مـــــــــــن الذاكـــــــــــــرة – بقلم : وليد رباح

الجالية العربية …
بقلم: وليد رباح – نيوجرسي …
(هذه نتف من الذكريات عفا عليها الزمن … استحضرتها بعد ان شاب رأسي واتكأت على ثلاث كيما اواصل المسيرة …. فهل من يعتبر)
عندما ركلنا الصهاينة بأرجلهم وبنادقهم لترك قرانا ومدننا في فلسطين …. واصلنا مسيرة العذاب مع ما رافق ذلك من بؤس وجوع وعطش … كنت في السادسة من عمري … وكان والدي رحمه الله هو العائل والقيم على اطعامنا وسقايتنا كيما نعيش ….
حطت رحالنا في قرية تسمى حوارة قرب نابلس … قضينا ليلتنا في العراء … وفي اليوم التالي اجتمعت رؤوس ثلاث عائلات لشراء خيمة تأوينا … كانت عائلتنا احداها …  ولقد فرحنا نحن الصغار بمنظر الخيمة المبهج …. فقد كانت خيمة زرقاء مثل غيوم الصيف. … يتوسطها عامود كنت اصعد اليه عندما يحاول ابي ان يضربني فأصعد الى اعلاه ومن ثم اخترق الخيمة لاشرف على الفضاء الواسع ….
وفي ذات يوم .. .مر بنا ونحن نيام لص او مجموعة من اللصوص لا ادري فقاموا باختراق الخيمة من جوانبها ونهب ما وصلت اليه ايدهم من حلل واطباق فخارية اذ لم يكن البلاستيك قد اخترع بعد … وعندما نهضنا من نومنا وجدنا (السماء والطارق) فلا طبقا نأكل فيه … ولا حلة فخارية نطبخ فيها على الحطب … وأصر ابي على ان يخبر (الفرسان) الذين كانوا يقومون مقام الشرطة في ضبط الامن بالاردن … غير ان الفرسان الذين كانوا يخيفون الناس لمجرد ظهورهم قد اتهموا ابي بالسرقة … وهكذا كانوا يعذبون ابي امام ناظري ويضربونه بالعصي والخيزرانات امامي … ومنذ ذلك اليوم … وحتى هذا اليوم … لم تغب هذه المأساة عن ناظري … فلقد طال حقدي على كل من له صلة بالسلطة … اية سلطة ظالمة يمكن ان تجعل من الانسان بهيما يضربونه تأديبا له على ارتكاب جريمة لم يفعلها … فكيف يسرق الرجل بيته او ادوات بيته التي يأكل فيها اطفاله.
ومرت على ذلك سنون عديدة بلغت العشرين … كنت خلالها احفظ في ذاكرتي ذلك الضابط المسمى محمد الخضرة … ذلك الذي عذب  ابي امامي … كان حقدي يزداد خلال تلك السنوات حتى بات الضابط هاجسي ….
وذات يوم … بينما امارس هوايتي في الركض في ذلك الزمان … اذ توقفت الى محل للبقالة اشتري منه زجاجة ماء اروي بها عطشي … ووقفت اشربها داخل الدكان … ودلفت الى الدكان صبية حسناء ترتدي بنطالا ضيقا تريد شراء بعض الحاجيات … فسألها صاحب البقالة عن صحة ابيها محمد (بيك) فقالت انه بخير … ولكنه لم يزل يعاني من الامراض المزمنة … ودفعني فضولي لأن اسأل صاحب الدكان بعد مغادرتها عن محمد بيك هذا … فقال لي … انه جارنا محمد بك الخضرة … الا تعرفه …قلت لا؟ وتابعت … هل ما زال ضابطا …. قال لا؟ فقد تقاعد منذ زمن طويل وهو يعاني من جملة امراض مزمنة تجعله طريح الفراش دوما ….
لمعت في خاطري فكرة … لماذا لا اقتحم عليه بيته فأذكره بالماضي … ولكني طرحت فكرتي وتجاهلتها عندما قال لي عقلي: ربما كان هذا الرجل اسما على مسمى.
وفي غضون الايام التي تلت … كنت اذهب الى نفس البقالة لكي اشتري منها زجاجة الماء في الصباح قبل ان اذهب الى عملي …واستطعت جمع معلومات عن الضابط المتقاعد … فقد قال لي صاحب البقالة انه كان في سلاح الفرسان … وانه خدم في الضفة الغربية لمدة طويلة …وكانت الحكومة تعتمد عليه في الاعتقالات والتعذيب …حتى اذا ما كبر واحيل الى المعاش تاب الى الله واخذ يذهب الى المساجد مع كل ما اصابه من وهن …
عولت الى ان اذهب للمسجد الكبير قرب منزله ايام الجمع كيما اراه … ومضت عدة اسابيع قبل ان ارى ذلك الطول الفارع والوجه الذي اعرفه تماما رغم كبر السن الذي ازال مسحة العنجهية من ملامحه …
وعندما انتهت الصلاة اقتربت منه وهو خارج من المسجد فقلت له: محمد بك؟ هل لي بالحديث معك للحظات ….
قال الرجل: اهلا بك يا بني؟ تفضل … انا مصغ اليك …
قلت له: محمد بيك …قصتي معك تعود الى ما قبل خمسة وعشرين عاما؟ فقد عولت على الانتقام منك مذ كنت صغيرا … ابتسم الرجل بخفة وقال: لكنك يا بني لا تتجاوز العشرين بكثير … فأنت لست من ضحاياي؟
قلت له: بل ابي كان من ضحاياك … قال الرجل: انا امامك يا بني …فافعل ما شئت .. ولكن قبل ان تفعل اخبرني ما قصة ابيك
شرحت له الامر … سرح بنظره الى الفضاء وقال: نعم … اكاد اذكر ذلك … انت محق يا بني …
قلت له: اكان ابي هو السارق … قال فورا: لا … فقد كنا نحن السارقين … لقد ارسلت اثنان من الفرسان لسرقة الخيمة واحضار ما يمكن احضاره ثم القاءه في حفرة على الطريق … ليس لاننا نريد السرقة …بلا لأن تعليمات واضحة.. ويقال انها كانت من كلوب باشا قائد الجيش آنذاك .. كانت التعليمات لدينا بمضايقة (اللاجئين) والباسهم التهم جزافا كي نخيفهم …حتى لا يخرج منهم من يتعبنا سياسيا …
قلت: هذا ظلم فاضح …قال: اعرف ذلك … ولكنها الوظيفة والسياسة التي لا رب لها … قال: ماذا انت فاعل …. لك الحق يا بني بأن تفعل ما تشاء …قلت: لا عليك … فليسامحك الله … فيكفيك ما انت فيه …
اختفى الرجل عن ناظري ودمعة تنسرب الى خده …. وقد تابعته وهو ينسرب بين الازقة وقد تاه نظره الى السماء حينا والى الارض حينا اخر … ويبدو انه كان مسرعا الى بيته بانتظار مرض آخر يصيبه بعد ان ذكرته بمأساة ارتكبها ابان شبابه.