فن وثقافة (:::)
طلال قديح- كاتب فلسطيني يقيم في السعودية (:::::)
شاعر عملاق، استقطب شريحة واسعة من المثقفين بل وعامة الناس، لأنهم وجدوا في شعره متنفساً ، وتعبيراً صادقاً عن آلامهم وآمالهم، وترجمة أمينة لعواطفهم الصادقة وحبهم اللامحدود للوطن،وأي وطن؟ّ ..إنه مصر” أم الدنيا ” التي أنجبت أعلاماً عرفهم العالم كله، وظلت أسماؤهم أناشيد تتردد صباح مساء على ألسنة الأجيال ، فتحفزهم للاقتداء والسير في نفس الطريق.
حقا، كان لرحيل الأبنودي وقع مدوّ، أحزن كل محبيه، وأبكى العيون لتذرف الدمع مدراراً،وتذوب النفوس حسرات، وتردد الألسنة قول الشاعر :
وما هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
وحُق لمصر وللعرب أن يبكوا الشاعر عبد الرحمن الأبنودي ، صاحب الحضور المميز، وذا الخاصية الفريدة التي تحببه لكل قرائه وسامعيه..
استأثر خبر موته على تغطية واسعة من وسائل الإعلام، المقرروءة والمسموعة والمرئية..وانبرى الجميع للإشادة بدوره المميز، ونصرته للحق أينما كان.
كان قريبا من الشعب بكل فئاته، أحبه فأحبوه، وسخر شعره للقضايا الوطنية وهموم الناس،فأبدع أيما إبداع، وحقق مكانة فريدة في عالم الشعر المعاصر، ليحتل الريادة بلا منازع. تميز بإلقائه الرائع الذي يتمثل فيه المعنى، ويجسد صدق عاطفته ورهافة حسه.
ومن هنا وجدنا كثيراً من أشعاره يتغنى بها كبار المغنين،أمثال عبد الحليم حافظ ومحمد رشدي وشادية ونجاة الصغيرة ، لا لشيء، إلا لأنها كانت صدى لعواطف وأحاسيس الناس كلهم، بدءاً من الفلاح والعامل وصولا إلى الأدباء والعلماء وكل الناس بلا استثناء.
ولد الأبنودي في أبنود ، محافظة قنا ، عام 1939م. وعاش حياة لم تكن سهلة بل واجهته كثير من التحديات واعترضته العديد من الصعوبات، إلا أنه، بإيمانه وحبه لمصر ، تغلب عليها ليواصل مشواره الشعري الطويل والمميز، وبهذا حقق الريادة ، وأصبح أحد أبرزأعلام الشعر العربي المعاصر في مضمار العامية “الفصيحة” التي تلامس الوجدان وتهيج العاطفة، وتحلق في سموات الإبداع.
تحدى الأبنودي المرض، وظل التفاؤل يضيء له طريقه ويملؤه حبا للحياة ، وتصميما على مواصلة العطاء بلا تعب أو عناء.
وروي عنه قوله، وهو يصارع المرض بإيمان لا يتزعزع: ” أنا أرفض فكرة أني مريض،والجزء الثاني أنني أعاني من جلطة دموية،في ساقي اليمنى، والحقيقة أن الرئة وصلت للحدود المعقولة التي يمكن أن أعود بها إلى الإسماعيلية.”
أصدر عدة دواوين شعرية أبرزها: ” الأرض والعيال” و”سيرة بني هلال” و “وجوه على الشط” و”أحمد سماعين”
حصل على جائزة الدولة التقديريةعام 2001م، وبهذا يكون أول شاعربالعامية يحصل عليها، كما حصل على جائزة محمود درويش للإبداع الشعري عام 2014م.
ومن قصائده: ماتت الحملان وبقيت الوحوش.. يقول فيها: ننتظر فيهم يموتوا.. ما بيموتوش
حتموت الحملان..وتفضل الوحوش
الوحوش ..ما بيزعلوش.. ما بيتعبوش..واقعين عمرهم ما بيحلموش.. مهما تصرخ من ألم ما بيسمعوش.. ما بيرحموش.. لأنهم ما بيشوفوش .. ما بيعرفوش حتى احنا مين..ما يميزوش أكثر من اللي بتطلبه الكروش.
…الدنيا وسعت.. ضاقت الأدوار.. ضقنا بحكماءنا الكبار..أكوام من الأصفار.. جنود العار ..ملّينا أطفالنا الصغار ..أحياء يموتوا الأصدقاء باردين..اللحم يرجع من جديد للطين. هذا الزمان لصفوة الصامتين. هذا المكان، بيكره العارفين.. ويعذب الأخيار..وما يجلب إلا سيئ الأخبار. كل الخطى للخلف..كل الخطى.. للحتف، كل الأمان أخطار..كل الخطى للعار.
ومن أشعاره المغناة “آه يا اسمراني اللون” التي غنتها شادية: آه يا اسمراني اللون حبيبي ياسمراني
يا عيوني ناسياكي عيون حبيبي الأسمراني
تحت الرمش عذاب وحنين وعذاب وعيون ماتنام
دقت معاك طعم الأيام والوقت تغيب يا سلام.
جوني سألوني جوبتهم عيني دموع عيني
علشانك أمشيها بلاد من غير ميه ولا زاد
آه ياللي عيونك شمعة وضحكة وبحر في نسمة طيف
إنت رسيت وأنا وسط الشوق حيرانة من غير مجاديف
شعر غزلي يتدفق تجربة حب صادق ومشاعر رقيقة، وتأتي شادية لتخلع عليه مزيداً من التألق العاطفي والصوت الأخاذ، والأداء الرائع، ليحلّق معها سامعوها بعيداً، وتنقلهم إلى عصر العمالقة، تأليفاً وتلحيناً.
لله در ذاك الجيل الذي لم يدخر جهدا لبلوغ القمة في كل المجالات.
رحم الله الشاعر الكبيرعبد الرحمن الأبنودي ،الذي سيظل اسمه كوكباً متلألئا في سماء الشعر العربي، وسيبقى شعره منارة للشعراء وكافة محبيه،وأنموذجاً تقتدي به الأجيال..
وأبت الكنانة إلا أن تكون وفية لابنها البار الأبنودي ، فتودعه وداع الأبطال في جنازة عسكرية مهيبة وحشد جماهيري كبير يعتصر ألما وحزنا على فراق هذه القامة الشامخة شموخ الأهرامات ..تغمد الله الفقيد بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنته..آمين.