اللغة العربية ينبغي أن تكون الأولوية في التدريس في الوطن العربي

دراسات (:::)
د. تيسير الناشف – نيوجرسي (:::)
أرى أن اللغة العربية ينبغي أن تكون لغة التدريس في مجالات العلم والأدب على مستوى الكلية والجامعة. إن فرض لغة غير لغة الأم في مؤسسات التعليم العالي تهميش للغة الأم وشكل من أشكال السيطرة عليها. فذلك الفرض يضعف مركز وهيبة لغة الأم وهو لا يستند إلى موافقة المعنيين بالأمر. وعلى الساحة الدولية ثمة أمثلة على أن استعمال اللغة الأولى،  لغة الأم، في التعليم العالي لم يحلْ دون تحقيق شعوب لغة الأم لمنجزات كبيرة في مختلف الميادين دون الحاجة إلى لغة غير لغة الأم. إن حاجة أو عدم حاجة مؤسسات التعليم العالي إلى لغة غير لغة الأم تتوقف على عدة عوامل منها قدرة لغة الأم على التعبير بدقة عن المعاني وعلى مدى قدرتها على صياغة المصطلحات في مختلف العلوم والفنون. هذه قدرة تمتلكها اللغة العربية.  وعلى الرغم من ذلك، أُقِرّ في جامعات في الوطن العربي استخدام لغات غير لغة الأم. ولا يتسم مستوى كفاءة كثير من الطلاب الجامعيين بالامتياز في معرفة اللغات الأجنبية مما يجعل الحالة أكثر سوءا. فذلك يجعل من اللازم أن يفي الطالب (أو الطالبة) بهدفين: تعلّم المادة والمحتويات الدراسية وتعلّم اللغة الأجنبية.
إن لدى الإنسان ميلا إلى أن يفكر ويفهم ويطورالمفاهيم في لغة الأم مهما كانت لغة التعليم: لغة الأم أم لغة أجنبية. ومهما تعززت معرفتنا بلغة أجنبية  فإننا نحلم دوما بلغتنا الخاصة بنا. ودماغنا توجهه لغة الأم. والدورات العصبية لأدمغتنا أكثر تفاعلا مع اللغة التي تعلمناها في وقت أسبق.  ومما له صلة وثيقة بالموضوع أن باستعمال لغة الأم يكون التفاعل الفكري فيما بين الطلاب وبين الطلاب والمدرّسين أقوى. إن توضيح وتفسير مفهوم أو مصطلح بلغة الأم هما أيسر أو أقل صعوبة على الطالب.
ولعل من الصحيح القول إن من الأقل عسرا أو من الأكثر يسرا استعمال اللغة العربية في المواضيع الاجتماعية والإنسانية من قبيل علوم الاجتماع والسياسة والتربية من استعمالها في المواضيع الطبيعية والتكنولوجية من قبيل الطب والحواسيب والطاقة النووية نظرا إلى المدى البعيد جدا الذي اجتازه تطوير العلوم الطبيعية والتكنولوجيا في أوروبا واليابان ودول أخرى.
وإذا صح هذا القول فذلك يؤكد على الحاجة القوية إلى أن يبذل الناطقون باللغة العربية الأموال الكثيرة والجهود الدؤوبة  بغية زيادة الأبحاث في العلوم الطبيعية والتكنولوجية والرياضية وفي مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية أيضا وبغية ترجمة عدد كبير من الكتب باللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية واليابانية والروسية. إجراء هذه الأبحاث وترجمة الكتب والمقالات المنشورة في المجلات العلمية كفيلان بأن تنشأ في الوطن العربي قاعدة بيانات علمية تكون مرجعا للطلاب العرب الجامعيين وأساسا يضيف العلماء إليه لبنات أخرى من لبنات الفكر العلمي المتقدم. ولا يكفي القيام بالترجمة ولكن يجب أيضا تعزيز دقة الترجمة إلى أقصى حد دون أي تهاون فالعلوم، كما هو معروف، لا تحتمل التراخي في البيان العلمي والأكاديمي.
ومن الجدير بالذكر أن مفاهيم ومصطلحات كثيرة في مختلف العلوم في اللغة العربية أدخلت وأدمجت في القرون الوسطى في مفردات لغات أوروبية متطورة من قبيل الإنكليزية والفرنسية واللاتينية وخصوصا الإسبانية. يشير ذلك الدمج إلى الأثر الفكري والعلمي للغة العربية وإلى قبول أوروبا لمرجعية اللغة العربية وإلى كونها لغة التدريس على المستوى العالي في مجال العلوم في القرون الوسطى. فعلى سبيل المثال،
Zero, logarithm, admiral
كلمات مأخوذة أو مشتقة من الكلمات العربية صفر والخوارزمي وأمير الاي على التوالي.
واللغات الأكثر تطورا، ومنها عدد من اللغات الأوروبية واللغة العربية واللغة اليابانية، تختلف بعضها عن بعض في نسبة نشوء وتطور المصطلحات فيها. ونظرا إلى السمة العلمية للغة العربية وإلى تراثها العلمي والأدبي والفلسفي العريق والمُثْبَت فليس من السليم القول إن هذه اللغة غير مؤهلة لأن تكون إحدى اللغات التي تحتل الصدارة بين اللغات في مجال التعبير عن المفاهيم والمصطلحات.         إن كل لغة تنشأ عن سياقها الثقافي، ولديها إمكانيات وقيود التعبير من نواحي العواطف والسياقات العلمية والفلسفية والأدبية. ولا نكران لحقيقة أن المعرفة تُنتَج اجتماعيا وثقافيا ونفسيا على الرغم من الصفة العالمية للمعرفة. وفي العلوم ندرس أصناف الأشياء والعمليات السببية من منظور طالب أو عالِم يستعمل لغة هي نتاج محيط ثقافي خاص له تاريخه في تعزيز و/أو قمع أفكار ومفاهيم معينة لها أثر في اللغة نفسها. والأفراد في إنتاجهم لديهم طرقهم الخاصة للإعراب عن أفكارهم ومفاهيمهم. ومن الطبيعي أنه حينما تنشأ لغة واحدة تُوجِد هذه اللغة أنساقا في طرق التفكير وإنتاج العلوم ونقل ذلك التفكير والعلوم. إن تنوع اللغات يُوجِد إمكانات التفكير والتعبير والنهوض العلمي عبر الحدود اللغوية واافكرية، مما يفضي إلى فتح مشهد ذهني لطرق التعزيز العلمي والمعرفي ولطرق فهم مختلف المجتمعات والطبيعة والكون.
ومن المعروف أن ثمة الكثير من المصطلحات الكائنة في عدد من اللغات الأجنبية من قبيل الإنلكيزية والفرنسية واليابانية والألمانية والروسية وغير الكائنة في اللغة العربية. ومن هنا الأهمية البالغة وضع مصطلحات عربية تقابل المصطلحات في هذه اللغات. ويمكن، عن طريق النحت والتعريب، الإتيان بمصطلحات مقابلة. ويمكن لمجامع اللغة العربية وأقسام الترجمة، ومنها على سبيل المثال إدارة الترجمة العربية التابعة للأمم المتحدة، المشاركة في هذه العملية.
إن من المحزن الافتقار إلى الاهتمام الوافي بغرض ترجمة الكتب العلمية الكائنة في اللغات الأجنبية المذكورة. تحقيق هذا الهدف ينبغي أن يكون في صدارة الاهتمام. يمكن لهيئة تضم أوساطا حكومية وغير حكومية أن ُتنشأ على وجه السرعة لتنفيذ هدف ترجمة آلاف الكتب من اللغات الأجنبية. ولا يتطلب تحقيق هذا المشروع سوى مبالغ قليلة نسبيا يمكن لدول عربية أكثر ثراء وأقل ثراء أن تدفع نفقات تحقيق هذا المشروع. وهناك في الوطن العربي أشخاص لديهم تجربة مهنية طويلة في مجال الترجمة بين العربية واللغات الأوروبية الرسمية في أقسام تدريس وممارسة الترجمة
ولا بد من أن تستغرق عملية الترجمة والنشر وقتا. وريثما تنجز هذه العملية يجب إدخال المصطلحات باللغة الأجنبية في اللغة العربية مع إيضاح معاني تلك المصطلحات. وحينما توجد العبارة العربية المناسبة المقابلة للعبارة الأجنبية تجري الاستعاضة عن الأخيرة. هذه الطريقة اسعملها عدد من البلدان التي كانت تواجه نفس الحالة.  ولعل السابقين من لجؤوا إلى نفس الطريق فاستعملوا كلمة ميكانيزم، وحينما أوجدوا كلمة مقابلة لها، وهي “آلية”، استعاضوا بها عن الكلمة الأجنبية. وكذلك الأمر في حالة “منجنيق” و”مدفع” و”بوسطة” و”بريد”.
ونظرا إلى انخفاض مستوى كفاءة عدد كبير من الطلاب في اللغات الرئيسية الأوروبية فإن استعمال تلك اللغات يلحق الضرر بأدائهم الأكاديمي. وتنشأ عن ذلك معاناة طلابية من مشكلتين: الحاجة إلى تعلم المحتويات بلغة غير لغة الأم والحاجة إلى تعلم لغة التعليم في نفس الوقت. وقتهم منقسم بين تعلم اللغة ودراسة المحتويات. إن تخرج الطلاب من المدارس الابتدائية والثانوية بعد دراستهم بلغة الأم وإقحام لغة أجنبية عليهم بوصفها لغة التعليم الأولى ينطويان على ضرر بالطلاب. في هذه الحالة  يتعين عليهم أن يقرأوا وأن يصغوا باللغة الأجنبية وأن يفكروا بعد ذلك بلغة الأم، ثم عليهم أن يترجموا المحتويات إلى الإنكليزية استعدادا للامتحانات.