر المواسم .
للقدس رائحة العذارى .. رائحة الريح عندما تصفر بحثا عن اوراق الشجر .. رائحة البيادر ورائحة النعناع المضمخ بجلسة شاي مسائيه .
رائحة عبير زهر البرتقال .. ورائحة غبار الطلح عندما ينتقل من شجرة الى اخرى .. رائحة المساجد .. الكنائس .. والزوايا والتكايا .
لم تعتد القدس رائحة البارود الا حديثا .. عندما مر الصهاينة من هناك .. نقول انهم مروا .. لان من مر على القدس قد ذهب واندثر .. وبقيت القدس لاهلها مثل كوكب في سماء مضيئه .. حتى ولو حاول الغزاة ان يدخلوا بثقافة جديدة للقدس فقد ظلت ثقافتها مرتبطة بالرائحة التي لها وقع خاص .
البارود يلوث سماء مدينة القدس بالرائحة الكبيريتية النفاذة الكريهه .. اما رائحة الحواري والزواريب في القدس فهي رائحة جميلة مهدئة للاعصاب وراقية لا تدانيها رائحة اخرى ..
للقدس رائحة اخرى .. انها الرائحة الي تجعلك تحلف اغلظ الايمان انها سوف تبقى الى الابد حتى ولو لوثتها رائحة اخرى غريبة .