نحو إنشاء إنسان عربي جديد يتحلى بعقل فاعل. بقلم : المفكر والمبدع د. علاء الدين الاعرجي – نيويورك

دراسات ….
علاء الدين صادق الأعرجي – نيويورك …
ملاحظة إيضاحية: تَسَلَّمَ كاتب هذه السطور رسالة مهمة من “مؤسسة الفكر العربي”، تتضمن دعوة للمشاركة في الكتاب السنوي للمؤسسة، الذي سيصدر هذا العام تحت عنوان”نحو إنسان عربي جديد”. وتضمنت الرسالة ثلاث محاور استفهامية رصينة، تتعلق بأنشاء”إنسان عربي جديد”. المفروض أن يختار الباحث أحد هذه المحاور، فيجيب عن السؤال المحوري المركب الوارد فيها. وقد فعل ْ، مجيباً عن السؤال الوارد في المحور الأول، فجاءت هذه الدراسة.
مقدمة
أولاً :مَنْ أنا؟:
أنا إنسانٌ عربيٌ ، مُسلم، مهمومٌ بإخلاصٍ وَتَـقَحُّمٍ عقلاني، منذ شبابي المبكر، بمصير الأمة العربية الغامض بل الكالح. وذلك ليس بسبب انتمائي الواقعي المشرِف إليها وحسبْ، بل باعتبارها واحدة من مئات الأمم المستضعفة، الآيلة إلى الانقراض. بينما تقتضي الضرورة الإنثروبولوجية والعملية، الحفاظ عليها والاعتزاز بها، بدوافع ٍإنسانية ّوثقافية وحضارية سامية، دون أي تمييز أو تفضيل بسبب المعتقد أو الرأي أو الأصل أو اللغة أو اللون.
ثانيا؛ المنهج
المنهج المتبع في هذا البحث، كغيره من بحوثي، علميٌ عقلانيٌ بحت، يحاول أن يكون موضوعياً إلى أقصى حدّ ممكن. فجميع الأفكار المطروحة في هذا البحث، قابلة للمناقشة، بل النقد والتفنيد. ويرحب الكاتب بذلك بكل سرور. لأن النقد يثري البحث بل قد يعيد تكوينه وخلقه، كما أنه قد ينبهني إلى نقاط ضعفي، بل ربما تحيـّزي وزلاتي، فـ”كل ابن آدم خطّـاء”.
ويفترض هذا البحث، أن أهم سبب لجميع خيباتنا بل نكباتنا، التي ظلت تتزايد وتتفاقم لاسيما منذ أواسط القرن الماضي، هو “التخلف الحضاري”، أي عدم مواجهة الحضارة الحديثة(الحداثة) بما تستحقّه من اهتمام نقدي رصين، يكشف عن حلوها ومرّها. ولكنه يعترف، بين أمور أخرى، بثورتها العلمية والتكنولوجية والفكرية الراهنة، التي تزداد تفجراً في كل لحظة، في حين يظل العرب غائبين عنها جذرياً، مستهلكين لها سطحياً. في الوقت الذي يجترون، ما يعتقدون أنه تراثهم العتيق، ويقتتلون بسببه، إلى حدّ الفناء تقريبا، ً أو تفتيت الأوطان المجزأة أصلاً. فيُصَفِّـقُ الأعداء استحساناً. “يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه” .
كما يتضمن هذا البحث الإجابة عن السؤآل/ المحور الأول من رسالة “مؤسسة الفكر العربي”، إلى كاتب هذه السطور. وهو كما يلي:
ثالثاً: السؤال المحور
“كيف تتصوّرون قيامة الإنسان العربيّ الجديد في ظلّ الانسداد العربيّ الذي نشهده اليوم على مختلف الصعد السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية…إلخ، وفي ظلّ تعثّر آليّات النّظر والعمل؟ وهل ترون ان المقاومة الفكرية في إطار تجديد الذات واستطراداً الجماعة (الأمة)، ينبغي أن تتجه أولاً لنقد الذات الفردية والعامة، لأننا على ما يبدو، وحتى الآن، لا نعرف أنفسنا معرفة تاريخية، ولا نقارب مشكلاتنا إجمالا بلغة التاريخ والمعرفة وتطورها؟
رابعاً ؛ تـحديد مفاهيمنا لبعض المصطلحات،
بما فيها الواردة في السؤال المحور.
ملاحظة
التعريفات الواردة أدناه تمثل المفاهيم الواردة في هذه الدراسة، وهي ليست جامعة مانعة ، بل تقريبية ، أي تقدم طي فكرة بسيطة فقط عن الـمُعرَف. وكلها ستتضح وتتعمق في سياق هذه الدراسة. كما أن جميعها تمثل وجهة نظر كاتب هذه السطور. لذلك فهي مطروحة للمناقشة والنقد كما أسلفنا.
1-الإنسان العربي: تاريخياً؛ يقال إن أول إشارة وردت عن العرب ظهرت في نصٍّ آشوري يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد. والمقصود بهم فيه، سكان الصحراء البدو الرُحَّل.
ونحن في هذه الدراسة، نقصد بتعبير الإنسان العربي، بكل اختصار، أي شخص يعتبر اللغة العربية لغته الأم أينما كان.
2- المقاومة الفكرية، بالنسبة للإنسان العربي: كما وردت في رسالة “مؤسسة الفكر العربي”: أرى أنها كل جهدٍ نظري، أو عملي، يستند إلى نتائج الجهد النظري، يستهدف إعداد الذات فكرياً وعملياً، لمواجهة “الآخر”، الأجنبي، المتقدم علينا مادياً ومعنوياً، والذي يهددنا أو يتحدانا، بشكل مباشر أو غير مباشر، أو يحتل أراضينا . وهذا تعريف مقتضب، سنحاول توسيعه أثناء التوغل في البحث.
3-الإنسداد العربي: يقصد به السائل، حسب رأينا، تردي أو تخلف الأوضاع في الوطن العربي، في مختلف الميادين. إلى حدٍّ يمكن أن يقال عنها منغلقة.
4- العقل المجتمعي: هو عقل المجتمع ،ككيان له شخصية معنوية، تَتَـخَلَّقَ خلال تاريخ المجتمع منذ أقدم العصور، ونتيجة تفاعل الأحداث التي مرّت على المجتمع. وتتجلى بشكل أعراف وعادات وقيم وخرافات ومعتقدات؛ تتحول إلى مُسلَّمات متوارثة ، يفرضها عليهم “العقل المجتمعي”، فيضطرون إلى اتباعها، دون وعي. إذ تُـتشرَب بها شخصياتهم منذ الطفولة، دون أن يشعرون. إلى حدٍّ يعتقدون أنها آرا ؤهم الخاصة، بل يتعصبون لها ويقتتلون بشأنها. وسنشرح ذلك بتفصيل أكثر في سياق البحث.
5- العفل الفاعل: هو الـمَلَكَة الطبـيعية التي تولد مع الإنسان والتي تتميز بالفضول و التطلع نحو المعرفة والاستكشاف، ثم الابداع والابتكار. وما برحت هذه الملكة تشكل السببب الأول لظهور الحضارات وتطورها. علماً أن هذه الملكة الطبيعية تضمر تدريجيا مع تقدم الطفل في العمر، بسبب تأثير تعاليم وموجبات “العقل المحتمعي”، ما يؤدي عادة إلى تحول العقل الفاعل ْإلى عقل منفعل.
6- العقل المنفغل: هو الملكة المكتسية من محيط الإنسان، الزاخر بمبادئ “العقل المجتمعي” وموجباته، ما يؤدي إلى تحويل العقل الفاعل ، لدى الإنسان العادي إلى “عقل منفعل” . وهكذا يصبح معظم أفراد المجتمع إمعات، أو دمىً تحركها خيوط “العقل المجتمعي” القابع خلف الستارة.

7 – الإنسان العربي الجديد: كما يرد في سياق السؤال، وحسب رأي كاتب هذه السطور، هو إلفرد العربي الذي نسعى إلى بنائه، عن طريق”المقاومة الفكرية”، والذي يتحلى بـ”عقل فاعل”، يستطيع أن يتجاوز به موجبات ” العقل المجتمعي” العربي الماضوي المتخلف، وينحو نحو الإبداع و التجديد في كافة الحقول المعرفية، العملية والنظرية. وسنأتي على تفصيل هذه المصطجات في سياق هذه الدراسة.
8- النـقد: المقصود بالنقد، بوجه عام، هو التحليل: تفسير، تعليل أو تقويم (تقييم)، الحالة (الواقعة، الحدث أو الموضوع) و كشف نقاط القوة أو الضعف فيها.
أما على صعيد الجهد الفكري، فيعني كذلك تشخيص نقاط القوة أو الضغف في النص المكتوب.
كما أرى أن على النقد أن يتجاوز معنى النص المكتوب، إلى المعنى غير المكتوب. أي إلى ما لم يقله الباحث/ الكاتب في النص. وتعتمد جودة النقد على كل من مستوى الناقد الذهني ومستوى النص الفكري.
9-النقد الذاتي العام، يعني أن يقوم الكاتب/ الباحث بتحليل مجتمعه، أو بالأحرى تحليل “العقل المجتمعي” السائد في بلده أو مدينته، بغرض اكتشاف ما يحتويه مما يعتبر من الثوابت مثلاً، لنقدها أو تعريتها لاكتشاف حسناتها وسيآتها.
10-النقد الذاتي الفردي:
يعني اضطلاع الفرد بالنظر في تصرفاته أو سلوكياته أو أفكاره التي طرحها في كتاباته، فيكتشف فيها بعض الأخطاء أو الفجوات أو الزلات أو التناقضات أو الغموض. أو قد يتوصل إلى أفكار جديدة، ربما تختلف عن أفكاره السابقة. وهذه العملية من أهم ما يمر به الكاتب /الباحث المخلص مع نفسه وقرائه، لاسيما حين يحثهم على نقده، بدون أي تحفظ.
وقد أتخذ “النقد” في العصر الحديث أهمية خاصة وواسعة. إذ أصيح جزءاً من البحث العلمي والأكاديمي لكل دراسة رصينة. فكل شيء قابل للنقد، حتى المسلّمات والعقائد، إذا كانت مخالفة للعقل السليم والمنطق المستقيم. فقد كُسرَتْ معظم الخطوط الحمراء في المجتمعات المتقدمة. كذلك عند قليل من المفكرين العرب، الذين تمردوا على العقل المجتمعي، بعد أن تحرروا من عقلهم المنفعل واستخدموا عقلهم الفاعل.
11- الوحدة المجتمعية: مصطلح جديد طرحناه كبديل عن تعبير “المجتمع” الـهُلامي أو الغامض، الذي يدل على كتلة كبيرة من البشر. في حين أن تعبير “الوحدة المجتمعية”، يشمل جميع الكتل الاجتماعية؛ الكبيرة، مثل الأمة أو الشعب، كما يشمل الكتل الاجتماعية الصغيرة مثل العشيرة أو العصابة، أو مجتمع القرية.
خامساً: تـحليل السؤال المحور
هذا السؤال المركب يتضمن عدة جوانب مترابطة ومتكاملة، وينطوي على آفاق واسعة من الإشكاليات التي تـجتاح المجتمع العربي اليوم، بل منذ قرون ، ويحتوي على مصطلحات جديدة، حاولنا تعريفها أعلاه.
ويمكن تقسيم هذا السؤال إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول، هو:
“كيف تتصوّرون قيامة الإنسان العربيّ الجديد في ظلّ الانسداد العربيّ الذي نشهده اليوم على مختلف الصعد السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية…إلخ، وفي ظلّ تعثّر آليّات النّظر والعمل؟”
ويتضمن القسم الأول هذا؛ عنصرين مترابطين متفاعلين، هما : قيامة الإنسان العربي، والإنسداد العربي. ويأتي تفاعلهما من مفهومين: الأول، هو أن قيامة الإنسان العربي تعتمد على الانفتاح العربي. والثاني؛هو الإنسداد العربي، يؤدي إلى عدم قيامة الإنسان العربي. وبعبارة أخرى: الانسداد العربي يعيق أو يمنع قيامة الإنسان العربي. أو يعني عدم قيامة الإنسان العربي سببه الانسداد العربي. والإنسداد العربي سيبه عدم قيامة الإنسان العربي.
وهنا يقع السائل في حلقة مفرغة (الدور، مثال البيضة والدجاجة)، ولكنه سرعان ما يكسرها بحذاقة، عن طريق مصطلح عميق المعنى متعدد الجوانب، ونقصد به مصطلح “المقاومة الفكرية” الوارد في
القسم الثاني من السؤال. وهو:
– وهل ترون ان “المقاومة الفكرية” في إطار تجديد الذات واستطراداً الجماعة (الأمة)، ينبغي أن تتجه أولاً لنقد الذات الفردية والعامة، لأننا على ما يبدو، وحتى الآن، لا نعرف أنفسنا معرفة تاريخية، ولا نقارب مشكلاتنا إجمالا بلغة التاريخ والمعرفة وتطورها؟”
-الإجابة:نعم، نحن نرى أن المقاومة الفكريةالرامية إلى تجديد الذات، في سبيل إنتاج إنسان عربي جديد، يجب أن تتجشم نقد الذات على الصعيد العام؛ ونقصد به نقد “العقل المجتمعي” (بتعبيرنا). أما على الصعيد الخاص، فنقصد به نقد “العقل العربي المنفعل” بالعقل المجتمعي العربي السائد؛ الماضوي المتخلف. وهو متخلف لأنه ظل متمسكاً بأمجاد ماضيه التليد، الذي يسميه الجايري بحق” الماضي الحاضر”. وهنا تدخل عبارة “المعرفة التاريخية” للذات في سياقها المناسب في السؤالٍ. إذ تعني “أننا فشلنا في تحديد موقعنا في التاريخ”، ما أدى إلى فشلنا في مواجهة إشكالياتنا ومعالجتها بحسّ تاريخي ناضج. ذلك لأننا ما زلنا نتوق إلى، بل نعيش في ظل عصر الرسالة أو عصر الخلافة الراشدة أو خلافة عمر بن العزيز. ومجموع هذه الفترة، تقل عن نصف قرن، من ثلاثة عشر قرناً، مجموع عُمْر الإسلام. علماً أن ثلاثة خلفاء قتلوا خلال تلك الفترة، التي قد تُعتبر مثالية عند بعض الماضويين. كما نشبت خلالها حروب ضارية بين صحابة الرسول(ص).
– وهنا أتفق مع المؤرخ الموسوعي أرنولد توينبي في تفسيرُ هذه الظاهرة الماضوية، بالاستعانة بنظرية كارل يونغ من تلاميذ سيغموند فرويد، من المدرسة السلوكية في علم النفس ،الذي يقول فيها أن بعض الأفراد الذين يتعرضون لصدمة عنيفة في حياتهم يستجـيــبون لها بطريقتين؛ إما بالنكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسك به تعويضاً عن واقعهم المرّ، أو تقبل الصدمة والاعتراف بها، بل مواجهتها بعقل فاعل، يحاول التغلب عليها وعلى نتائجها. وواضح أن العرب كانوا من الرعيل الأول.
-وهكذا نحن “لا نعرف أنفسنا معرفة تاريخية، ولا نقارب مشكلاتنا إجمالا بلغة التاريخ والمعرفة وتطورها؟” كما يقول السائل.
-وبغية توضيح ما يقصده السائل بهذه العبارة الأخيره، أقول إن “العقل المجتمعي” العربي الإسلامي (بتعبيرنا) هو عقل يميل إلى أن يضع الحاضر في إطار الماضي. أي يقيس أحداث الحاضر على أحداث مشابهة في الماضي. وهذا الاتجاه أضرنا كثيراً، إذ ينزع إْلى اعتبار السابق هو الأصل والحاضر هو الفرع ، ما يعيد إنتاج التخلف.
لذلك يرى الجابري “إن الثقافة العربية ذات زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية”
هل تمثل فرضياتي/نظرياتي “مقاومة فكرية”؟
يجب أن أشير بتقدير إلى عبارة: “المقاومة الفكرية” الواردة في القسم الثاني من السؤال، إذ أنها قد تنطبق، بين أمور أخرى، على فرضياتي/ نظرياتي الفكرية الثلاث التي أعتبرها، بكل تواضع، جزءاً من المقاوِمة الفكرية بامتياز، كما سأشرح فيما بعد.
ومن جهة أخرى، أرى أن “المقاومة الفكرية” بمعناها العام،
لاسيما المعرفية/العلمية والعملية، قد تكون أجدى وأمضى من أي مقاومة أخرى. وبهذا الشأن، يعبر المؤرخ أرنولد توينبي في كتابه ” العالم والغرب” ، موجها ًنصيحته إلى بلدان العالم الثالث بما معناه” قاوموا الغرب بذاتِ أسلحته” يقصد به “التكنيك الغربي”، كما يسميه المترجم، وهو لا يقصد فقط أسلحته الحديثة، بل تقدمه الحضاري على مختلف المستويات، كما أعتقد.
و”المقاومة الفكرية “، تتضمن، كما أرى، عدة جوانب أو بالأحرى عدة مفاهيم:
المفهوم الأول: “المقاومة الفكرية” للغزو الُثقافي الخارجي الذي يحاول القضاء على الهوية العربية، ثقافياً ومشاعرياً، أي القضاء على الشعور بالانتماء إلى وحدة التراب واللغة والثقافة.
والمقاومة الفكرية الناجحة للغزو الثقافي الخارجي، تتوقف على مدى قوة سلاحنا العقلاني والفكري، القمين بمواجهة الآخر. أي أن يكون سلاحنا يضاهي سلاحة، على الأقل. وهذا غير مُتاح حالياً، بل نحن بعيدون كل البعد عنه، علميا ً، وبالتالي عملياً وتنظيمياً. لذلك أصبحنا لقمة سائغة له (الآخر). بل نحن الذين نقلده طوعاً، في معظم مناحي حياتنا الخاصة والعامة. ويا ليتنا قلدناه في لُباب حضارته وتقدمه، ولكننا غالباً ما نقلده في قشورها.
المفهوم الثاني للمقاومة الفكرية
ويمكن تقسيمه كذلك إلى قسمين؛ مباشر وغير مباشر. الأول يعني، استقاء أكبر قدر ممكن، من الفكر الحداثي النقدي العميق، بما فيه العلوم والمعارف بوجه عام. وإعادة النظر في تربية الجيل الجديد على أساس العقلانية وحرية الفكر، والجرأة في طرح الأسئلة الممنوعة أو المقموعة. أي إنشاء “إنسان عربي جديد” ذي عقل فاعل لا منفعل، . وهكذا ينبغي تغيير فلسفة التربية من كونها تنشئ جيلاً منسوخا من الجيل السابق،(أي نعيد إنتاج التخلف) كما يحدث اليوم، أي جيل لا يختلف عن سابقه، إلى جيل مختلف. أي نحن نسعى إلى تطبيق مبادئ تربوية لا تعلّم الناشئ الترديد فالتقليد، بل تعلّمه النقد فالتجديد. لذلك يجب تغيير مناهج التربية والتعليم من الروضة إلى الجامعة.
أما المفهوم غير المباشر لـ”المقاومة الفكرية ” فيتجلى، كما أرى، بأعمال مختلف المفكرين الحداثيين المعنيين بتطوير المجتمع العربي المعاصر وتحديثه. نذكر منهم على سبيل المثال فقط: ابتداء من الطهطاوي ومروراً بالكواكبي وقاسم أمين وشبلي شميّل والأفغاني ومحمد عبده فسلامة موسى وطه حسين والعقاد فزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وقسطنطين زريق وجورج طرابيش وصادق جلال العظم وعلي الوردي ومحمد جواد رضا، وانتهاء بمحمد عابد الجابري ومحمد أركون وعبد الله العروي وغيرهم.
نحو إنتاج نظريات وآليات لتحقيق “مقاومة فكرية” عربية فعّالة:
هزيمة الـ 67، كانت بمثابة هِزة شديدة بل صدمة عنيفة .
قلت لنفسي ولأصدقائي ثم كتبتها في مقالاتي، إنها ليست هزيمة عسكرية فحسب، بل هي هزيمة حضارية، بكل معنى الكلمة. وتذكرت مقولة قسطنطين زريق أن جميع النكبات والخيبات التي أصابت الأمة العربية سببها التخلف الحضاري .
وهكذا شعرتُ أننا جميعاً مسؤولون عن وصول أمتنا إلى هذا الحضيض. ولاسيما المثقفين ورجال الحكم. فإذا خاب أملنا في المسؤولين من رجال الحكم ، فلا بد من اللجوء إلى المثقفين. (أنظر كتابي “في مواجهة التخلف.)
ومع احترامي وتقديري الشديد لمعظم المفكرين العرب والأجانب الذين قرأتهم، بيد أنني شعرتُ أنني قد أتمكن من تقديم أفكار جديدة متواضعة عن الأسباب الفعليّة لتخلفنا الحضاري، الذي أعتبره موطن الداء. فتوصّلت إلى ثلاث نظريات قد يمكنني أن أحاجج، بأنها جديدة على الفكر العربي، وليست مقتبسة من الفكر الغربي، ولكنها قد تتقاطع مع بعض النظريات العالمية. كما أعتبرها تشخّص الداء إلى حد بعيد. كذلك تعـبر عن “المقاومة الفكرية”، بامتياز، ما قد يمكن اعتبارها، هيَّ والمشاريع العملية الأربعة المشروحة في ملحق كتابي “الأمة العربية بين الثورة والانقراض” ؛ أقول اعتبارها جزءاً أساسياُ من “المقاومة الفكرية” التي قد تساهم في بناء “إنسان عربي جديد”، على النحو الذي طرحه “مجلس الفكر العربي”.
وهي:
نظرية “العقل المجتمعيٍSocietal Mind ” ونظرية ” العقل الفاعل والعقل المنفعل Active Mind and Passive Mind “، ونظرية “عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة”.
ومع أن هذه النظريات مشروحة بالتفصيل في مؤلفاتي، بيد أنني سأحاول إيجازها فيما يلي بغية تجنيب القارئ مشقة البحث والتنقيب.
أولا: نظرية العقل المجتمعي:
مفهوم العقل المجتمعي
1- نحن نرى أن لكل وحدة مجتمعية (مجتمع) عقلاً خاصاً بها (أو به)، يتميزعن العقول المجتمعية الأخرى، أسميته العقلَ المجتمعيّ. Societal Mind. لذا يصح القول إن العقل المجتمعي العربي يتميز عن غيره من العقول التي تتعدد بتعدد “الوحدات المجتمعية” (المجتمعات).
2- يتميز “العقل المجتمعي” بأنه يحمل أرث الأمة أو بالأحرى إرث “الوحدة المحتمعية” التي يمثلها. وهذا امر طبيعي، لأنه هو ناتج هذا الإرث الثقافي. وبعبارة أخرى، هو يحملُ جميع ما مرَّ بالمجتمع من أحداثٍ وتجارب، منذ أقدم عصوره حتى اليوم، بل أكثر من ذلك، إنَّه يحملُ نتائج تفاعلات تلك الأحداث، التي لا نعرف عنها شيئا، لأنـَّها ضاعت في بطون التاريخ غير المسجَّل وغير المعروف. وإذا علمنا بأنَّ معظمَ تاريخ البشريَّة مجهولٌ، وأنَّ معظمَ تاريخ أيِّ مجتمعٍ ضائعٌ، فينبغي أن نعلمَ كذلك أنَّ ذاكرةَ العقل المجتمعي تزدحم بهذه الحلقات الضائعة. لذلك علينا أن نـُحلـل “ذاكرةَ العقل المجتمع هذه لعلنا نتوصَّل إلى تلك العناصر الضائعة من تاريخ البشريَّة.
3- “العقل المجتمعي” يمثل سلطة سائدة، تتحكَّمُ بعقول وسلوكِ أفراد الوحدة المجتمعيَّة وتصرُّفاتهم، من حيث لا يشعرون، في الغالب، وتتحكَّم باتِّجاهاتِ تلك الوحدة ككلّ.
4 – تتكوَّن بنْيةُ هذه السلطة من مزيجٍ مُتَفاعلٍ ومتكاملٍ لمنظومةٍ واسعةٍ من القِيم ِ والمبادئ والمفاهيم والأعراف والعادات والتقاليد والخرافات والأفكار والعقائد، بما فيها الإيديولوجيَّات، والتطلُّعات إلخ… السائدة في تلك الوحدة.
5- تَخلَّقَتْ هذه البنية، ثم تشكَّلت بشكلها الأخير، تبعاً “للسيرورة التاريخيَّة للوحدة المجتمعية وصَيرورتِها التطورية” وظروفِها الجغرافيَّة، خلال فترة طويلة من الزمن، أو بالأحرى منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا.
6- الفرد العادي يمتثل تلقائيا لموجبات “العقل المجتمعي” السائدة بما فيها المعتقدات التي تغدو من المسلَّمات، بل يعتبرها تمثل آراءه الخاصة المقتنع بها فعلاً. فالشخص الذي يولد ويعيش في كنف أسرة مسلمة سنية يصبح مسلماً سنياً عادة، وكذا الشخص الذي يولد وينِشأ في أسرة شيعية. وهكذا المسيحي أو اليهودي أو صاحب أي معتقد آخر. ولو تصورنا سيدتين، مسلمة ومسيحية، في غرفة واحدة في مستشفى، ينجبان ولدين في وقت واحد تقريبا، فتخطئ الممرضة/القابلة المسؤولة، فتعطي للمسيحية الولد المسلم، وللمسلمة الولد المسيحي. وينشأ أحدهما على حب الرسول عيسى (ع) بل يصبح قسّاً، وينشأ الثاني على حب الرسول محمد(ص) بل يصبح شيخاً. ثم يلتقيان في مناسية معينة تتعلق بـحوار الأديان. فلا شك أن كل واحد منهم سيعرض دينه الذي نشأ عليه، وكأنه أفضل الأديان. فالنتأمل!!
وبوجه عام، فإن الفرد العادي لا يختار معتقده(دينه) بعد دراسة بقية المعتقدات، بل يؤمن به لأنه نشأ عليه ولُــقن به منذ الصغر (عقل مجتمعي).
وكمثال واضح آخر على حالة يفرضها العقل المجتمعي على أعضاء الوحدة المجتمعية نذكر حالة “القتل غسلا ًللعار”(المخالفة للشريعة الإسلامية ) أو ما يسمى بـ “جرائم الشرف” المألوفة والمعروفة في العراق والأردن وسوريا وفي معظم البلدان العربية والإسلامية لاسيما في المناطق الريفية، وهي جريمة يُعاقب عليها بظروف مخففة، على الرغم من أنها مخالفة للشريعة. وهي مفصّلة في دلالاتها في الكتاب المشار إليه في الحاشية المذكورة في هذه الفقرة أعلاه. وهناك عشرات من هذه العادات والأعراف، أذكر منها التبرك بقبور الصالحين لدرجة العبادة وطلب الشفاعة و الـمُراد منهم ، والإيمان بالسحر والمعجزات. واحتقار المرأة أو اعتبارها مواطن من الدرجة الثانية.
7- في الواقع، نحن جميعاً مستعبدون من جانب العقل المجتمعي، لا كعرب بل كبشر، أينما كنّا. أذ تسري هذه النظرية على جميع المجتمعات في كل زمان ومكان.ولكن الأختلاف يتجلى بين المجتمعات المتخلفة والمجتمعات المتقدمة. ففي الأولى يكون العقل المجتمعي عاتياً، وفي الثانية يكون أكثر تسامحاً.
8- لئن تُعتبَر معظمُ محتويات العقل المجتمَعيّ جزءاً من اللاشعور الفرديِّ، بالنسبة للأكثريَّة الساحقة من أعضاءِ الوحدة المجتمعية، فقد يظهر في بعض تلك الوحدات فردٌ أو أفرادٌ قلائل قادرين على نقد العقل المجتمعي، بل قادرين على تحدي الأكثرية الساحقة في التمرد على العقل المجتمعي وفضح عيوبه وأدرانه، بهدف تنبيه أغلبية أعضاء الوحدة المجتمعية إلى وجوده كسلطة قاهرة تسيطر عليهم، من حيث لا يشعرون. وهؤلاء من أُسميهم ذوي “العقل الفاعل”، (من أمثال الرسول محمد(ص) وسقراط ومارتن لوثر) مقابل الأكثرية من أصحاب “العقل المنفعل: ” (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنـّا على آثارهم مهتدون “(الزخرف ، 21).
العقل المجتمعي أقوى من القانون والشريعة
أقدم أمثلة على سلطة العقل المجتمعي قديما وحديثاً
-مثال نظام “الفصل العشائري” الذي أصبح شائعاً في العراق بعد أن ضعفت الدولة والقضاء.
– وحدث مؤخراً في محافظة البصرة، تسليم 50 امرأة من عشيرة (ألف) إلى عشيرة (باء) كـ”فصليّة”(كما تسمى)، تسويةً لنزاع الذي حصل بين العشيرتين. (عقل مجتمعي سائد ومتخلف) علماً أن هذا العمل مخالف للشريعة وللقوانين الوضعية. .
– بعد أن طعن أبو لؤلؤة الخليفة عمر في 23 ذي الحجة، سنة 23 هجرية، اشتمل نجله عبيد الله على سيفه، فقتل ثلاثة أشخاص (الهرمزان، جفينة، وابنة الفاتل أبا لؤلؤة)، وهذا مخالف للشريعة التي تقول “لا تزر وازرة وزر أخرى”(النجم 38). ومع ذلك عفى الخليفة عثمان عنه. هذه الحادثة، المعروفة التي وردت في مختلف كتب التاريخ الكبرى ومنها تاريخ الطبري و تاريخ السيوطي، تدل على أن شريعة “العقل المجتمعي” ترقى على الشريعة الإسلامية التي منعت الثأر .ومع أن من المفروض أن عبيد الله بن عمر من أدرى الناس بالشريعة الأسلامية، بيد أنه خضع لشريعة العقل المجتمعي المخالفة.
“نظرية العقل الفاعل والعقل المنفغل”
“العقل الفاعل”، هو تلك الملَكَـة الذهنيَّة الطبـيـعيَّة التي تولَد مع الإنسان، ثمَّ تَضمرُ تدريجيًّا، بسبب تأثير العقل المجتمعي عليه أو عليها، ما يحوِّله تدريجيا إلى عقل منفعل .
ولكن هذه الملكة قد تظل كامنة لدى بعض الأشخاص، ثم تنمو وتتغذى بالتفكير العميق، والمطالعة الجادة والرصد التلقائي أوالمتعمد والهادف لمظاهر “العقل المجتمعي” الضارة بالمجتمع نفسه، ما يؤدي إلى تساؤلِها عن قيمة مبادئه الأخرى، وأعرافِه ومُسلّماته بوجه عام. ثم قد يشرع صاحب العقل الفاعل بالتحاور مع الجانب المنفعل من عقلة ” و/أو يجادلُه، و/أو يحـلِـلـُه ويحاسبُه على ما يحملهُ من قِيَمٍ ومفاهيم ليست من مُبتكَراتِه، بل ممَّا يفرضَه عليه “العقلُ المُجتمَعيّ”.
يُلاحَظُ من كل ذلك، أنَّ “العقل الفاعل” يُمثِّلُ الجانبَ الطبيعيّ “الحُرّ” من عقل الإنسان، الجانب المُتحفِّز المُتسائل والمُشَكِّك والمُبدِع، والمُتطلِّع نحو اكتشاف آفاقٍ جديدة في كلِّ شيء، سواءٌ على صعيد الإنسان ذاته أو في ميادين ومجاهيل الحياة والطبيعة والكون، أو على صعيد مجتمعه عامة. هذا العقل الفاعل، هو الذي انتج الحضارات البشرية الكبرى منذ أكثر من ستة آلاف سنة حتى اليوم.
أما العقل المُنفعِل فهو تلك الملَكة المكتسبة التي يقتبسها الفردُ من مُحيطه، (أسرته، مدرسته، أقرانه، شارعه) ويستخدمُها في التفكير والتعامُـل مع الآخرين، واتِّخاذِ قراراته التي يُميِّز بها بين الصالحِ والطالح، والصحيحِ والخطإ، والخير والشرّ، في إطار مجتمعٍ مُعيَّن، وفي حدود زمنٍ معيَّن؛
أو هو مجموعةُ المبادئ والمعايير التي يفرضُها “العقلُ المُجتمَعيّ”(كما حددَّناه سابقًا)، على أعضاء المجتمع، والتي يتَّخذُها الفردُ العادي مِقياسًا لجميع أحكامِه وقراراتِه.
فنحن حين نُفكِّرُ أو نتعاملُ مع الآخرين، أو نتَّخذُ قراراتِنا، نضعُ غالبًا في اعتبارنا، شعوريًّا أو لا شعوريًّا، المُستلزَماتِ والقـيّم التي يفرضُها المجتمع،ُ (العقل المجتمعي) والتي نخضعُ لها عادةً أو نحترمُها في الغالب، شئنا أو أبَينا. وهي مُتغيِّرة غالباً بتغيُّر الزمان والمكان، ورهنا بتطور المجتمع.
فرضيّة/نظريَة عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة
إن انتقال العرب من مرحلة البداوة إلى مرحلة “التحضر”، أي مجرد الاستقرار في بـيوت مشيدة، في مدن عامرة، بدل التجول في الصحارى.(والتحضر غير الحضارة) هذا الانتقال السريع بل المفاجئ، بعد الفتوح الإسلامية/ العربية الكبرى، لم يغير شيئاً من العقلية البدوية، (العقل المجتمعي)، الراسخة خلال آلاف السنين.
فعندما حقق العرب المسلمون فتوحاتهم ولاسيما في منطقة الهلال الخصيب، بما فيه العراق وبلاد الشام، ومصر، رحل الكثير من سكان أواسط الجزيرة العربية، الذين كان معظمهم من البدو الرُحَّل، الذين كانوا يعيشون غالباً على حافة المجاعة، إلى تلك البلدان كفاتحين، حيث كان رَغَدُ العيش والثروة بانتظارهم.
يقول المؤرخ أحمد امين في كتابه فجر الإسلام،” لما فُـتح العراق وسمع العرب بغناه رغبوا في الرحلة إليه. ونقلاً عن الطبري، اضاف الاستاذ أمبن؛ “سأل الخليفة عُمر مبعوثَ أحدِ عُمّاله في العراق: كيف حال المسلمين؟‘ فقال: “انثالتْ عليهم الدنيا، فهم ينهلون الذهبَ والفضَّة”.
ومن جهة أخرى، فالعرب كانوا يكرهون الزراعة، بل كانوا يكرهون كل مِهنة،( من فعل مَهَنَ، أي أستخدم فأذلّ) لأن البدوي “النبيل”(حسب تقديرهم)هو الذي يكسب رزقه بشجاعته وإقدامه في الغزو والسلب.
حدثنا استاذنا علي الوردي بقصة طريفة ملخصها؛ أن أحد زعماء دول الخليج، غضب على أحد رعاياه فشتمه قائلاً:” يا أبن الصانع”. فانتشرخبر هذه الإهانة الفظيعة التي وصلت إلى زوجته، ما جعلها تعود إلى أهلها، وطالبته بطلاقها، لأنها كانت تظنه من أبناء العشائر، وليس من أبناء الصُنّـاع.
ويقول ابن خلدون عن العرب”، إن رزقهم في ظلال رماحهم” . ثم يخصص فصلاً عنوانه :” إن الفلاحة من معاش المستضعفين” . وأتذكر أنني قرأت في ضحى الإسلام لأحمد أمين شيئاً من رسائل الجاحظ، حديثأً مشهورأً يذكر فيه” إن العرب لم يكونوا صُنّاعاً، ولا أطباء ولا حُسّاباً ولا أصحاب فلاحة، فيكونوا مَـهَـنَة (أي مُهانون)، ولا أصحاب زرع، لخوفهم صَغار الجزية”.

وينسب ابن خلدون إلى الرسول (ص) أنه قال” ما دخلتْ هذه السكة دار قوم حتى دخلها الذُل”، يقصد المحراث. (ونحن نشك في صحة هذا الحديث، لأن هناك أحاديث أخرى مناقضة).
وتأكيداً لأهمية المرور بمرحلة الزراعة وصولاً إلى مرحلة الحضارة، أشرح في كتابي ” الأمة العربية الممزفة بين البداوة المتأصلة والحضارة الزائفة”، في الفصل الثالث، بعنوان “الثورةُ الزراعيَّة وأهمِّـيَّةُ العملِ المُنتِجِ في إِرساء دعائِم الحضارة البشريَّة”.
وهنا أبـيـّن الفرق الكبير بين مرحلة البداوة حيث يعتمد الإنسان فيها على هِباتِ الطبيعة، في المقام الأول، ابتداءً من انتظار نزول الغَيَث، وظهور الكلإ، لإطعام أنعامه، التي يقتات على منتجاتها، وبين مرحلة الزراعة، حيث يعتمد على نفسه، في المقام الأول، في الحرث والبذْر والسقيِ(في حالة الزراعة المرْوِيّــة) والجنيِ، ثم الخزن للتقوّت من جملة المحصول، طوال أشهر السنة، والاحتفاظ ببعضه لإعادة استزراعه مجدداً. ومن هنا نشأتِ ضرورة الاستقرار في الأرض، فبناء المساكن وتكوين القرى فالمدن، فتقسيم العمل فتبادل السلع والمنتجات، ونشوء الصناعات(نشوء الحضارة) . ومن هنا نشأت العلاقة الوطيدة بين الإنسان والأرض، وتطورت إلى الشعور بالانتماء إلى الوطن المستقرّ، بدل الانتماء إلى العشيرة الراحِلة، ما أدى إلى توطيد الحضارة وتطورها.
وبالإضافة إلى كل ما سبق، ومما ورد في كتابي المذكور في الحاشية الأخيرة؛ يمكن أن نستنتج، إن العرب في هذه المرحلة من التاريخ، الذين كانت أكثريتهم الساحقة من البدو، لم يمروا بمرحلة الزراعة، التي من شأنها تغيير المفاهيم والقيم والأعراف، لذلك ظل العرب متمسكين بها حتى يومنا هذا.
والظاهرة الجديرة بالاعتبار، هي أن سكان الخليج مروا بعد الطفرة النفطية، منذ منتصف القرن الماضي حتى اليوم، بحالة مشابهة تفريباً لحالة العرب بعد الفتوح الإسلامية، قبل أربعة عشر قرناً. وقد شرحت هذه الظاهرة، التي لم يتحدث عنها أحد، حسب علمي حتى الآن، شرحتها في كتابي “الأمة العربية الممزقة بين البداوة المتأصلة والحضارة الزائفة” ولاسيما في الفصل الرابع تحت عنوان”نتائج الطفرة الخليجية:مقارنة بين حال العرب بعد الفتوح الإسلامية وحال عرب الخليج بعد الطفرة النفطية. (أشرت إلى هذا الكتاب سابقاً).

ملاحظات نقدية سريعة وجديرة بالتفكير
1-أرى أنني قد عممت هذه النظريات ، ولاسيما نظرية العقل المجتمعي، على جميع العرب، مع أن هناك فروق كبيرة أو صغيرة، بين عرب لبنان مثلاً وعرب الخليج. أو عرب تونس وعرب العراق.
2- وردي على ذلك هو أن نظرية العقل المجتمعي، مثلاً، تسري على جميع المجتمعات ولكن بدرجات مختلفة وبأشكال مختلفة.
3-فمع أن هناك مثلا دائرة كبرى للعقل المجتمعي العربي تضم جميع البلدان العربية. بيد أن ثمة دوائر أصغر تدخل في تلك الدائرة الكبرى، تمثل إحداها العقل المجتمعي الخليجي، وأخرى تمثل العقل المجتمعي للهلال الخصيب، وثالثة تمثل العقل المجتمعي لشعوب شمال أفريقيا. كما يمكن القول أن دائرة العقل المجتمعي الخليجي يمكن أن تحتوي على دوائر متعددة تمثل السعودية فالكويت فالأمارات فالبحرين…إلخ
وهكذا دواليك يمكن إدخال دوائر أصغر فأصغر في كل دائرة لالتقاط الفروق بين المجتمعات الصغيرة، ضمن الدائرة الأكبر للمجتمع العربي الذي يتميز بخصائص معينة مشتركة تسري على الجميع.

خاتمة
عود على بدء
1-انطلقتُ في دراستي هذه من فرضية مفادها أن السبب الأوّل والأهمّ لجميع إشكالياتنا وكوارثنا، (وهو ما عبر عنه السائل بـ” الانسداد العربي”)، هو التخلُّف الحضاريّ، الناتج جذرياً، عن التأثير السلبي “للعقل المجتمعي” العربي الإسلامي الماضوي، على أعضاء “الوحدة المجتمعبة”، الذين يخضعون له بعقلهم المنفعل به (أي بالعقل المجتمعي)، ما يُصَيّرهم دُمَاً يحركها بخيوطه كيفما تقتضي موجباته. وقد شرحنا هذه النقطة ياختصار، بواسطة نظرية” العقل المجتمعي” و”نظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل”، وبالتفصيل لاسيما في كتابين.
2- أفترض أيضاً، أنه كلما ازدادت الفجوة الحضاريَّة، بيننا وبين “الآخر” عمقاً وسعةً، تفاقمت أوضاعنا، كما تضاعفت سلطته علينا، بشكلٍ مباشَر أو غير مباشَر. وتاريخنا الحديث، لاسيما منذ أواسط القرن الماضي، يدلُّ على ذلك. علماً بأنني لم أقرأ أو أسمع عن أي باحث قد تعرض لهذه الحقيقة وأثرها السلبي على ما ينتاب الوطن العربي من إشكاليات وويلات. هذه النقطة ترتبط ارتباطاً مباشراً وغير مباشر بالمحور الأول، موضوع البحث. ذلك لأن إعفال هذه الفجوة يقف مانعاً حاسماً في وجه تحقيق تقدم في سبيل بناء “إنسان عربي جديد”. ومن البديهي أن يرتبط هذا المانع، على التوازي، أو بالاحرى بالتفاعل مع “المقاومة الفكرية”، هذه التي يجب أن تُعنى، قبل كل شيء، بردم هذه الفجوة. ولاسيما عن طريق إصلاح فلسفة التربية والتعليم.(انظر كتابي “إشكالية التربية والتعليم وأعادة إنتاج التخلف” مرجع سابق).
3- أرجو أنْ نعترف بشجاعة، بأنَّ صراعنا مع إسرائيل هو صراعٌ حضاريٌ قائمٌ، في المقام الأوَّل، بين حضارتين إحداهما هابطة والأخرى صاعدة. وهذه نقطة أخرى لها علاقة وطيدة ببناء “الإنسان العربي الجديد” وبالتالي “المقاومة الفكرية”.
نعم، هو صراع وجود، لكنَّ المحافظة على هذا الوجود يعتمدُ، في المَقام الأول، على الأقوى. والأقوى في العصر الحديث خصوصاً، هو الأكثر تقدماً على الصُعد العلميّة والتقنيّة والتنظيميّة والاقتصاديَّة والصناعية، وبالتالي العسكريّة والمخابراتيّة. ولنا من مصير الأقوام والحضارات التي كانت تسكن الأمريكــتين، عِـبْرة. كما أن مصير الشعب العربي الفلسطيني المتدهور، أمام أعيننا، عِبْرة وعَبْرة. (وربما سنصبح كعرب، أكثر مهانة من سكان أمريكا ألأصليين، حينما نــتـحوَّل إلى قوىً عاملةٍ رخيصةٍ تستخدمها إسرائيل لإنشاء صناعاتها المتقدمة وبناء مستوطناتها الحديثة ومدنها الباذخة الكبرى، على أنقاض القرى العربية البدائية البسيطة التي طُرد سكانها وربما أبيدوا . علماً أنَّ هذا ما كان وما يزال يحدث فعلا ً في فلسطين، حيث يُستخدم الشبان العرب في بناء المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المغتصبة. والأمر الأكثر إذلالاً، أن الفلسطينيـــين أنفسهم ما برحوا يرحِّبون بهذا العمل ويعتبرونه نعمة، لأنه يوفر لهم لقمة العيش ، على الأ قل).

4- أرى أنَّنا كعربٍ ومسلمين، لسنا ورثة الحضارة العربية الإسلاميّة في عصرها الذهبيّ، بقدر ما نحن ورثة الفترة المظلمة الأخيرة التي استمرّت قرابة ستة قرون.
4-بكل صراحة،أرى أنَّ الأمَّة العربيَّة آيلةٌ إلى الانقراض، إذا استمرَّت الأحوال على هذا المنوال، كما انقرضت قبلها أربع عشرة أمة/حضارة سابقة، وكما يرى المؤرخ/ المفكر أرنولد توينبي في كتابه الموسوعيِّ “دراسة للتاريخStudy of History . ولئن نشير إلى ذلك، فإننا ننطلق من حِرصنا الشديد على مصير هذه الأمَّة العظيمة، بدقِّ ناقوس الخطر عالياً، لإنذار مفكّريها وقادتها.(انظر الفصل الأول من كتاب “أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي…”(المرفق أعلاه )، تحت عنوان” الخيار الحاسم: النهضة أو السقوط”. كذلك انظر ملاحق الكتاب الثاني “الأمة العربية بين الثورة والانقراض” التي تطرح عدَّة مشاريع عمليَّة مهمَّة قد تساهم في إنشاء “إنسان عربي جديد”.
5-الانقراض الذي أتحدث عنه، لا يعني ذوبان أو فناء 350 مليون عربي. بل يعني تهري هذا الكيان عربي الذي يتميز بوحدة اللغة والثقافة والتراث/التاريخ والمشاعر والإشكاليات والطموحات. وكخطوة أساسية لتحقيق هذا الهدف هو تفتيت البلدان العربية بتقسيمها إلى دويلات قميئة متــناحرة. لأنها قائمة على أساس عرقي أو ديني أو عشائري أو أي شكل آخر من أشكال التقسيم الطائقي. هذه الكيانات ستكون بالنسبة لإسرائيل كبيادق الشطرنج التي تلعب بها مع نفسها فتضعها أينما شاءت.المهم أن تظل في حالة نزاع أو عداء دائم.
.6-خلافاً للأفراد، فإن الأمم والحضارات تظلُّ على فراش الموت عدَّة قرون كما حدث لجميعً الحضارات البائدة، على الأرجح. وكذا قد يمكن القول أن الحضارة العربـــيّة الإسلامــيّة، قد هجعت على فراش الموت منذ عام 1258، تاريخ سقوط بغداد، ثم دخلت في غيبوبة الموت coma بعد سقوط عرناظة في عام 1492. ويبدو أنَّ جميع المحاولات التي بُذلت لإنقاذها، منذ أواسط القرن التاسع عشر، باءَتْ بالفشل، حتى هذه الساعة. بدليل ما يحصل اليوم من حروب أهلية وبينية كاسحة، ومن هجرات عربية مُذِلَّة بالملايين، إلى البلدان الغربية، وظهور القاعدة وداعش وغيرهما.
7- في كتابي المعنون “في مواجهة التخلف… حاولت أن أطرح مشروعاً عملياً أعتبره جزءاً من “المقاومة الفكرية” التي طرحتها “مؤسسة الفكر العربي”. وسأحاول أن أختصر هذا المشروع في عدة أسطر لأنني تجاوزت الحد ّ المطلوب:
8 -هذا المشروع هو واحد من خمسة مشاريع عملية تحاول أن تدعم مشروعي النظري، بل تجسده وتحققه. وقد يشكل هذا المشروع ركناً مهماً من أركان “المقاومة الفكرية” التي تؤدي إلى بناء “إنسان عربي جديد”.
9- وموجز هذا المشروع هو إنشاء”مؤسسة موسوعية عربية في المهجر”، تتألف من أكبر عدد ممكن من العلماء وكبار المفكرين المغتربين الحداثيين، وهم كٌــثرْ. بالإضافة إلى عدد من المفكرين العرب من داخل الوطن العربي. يجتمعون في إحدى العواصم التي تضمن لهم جوٍاً مفعماً بالحرية والفكر البناء، الذي يبتغي إنقاذ هذه الأمة من هذه الغُمّة. فضلاً عن أخراج موسوعة الكترونية موّثقة تسجل وتنشر جميع الحقائق العلمية والتاريخية ولاسيما التاريخ العربي الإسلامي، باللغة العربية، بموضوعية نقدية. بعيداً عن الفكر المتعصب: الإيديولوجي أو الدوغمائي.
10- الفرق المهم بين هذه الموسوعة وبين الموسوعات العربية المتاحة مثل “ويكيبيديا، هي أنها بأقلام المتخصصين، الذين يستندون إلى مراجع علمية مُرجحَة أو ثابتة.
11- بهذا المشروع نحن نحاول أن نتحاشى عدة عقبات، ونحقق عدة أهداف. فعلى الصعيد الأول، يمكن أن نتحاشى المؤثرات السلبية للعقل المجتمعي العربي الماضوي، فضلاً عن تدخلات السلطات الحاكمة العربية، والسلطات الدينية، المباشرة وغير المباشرة. وعلى الصعيد الثاتي، نحاول أن نستعيد أو نستفيد من كفاءات المثقفين العرب في المهجر الذين ما يزال بعضهم وربما معظمهم، يشعر بانتمائه إلى هذه الأمة، فننظمهم تحت سقف هذه المؤسسة التي قد تنجح، فيما أخفق فيه المفكرون والمسؤولون العرب خلال القرنين الماضيين.
12- ومما أصبو إليه من هذه المؤسسة، أن تدرس إمكانية إنشاء لوبي عربي فعـّال يستطيع مواجهة اللوبي الإسرائيلي.
طبعا هذا غيض من فيض هذا المشروع الذي طرحته منذ ربع قرن وشرحته تفصيلاً في كتابي: – في مواجهة التخلف : من أجل هيكل معرفي عربي شامل، نحو إنشاء مؤسسة موسوعية عربية في المهجر. https://drive.google.com/file/d/0B7-yP9NKQgUrdFk4SEVzeVoxRU0/view?usp=sharing
أدناه رابط يحتوي على مؤلفاتي السبعة خلال السنوات الخمسة الماضية . وهي ضرورية إذا تعذر على القارئ المحترم فتح بعض الروابط المشار إليها في الحواشي أعلاه
https://drive.google.com/drive/folders/1aZb9HULWykIyuYDu-q1oOa_9m70keq2U?usp=sharing