ابداعات عربية ….
بقلم : رشاد أبوشاور – الاردن …
شاعر وقاص ومثقف سجالي عنيد، مستفز لا يطالبك بأن تحبه وتألفه وترضى عنه، فهو يطلق صوته ويمضي مع من كلماته تُعبّر عنهم، مع شعبه، وهو يصرخ محذرا ومُهيبا، واثقا أن ما يراه الناس راهنا هو باطل الأباطيل وقبض الريح، وأن العبث بقشرة وجه فلسطين لن ينال من الجذور العميقة، ولن يقوى على تزييف حقائق التاريخ والجغرافيا، فهذه الأرض لفظت غزاة كثيرين من قبل، وستلحق بهم الغزاة الجدد الذين قذف بهم الغرب وابتلانا بهم، فهي لا تقبل القسمة على أهلها وعلى الطارئين المدججين بالأوهام والخرافات وكل أنواع أسلحة القتل والدمار.
أحمد حسين رأى، وهو العارف بأن ذا العقل يشقى بعقله في زمن تفشي الجهل واستسهال اختصار الطريق إلى الهدف، والتنازل عن الهدف رهانا سرابيا على أريحية محتل ما زال يواصل الحرب منذ ما قبل نكبة ال48 وحتى اللحظة: قتلاً، وتدمير بيوت، وتغيير ملامح جغرافيا، وانتزاع أراض من تحت أقدام أهلها، وتشديدا للحصار لتمويت غزة ومن فيها، ووضع اليد على قلب فلسطين: القدس بمباركة رئيس أمريكا ترامب المتصهين أسوة بالرؤساء الذين سبقوه، وزّج الألولف في السجون نساءً ورجالاً…
الحرب لم تتوقف رغم ازدحام الأفق برايات السلام – الاستسلام المقنّع المفضوح – منذ كامبد ديفد الساداتي ووصولاً إلى أوسلو ووادي عربة، وهرولة التطبيع الخليجي.
أحمد حسين القاص والشاعر والمفكر المشتبك صرخ محذرا قبل مسيرة التيه والوهم، ولكنه اعتبر حادا غضوبا، فابتعد عنه المثقف الرخو، والسياسي الانتهازي قصير النفس والرؤية، ولكنه اعتصم بأهله وبيته وبيئته الوفية، وأدار ظهره للشهرة المرعية من جهات محلية ودولية ترعى من يسايرونها ويروجون خطابا يبشر بنواياها التي تقسم وطننا بين طرفين، ثم تأخذ ما وعدت به من الطرف الذي قدم حسن النوايا خدمة للسلام الموهوم.
أحمد حسين رفض التعمية والخلط وهو يتصدى بحزم: لا يمكن للمثقف الفلسطيني أن يكون عدميا ووطنيا في آن واحد، أي مفاوضا ومناضلاً في ذات الموقع، وخائنا وشهيدا في نص لا يعترف بالتناقض. ( رسائل على زجاج النافذة).
أحمد حسين فضح الالتباس، وسحب الغطاء اللغوي البلاغي الذي يزيّف الحقيقة ويندفع تحته لتبرير التقاعس والتنازل والمقايضة والاعتراف والمباركة بالاحتلال وله. يكتب: فلسطين – بعد وقبل أية فلسفة- وطن مثل كل الأوطان، واقعة ترابية ليس لها سوى صاحب واحد، وحينما يصبح لها صاحبان فمعنى ذلك أن عملية اقتطاع وسلب قد وقعت من طرف ضد طرف، فأين هو مبرر الغموض في المسألة؟ ( رسائل على زجاج النافذة).
أحمد حسين يسأل المثقف الفلسطيني شاعرا وناثرا: أ ين مبرر الغموض، ولماذا التلاعب بالكلمات والتفلسف؟ أحمد حسين يعرف ونحن نعرف المثقف الانتهازي..المثقف المتساوق مع السياسي، الذي يغطي تواطؤه بالغموض والتفلسف والبلاغة واللعب بالكلام، ولكن فلسطين تفضح من يتنازل عن حبة تراب من ثراها، وهي لا ترضى بأن تمدد على مائدة التنازلات..والدم النازف من جراح شعبنا لا يقبل إلاّ الوضوح التام.
فلسطين عند أحمد حسين وشعبها ومثقفيها الأصلاء ليست مجرّد قضية الفلسطينيين وحدهم، لأنها هكذا ستوضع على موائد الاقتسام، بتحويلها إلى قضية صراع إقليمي لا علاقة لجغرافيتها وتاريخها بأمتها العربية. يكتب: ولكن التحول من واقع الهزيمة إلى واقع استمرار المجابهة والانتصار لا يمكن أن يتحقق إلاّ بنشوء إرادة قومية ساخطة ذات وعي متميز، ونهج تناحري يستهدف كل أسباب الهزيمة، وكل ما يتناقض مع وعي المعركة. والرهان الإمبريالي الأمريكي هو على منع قيام مثل هذه الإرادة الاجتماعية العربية، ودعم أو خلق التفاعلات المناصرة للتخلف ودوام الحال، في مقابل خنق أية تفاعلات غير مأمونة قد تؤدي إلى انتعاش حركة التحرر العربي من جديد، وعلى أساس أكثر عنفا وخطورة، وبمعنى آخر فإن أمريكا تسعى الآن إلى احتلال المصير العربي عبر كل أدوات الفعل المتطورة التي تملكها. من كتاب (رسالة في الرفض) مقالة احتلال المصير.
أحمد حسين رفع راية الرفض لا مكابرة، ولا عنادا غريزيا، ولكن بوعي وطني قومي عربي، ودفع الثمن عزلة بكبرياء المؤمن القابض على الجمر، فهناك من ناصبوه العداء ممن حاوروا العدو بضعة وقدموا له التنازلات المغطاة بخطاب التفلسف والسلام..وناصبوا أحمد حسين التغييب والتجاهل، والاتهام بالحدة و( التطرف)!.
وهكذا فحب فلسطين تطرف، والإيمان بعروبتها تطرف، والقول بأنها القضية العربية الأولى بامتياز تطرف ومن شعارات الستينات..ولكن: إلى أين أوصل خطاب سلاميي أوسلو ساسة ومثقفين فلسطين الوطن والقضية والشعب؟!. الأرض التي تئن وتنوح، والشعب المدمّى..يجيبان!
إنهم يصرخون ملتاعين متحسرين على إنهاء المحتل الصهيوني لأوسلو بعد 25 عاما من الهرولة وراء السراب وخداع النفس..ولكنهم لا يتقدمون بكشف حساب لشعبنا، بل يصرون على مواصلة خيار نهج( الحياة مفاوضات)!.
تغييب أحمد حسين وما يمثله يندرج في سياق خيار سياسة الركض والرهان على سراب السلام مع عدو محتل يواصل حربه العدوانية بلا توقف من قبل نكبة ال48 وما بعدها..فهاهي جرافاته تجرف أرض أهلنا،أرضنا، حول القدس، ونابلس، والخليل..وبيت لحم..وتلتهم الأغوار، وتضع المخالب في عمق أرض الخان الأحمر ، وتحيط بأريحا، ولا تبقي قرية إلاّ وتحاصرها، ولا مدينة إلاّ وتعزلها..ماضية في حربها الاقتلاعية لشعبنا العربي الفلسطيني، وبالترافق مع ما تقترفه في عمق فلسطين، ومع مشروع دولتها اليهودية التي لا تعترف بأصحاب البلد الأصليين، وبلغتهم وبحضارتهم الكنعانية الضاربة الجذور قبل ألوف السنين في ثرى فلسطين.
لم يكن أحمد حسين نبتا نادرا في فلسطين وثقافة فلسطين وعروبة فلسطين، فقبله دوى صوت الشعر عبد الرحيم محمود:
سأحمل روحي على راحتي وألقي بتا في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسر الصديق وإمّا ممات يغيظ العدا
واستشهد في الميدان.
وغسان كنفاني كتب رواياته وقصصه و دفع حياته ثمنا لفلسطين. وفي بيروت اغتال الصهاينة الشاعر كمال ناصر وصلبوه للتذكير بالسيد المسيح. وملأ ناجي العلي فنان الشعب والثورة الغاضب فضاء الوطن العربي برسوماته التي صقلت ثقافة ملايين العرب ووجهت عقولهم وضمائرهم باتجاه فلسطين. وكتب حنا مقبل مقالاته وبياناته وجهر بمواقفه الرافضة لنهج التفاوض والتسوية والتنازل واستشهد في قبرص غيلة وغدرا. وفي معركة بيروت عام 1982حمل علي فودة دمه مع جريدته وهو يصرخ تحت دوي الطائرات الصهيونية: أنا فلسطيني كحد السيف…
المثقف لا يساوم على وطنه، أي على فلسطين، ومن العار أن يتلطى بالسياسي ويغطي عجزه بخطاب ثقافي بلاغي متفلسف يبرر اللحظة ويدفع إلى منح العدو مزيدا من الوقت ليسرق مزيدا من أرض فلسطين، ويحاصر شعبها، ويقتل أطفالها.
فشل مشروع سلام الأوهام، وها هوذا السياسي يتبرأ منه، ويغسل يديه، ومع ذلك- ويا للعجب- لا يتراجع، ولا يسلم الأمانة والراية لغيره، فماذا عن المثقف..الشاعر..الروائي، المفكر؟ ألا يشعر بالندم والخزي لما ألحقه بشعبه وقضيته هو المتهاون المتنازل المتأنجز الساعي للجوائز والمباركة والقبول؟!
روحك الآن، يا أحمد حسين، تحلّق في سماء وطنك فلسطين بتمامها وكمالها، وأنت راض عما فعلت، ونحن راضون عما فعلت شعرا ونثرا، قصصا وقصائد وفكرا وكتابات سجالية شرسة.
معك، يا أحمد حسين، ننشد مطلع قصيدتك في تأبين رائد وأستاذ الشعر الفلسطيني في الوطن راشد حسين الذي رحل شهيدا غريبا مشردا لم يحتضنه أحد لأنه لم يؤجر صوته:
جددت عهدك والعهود وفاء إنّا على درب الكفاح سواء
نم في ثراك فكل صبح موعد أو ينتهي الإصباح والإمساء
لك، ومعك، نجدد العهد لفلسطين، لشعبنا، لأمتنا، أن نتمسك أكثر بفلسطين الواحدة الكاملة التي لا تقبل القسمة على اثنين…
* رحل أحمد حسين في فلسطين يوم 23 آب 2017عن عمر ناهز الثامنة والسبعين، وترك أعمالاً شعرية رفيعة المستوى، وعملين قصصيين غاية في البراعة والعمق.