القصة ….
بقلم : أنور ساطع أصفري . الولايات المتحدة
أمام مرآة كالحة وقفت أتأمل نفسي ، عينان غائرتان ، وجه شاحب شاخص ، تنتشر فيه الأخاديد ، تنكرت للخيال ، فأخذت أشتمه ، أضربه بغضب وانتصار ، زاد انفعالي ، بصقت ،
فسال على المرآة ، شكّل بقعة استطالت نحو الأسفل ، تراءى لي من خلالها ومن بعيد صور متتابعة ، كأنها تلاحقني ، القمر أخذ شكلاً مضلعاً فوضوياً ، أناس يعبدون الصخر .
وصلت عبر طريق ضيّقة وعرة ، في الوقت الذي كانت فيه الشمس تخفي آخر شعاع من أشعتها الذهبية عن قرية \ أم الصخور \ .
أحسست أني أشمّ رائحة غريبة ، لا أدري كيف صنّفتها بأنها رائحة شيخوخة مقرفة ، هرب الجميع مني حتى الأطفال ، صمتٌ غريب يخيّم بعثرته صرخة قوية تلاها قرع مرعب للطبول ، مصحوبٌ برقص جماعي مخيف .
تيبست شفتاي ، تفاقمت حالتي ، تبعثرت كلماتي ، قلت في نفسي :
– لماذا أرسلوني إلى هذه القرية مشرفاً تربوياً ؟ كنت سأعزف لهم لحناً جديداً بقيثارة لم يسمعوا عنها من قبل ، سأزرع فيهم حب الياسمين والبخور والسنابل .
الكل أصبح يقترب مني وأنا أتراجع ، أصواتهم ترتفع ، صرخاتهم تدوي ، أرتجف خوفاً ، يقتربون مني أكثر حتّى أحاطوا بي من كل صوب ، أصواتهم ترتفع أكثر ، ثيابهم ممزقة ، لا مبالون ، مهترئون حتّى في أشكالهم ، أجسادهم مصبوغة بألوان مختلفة مختلطة لدرجة أنه لم يعد بمقدوري تمييز تقاسيم وجوههم .
بالقرب مني انهالت عدة ربطات من عيدان الأشجار ، انتابني الرعب أكثر ، خبأت وجهي بين كفي ، حفرت عميقاً في داخلي ، انتزعت أفكاراً تطاردني ، وفي محاولة لتهدئة نفسي تساءلت ( قد تكون هذه عادتهم في استقبال الضيوف )! .
ولج من بينهم رجلٌ قبيحٌ ملون ، غليظ بحركاته ، يتصدر وجهه شاربان غليظان كثّان ، اقترب مني ، امتص شفتيه كطفل يبتلع الكلمات عنهما ، تمتم بطلاسم ظننتها ترتيلات قسيس في بهو دير فارغ ، اقترب مني أكثر ، أشار إلي ، سألني بوضوح :
– كيف وصلت إلى قرية لا يدخلها الغرباء أيها الوغد ؟
تشققت جدران ذاكرتي ، استجمعت كلماتي ، قلت له بصوت مرتجف :
– لقد أرسلوني لأساعدكم ، أنا لا أريد أن أصيب أحدكم بمكروه ، أنا لست بسارق ، أنا جئت ….
قاطعني بقهقهة عالية صاخبة كشفت أسرار أسنانه الشبيهة بعيدان محترقة في قاع تنور ، صرخ غاضباً :
– إننا نعلّم صغارنا علوم القتل ، خنق العصافير ، قلع الأشجار من جذورها ، حفر القبور وعبادة الصخر ، فهل هناك شيء أكثر من هذا تريد أن تربي أولادنا عليه أيها النذل الغريب ؟
قلت بصوت خافت :
– نعم ، سأعلمهم المحبة ، العشق ، زراعة الورود في كل مكان ، سأعلمهم الموسيقى ومناجاة القمر .-
صمت طويلاً بعد أن أنهيت كلماتي ، تمتم بغضب ، أشار بيده اليمنى ، انتشر إيقاع جديد مصحوب بزغاريد وأهازيج النساء ، كبّلوني ، عصبوا عيني بقطعة قماش نتنة ، جرّوني كأعمى في طريق وعرة ، وقدماي تتقاذفان حجارة صغيرة عبر سيرنا إلى الأعلى .
حاولت أن أقبض على ذرّات ذاكرتي المهاجرة دون جدوى ، وتيقّنت أنه كما شقّ موسى طريقاً له في البحر ، عليّ أن أشقّ طريقي بين عبّاد الصخر .
هناك ، فكوا وثاق يديّ ، أزاحوا تلك القطعة المقرفة عن عينيّ ، وإذ بي في مكان مرتفع يحوطني خمسة عشر شاباً ، يتوسطهم رجل مسـن سرعان ما قال لي :
– كي تجتاز الامتحان بنجاح لمنحك شرف عضوية هذه القرية ، عليك أن تنزل مسرعاً من أعلى الجبل إلى أسفله ، وهناك ستمكث في مغارة تجدها أمامك وذلك لفترة نحددها نحن ، اسرع ، هيا ، لا تتوقف والاّ ..
حاصرني صوت الذاكرة من وراء الأفق البعيد ، هربت ، تدحرجت من الأعلى حيث تلقفتني المغارة برائحتها العفنة ، ارتميت على صخرة لكني سرعان ما اكتشفت أنها جمرة كبيرة حكم عليها بالسجن المؤبد .
أغلق باب المغارة بشدة ، الظلمة كثيفة ، الجو خانق ، الرطوبة تتسلل إلى شراييني وأحشائي وتنساب كالدموع على جدران المغارة الملساء .
يحيط بي الحزن من كل صوب ، يحيل نوري إلى ظلمة سرمدية ، اختلج صوتي ، الليل يغفو كالجديلة ، أحاوره بلا أبجدية فيجيبني بصمت ، أفتح حديقة الوجدان ، أشعر بطراوة الندى المزهر في عمق الحروف ( آه لو أملك حياة ثانية )! – – أتهاوى ، أتقلّص ، فتهزمني قهقهات الزمن .
تعصرني النداءات التي أتلقاها من معدتي ، في العمق لمحت هياكل أشجار اقتربت منها فإذا متكلّسة ، اختبأت بين طيّاتها بعض العصافير ، انتابني شعور بالأسى لأنها سجينة غربتها مثلي ، ففي الغربة كل شيء غريب وجديد ، فالشوارع لا تحفظ وقع أقدامنا ، حتى الجدران لا تعقد معنا صداقة بسهولة ، مضغت شفتي بنهم ، حاولت السيطرة على النقمة التي تملكتني ، بكيت ، بكيت كثيراً دون أن أحاول تجفيف دمعي بمنديل كنت أحمله ، بكيت والعصافير تراقبني باستغراب ، كنت عاجزاً عن كبت حاجتي الطبيعية للبكاء ، بكيت إلى أن حسبت أن الدمع قد استهلك كل قطرة في جسدي ، وأن الدمع قد أمسى دما .
يمر الزمن ، ينتفض قلبي كطائر يدرك ميعاد ذبحه ، عشت الصمت والظلام والجوع ، لم أعد أقاوم ، تناولت عصفوراً ، أغمضت عينيّ ، أكلته بريشه ، بعظمه وبدمه ، كان لا بد لي من أن أقتل عصفوراً وأتناوله طعاماً ، غدا القتل عندي محبباً ، وأصبحت أتلذذ بهذا المنظر اليومي ، أصبحت أتفنّن ، أنتف ريشه ، أملص رقبته وأقطع رجليه .
تأملت الثقوب الصغيرة المنتشرة على جدران المغارة ، انطلقت من أعماقي آه قوية ، شردت بعيداً ، انتبهت ، هناك أصوات تأتي من الخارج ، الأصوات تقترب أكثر ، يفتح باب المغارة ، أبواب جديدة تفتح ، تنشق المغارة ، سيل من الأطفال يتدفقون ، يصيحون بصوت واحد :
– صباح الخير ياسيّد .
خبأت صرختي بكفيّ ، تمرغت نظراتي على مواطىء أقدامهم بحالة استعطاف لا قعر له ، وبصوت متهدج قلت لهم :
– نعم صباح الخير يا أطفال ، سأشرف عليكم جميعا ، سأعلمكم الحب والموسيقى وكتابة الشعر .
أغضبتهم كلماتي ، أخافني غضبهم ، التصقت أكثر وأكثر بنفسي ، ماتت النداءات في حنجرتي ، تصببت عرقاً ، صرخت بغضب هستيري ، أجابوني بصوت واحد :
– ولكن كيف تخنق العصافير أيها السيّد ؟
ذاكرتي تنثقب ، تضيع التواريخ ، الوجوه ، الأسماء ، تتغير ملامحي ، يتلون وجهي ، تهترىء ملابسي ، تنتشر مني رائحة نتنة ، تتصدّع المرآة ، تنفجر ، تتحول إلى شظايا صغيرة تنتشر في كل مكان ، دم غزير يبصقه جسدي على إيقاع مخيف