فضاءات عربية ….
بقلم : رشاد أبوشاور – الاردن …
الخطابة واحدة من صفات ومميزات شخصية المناضل والصحفي الكبير الأستاذ شفيق الحوت.
منحه الله قامة مهيبة، وحنجرة عريضة، وهو تمكن من امتلاك لغة عربية مبينة، وثقافة عميقة غنية وطنيا وقوميا، ومعرفة بالتاريخ الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة.
وهو عاش نكبة فلسطين، ودفع هو وأسرته شهيدا هو شقيقه جمال، وفتح عينيه على نكبة فلسطين عام 48، وفاجعة الاقتلاع من يافا، وكان آنذاك في السادسة عشرة من عمره، يعي هول ما جرى، ورغم أن اسرته لبنانية الأصل فإن والده قد تشبث بفلسطينيته، ورفض ( استعادة) جنسيته اللبنانية، مؤملاً العودة إلى يافا.
اختيار شفيق الحوت لمهنة الصحافة كان خيارا واعيا، فمن خلال الصحافة حض على تحرير فلسطين، والاشتباك مع الاحتلال الصهيوني، وهو انتمى مبكرا للفكر القومي والخطاب الناصري، لأنه رأى في الوحدة ونهوض الأمة طريقا لتحرير وخلاص فلسطين.
كتب الكثير عن المناضل الكبير الأستاذ شيق الحوت بعد رحيله يوم 2 آب 2009، ولكن لم تتم الإضاءة على تميزه وبروزه كخطيب مفوّه، عرف بين الفلسطينيين في لبنان، والفلسطينيين في التجمعات التي استمعت إليه، وعلى منابر دورات المجلس الوطني الفلسطيني، وفي المناسبات الوطنية الفلسطينية.
كان خطيبا جذّاب، مؤثرا، مقنعا..لأنه صادق، فهو خطيب يخاطب العقول بهدف الإقناع ، والتأثير في الوعي، وليس اللعب بالعواطف والتهييج.
عرفته خطيبا مباشرة في جنازة سماحة الحاج أمين الحسيني، في مقبرة الشهداء ببيروت، وكان خطابه حزينا وغاضبا يومها، وذلك أنه تنبّه إلى قلّة اهتمام القيادات الفلسطينية بالحشد في جنازة الرجل الذي قاد شعب فلسطين طيلة ثلاثة عقود قبل النكبة، وكان حضوره الفلسطيني والعربي والعالمي باهرا.
حضر يومها أبوعمار، وأبوإياد، وغابت قيادات لم تأبه لرحيل الحاج أمين، وافتقدت حشود التنظيمات..ولم يمرر الستاذ شفيق الحوت المناضل الكبير، والخطيب الاستثنائي..هذا التقصير المقصود الفاضح، فصاح مخاطبا الحاج المسجى في نعشه: يا أبا الفلسطينيين..وكأنه يخاطب من حضر من القادة: أنتم أبناء المس..والحاج هو قائد شعب فلسطين الذي هتف له شعب فلسطين طيلة عقود:
سيف الدين الحاد آمين
و: هبت النار والبارود غنّى
يا حاج آمين يا حامي ظعنا
كانت فلسطين جريحة شعبا وقضية في حنجرة خطيبها..حزينة..غاضبة، فهذا التقصير عار لا يليق بمن جاءوا بعد قائد فلسطين وحملوا الراية من بعده..ولم يحققوا شيئا يميزهم عنهن ويجعلهم ينظرون غليه من فوق وكأنهم جاءوا بالمعجزات.
في ذلك اليوم، وكنت حضرت من دمشق للمشاركة في جنازة سماحة الحاج، تعرّفت على جانب كان خافيا من جوانب شخصية الكبير شفيق الحوت، بعد تعرفي غليه صحفيا كبيران ولجوانب من سيرة حياته النضاليةن ودوره في تاسيس منظمة التحرير الفلسطينية مع الأستاذ الكبير أحمد الشقيري.
في دورات المجلس الوطني المتلاحقة سمعته متداخلاً ببراعة، وبقدرة على جذب الانتباه والاستحواذ على الإصغاء والإعجاب..حتى ممن يخالفونه الرأي، لما يتمتع به من قدرة على الاقناع.
من جهتي عرفت خطيبين فلسطينيين كبيرين في حياتي هما: الأستاذان أحمد الشقيري وشفيق الحوت، ورغم اتفاقهما في الكثير فإن لكل منهما صفات مختلفة.
شفيق الحوت الخطيب صادق، غير مضطر للكذب على سامعيه، فهو قائد وطني كبير همه الإقناع بالحقائق، وهو وإن أسس مع عدد من المثقفين – من بينهم الكاتبة الكبيرة سميرة عزام – فصيلاً وطنيا قبل هزيمة حزيران 67 فإنه رأى في منظمة التحرير الفلسطينية بوتقة يفترض ان ينضوي الجميع تحت رايتها ..راية فلسطين.
كثيرون يستذكرونه خطيبا ومتداخلاً في دورات المجالس الوطنيةن وفي المناسبات الوطنية والقومية..ولكن الأجيال التي لم تسمعه لن تعرف أهميته خطيبا مبهرا ملهما، ولذا اقترح أن تجمع خطاباته في كتاب، وأن توضع على CD لأن الاستماع لخطاباته ليس كقراءتها.
رافقت في بعض المؤتمرات القومية، واستمتعت عقلاً وعاطفة بخطاباته الذكية البارعة، ولمست مدى حضوره وتأثيره في الحضور، وتحقيقه الكثير لفلسطين القضية القومية التي حمل لواءها مبكرا ..وحتى رحيله رحمه الله.
كان خطيبا جادا، ولكنه لم يكن ثقيل الظل كبعض الخطباء المنفرين.
كان خطيبا يمتع الإصغاء له ويبهر ففيه هيمنة على المنصة وفضاء المكان، وهذا يعود على صفات ولدت معه، وصفات نمّاها وطورها في مسيرته بخبرة ودراية.
( أبوهادر) مدرسة في الخطابة تركت في الذاكرة والنفوس اثرا لا يمحى.
ليس مستغربا أن ( الخطباء) انتهوان وما عاد لهم حضور في ايامنا، وذلك لأن القضية تم الانحدار بها، ولأن ( الزعامة) بالمعنى الحقيقي قد أفل زمنها، فنحن نعيش في زمن الصغار الطامعين في المناصب والامتيازات، وهؤلاء لا يملكون صفات القادة…
في الذكرى التاسعة لرحيل المناضل الوطني القومي العربي الناصر الكبير شفيق الحوت نفتقد كبيرا متميزا حرص دائما على فلسطين القضية، وكان اكبر من المناصب ..ولذا استقال من عضوية اللجنة التنفيذية احتجاجا ورفضا لاتفاقات أوسلو التي دفع شعبنا وقضيتنا أثمانا باهظة بسببها.