غسان كنفاني الحاضر أبدا – بقلم : رشاد ابو شاور – الأردن

ابداعات عربية ….
بقلم : رشاد أبوشاور – الاردن ….
-1-
أقصد بالحاضر أبدا: الحاضر في حياة الشعب العربي الفلسطيني، في ثقافته المقاومة، في مسيرته الاستشهادية، في وعيه الجمعي بإنسانيته وحقه في الحياة، والذي لن يطوي النسيان إبداعه واسمه وحضوره.
لا أتذكر غسان كنفاني في يوم استشهاده حسب، لا، لأن هذا يعني أنني نسيته طيلة العام، وأنه بات مجرّد شخص عابر في حياتي كفلسطيني.
ككاتب، وكمقاوم. يعيش معي غسان كنفاني في كتابتي كلها، في رواياتي، في قصصي القصيرة، في كتاباتي الصحفية..لأنني امتداد له، أنا وأبناء جيلي، ومن سيأتي بعدنا، له، ولكل من سبقونا، فلا أنسى الروائي والقاص والمترجم والرسام والناقد والشاعر والسيناريست جبرا إبراهيم جبرا، فهناك ما يجمعهما، وهناك ما يختلفان فيه، ولهذا حديث آخر.ولن أنسى (المعلمة) – هكذا وصفها غسان – سميرة عزّام القاصة الكبيرة والإعلامية والمناضلة.
غسان طوّر الفن الروائي العربي الفلسطيني، ورفد الرواية العربية بما أضافه من تقنيات جديدة، تحديدا في روايتيه: رجال في الشمس، وما تبقى لكم..ولو امتد به العمر قليلاً، سنوات قليلة لأضاف تقنية جديدة بروايته( برقوق نيسان) – التي لم تكتمل بسبب استشهاده- والتي استخدم فيها الهوامش لتعمق ما مر في المتن، وهو بهذا التنقل خفف من رتابة السرد وثقله وإملاله بلغة رشيقة مشهدية تنقل المكان، وسرعة حركة الشخوص – أبطال الرواية- ودرامية الأحداث التي كانت تعصف بفلسطين، مجسدة بثورة فلسطينية التي كانت تتأجج في وجه الاحتلال البريطاني والتسلل الصهيوني.
قرأ غسان لي وللشاعر مؤيد الراوي الفصول التي كان قد أنجزها من دفتر كبير الحجم، وكنا ننتمي للجبهة الشعبية القيادة العامة، والتقينا به للتنسيق الإعلامي بين الشعبية والقيادة العامة، فقال ضاحكا: دعوا التنسيق للسياسيين ولنتحدث في الأدب، واقترح أن يسمعنا ما أنجزه من فصول روايته الجديدة، وقرأ تلك الفصول في جلسة واحدة، وطلب رأيينا في التقنية الجديدة التي كتب بها نصه الروائي الجديد.
انظروا للإخلاص للكتابة، للأدب، للثقافة، فهو يرى أن التنسيق يمكن أن ينجزه سياسيو الفصيلين، لكن الأدب هو ما يجمع، وما يرتقي، وما يدوم، وما يوحّد.
أنبّه: غسان المتواضع، والمشهور جدا، يقرأ مباشرة ما أنجز من عمله الروائي الجديد لكاتبين في بداية مسيرتهما الأدبية، ويطلب رأييهما!
شخصيا اعتبرت أن ما سمعته هو إنجاز روائي تقنيا، وهو إضافة كبيرة للرواية الفلسطينية والعربية، لأنه (يكتب) فصلاً من فصول كفاح شعبنا، وهو إلى ذلك مكتوب ببراعة و( حداثة) ولا يتكئ على ( المضمون)، وفي هذا رسالة للقارئ، وللكاتب، وللناقد: أنا كعربي فلسطيني لا أنطلق في تقديم ما أكتب مستندا على الموضوع الفلسطيني المأساوي، ولا ألتمس الشفقة المهينة، ولا التعاطف العابر، فانا أقدّم الإنسان العربي الفلسطيني كإنسان صاحب قضية يخوض معركة وجودية بخيار واع ، ويضع حياته أمام خيار: العيش بكرامة ..أو الموت بكبرياء.. وبفّن يضيف لبنيان الرواية العربية.
شغل خيار الفلسطيني في لحظة ( الثورة)، ووعيه الوطني، وتحولاته، ونمو وعيه الوطني، حيزا كبيرا من تفكير غسان كنفاني، وهذا ما لمسناه في رواية( أم سعد)، وفي الكثير من قصصه القصيرة الرائعة.
بعد النكبة، وفي حقبة التيه والضياع والعيش تحت الخيام، وُضع الفلسطيني أمام أسئلة الحياة: أهذه هي النهاية؟ هل استسلمت؟ هل ما رسم لك ترضى به؟ أتكون هذه هي الهزيمة النهائية التي لا قيامة بعدها؟ اقرأوا (رجال في الشمس) تجدون الإجابة.
كل أدب عظيم يتضمن دروسا تعليمية من خلال الأسئلة المضمرة التي تبقى ثاوية في عمق النص الروائي والقصصي، ولكن القارئ الذي لا يتسلى بالقراءة، القارئ الحصيف يكتشفها، ويقول لنفسه: لا بد من العمل..فهذا الظلم لا يجوز أن يدوم.
لذا أدار حامد ظهره لكل ما أعاقه في( غزة) واتجه عابرا الحدود التي وضعها المحتل في قلب فلسطين، ومزق جغرافيتها، ووحدة شعبها، وهدفه الالتقاء بأمه، ولكنه قبل هذا اللقاء، وهو غير سهل، وأمه مجهولة المصير، لا بد أن يواجه..وفي المواجهة مع الجندي الصهيوني التائه في الصحراء بين ( الضفة) و( وغزة)،لا بد أن ينجز الإجابة التي تمحو الحدود التي مزق بها الغازي الصهيوني قلب( الأم) وجسدها الواحد، وهذه عملية تاريخية كبرى، وغسان يقول لنا: حامد هو أنتم جميعا..وهذا هو الخيار ( الذي تبقّى ) لكم إن طمحتم للالتقاء ( بأمكم).
-2-
لفتت انتباهي طبعة( غريبة) من أعمال غسان كنفاني تنتشر على أرصفة أكشاك الكتب في عمّان، مفردة، وبحجم راحة اليد، يعني سهلة الحمل، وهي على ذلك رخيصة الثمن: النسخة بدينار!
سألت صديقي صاحب كشك الثقافة العربية حسن أبوعلي المشهور في عمان عن رواج هذه الطبعة، فأخبرني بأنها (ماشية) جدا، والقراء يقبلون على اقتنائها فهي ميسورة ورخيصة.
أنا شخصيا اقتنيت بعض الأعمال رغم أن مجلدات أعمال غسان متوفرة لدي، وتزيّن مكتبتي.
هناك ثلاثة أجيال ولدت بعد رحيل غسان شهيدا يوم 8 تموز 1972، فهل قرأت هذه الأجيال أعمال غسان كنفاني؟ وهل هناك ما يشجعهم على اقتناء المجلدات بأسعارها التي قد تكون مرهقة في زمن البطالة والفقر؟!
من نشر أعمال غسان بهذه الطبعة السهلة الحمل والسعر هو في الحقيقة ( ابن سوق)، يعني فكّر ووجد أن كتب غسان ستستقبل باهتمام وسيقبل القراء عليها لرخصها وحجمها الصغير.
قيل لي: الطبعة مزورة، وقرأت في الصفة الداخلية بعد الغلاف: منشورات الرمال، وتحتها: مؤسسة غسان كنفاني الثقافية! وفي الصفحة التي تليها: جميع الحقوق محفوظة: السيدة آني كنفاني. ومكان الإصدار: قبرص.
شخصيا لا أحتج على من أصدروا الطبعة، فأنا رأيت أثناء جلوسي مع صديقي حسن أبي علي أمام كشكه إقبال كثيرين على اقتناء بعض الأعمال، وهؤلاء سيجدون بعض الوقت لقراءة رواية، أو مجموعة قصصية لغسان، فهم سمعوا به ولكنهم ، ربما، لم يقرأوا له، وتوفر أعماله وعرضها ببساطة يجذبهم لاقتنائها وقراءتها.
ردا على هذا التزوير غير الضار، بل المفيد في التعريف بغسان، لا بد من إصدار طبعة ( شعبية) وتوفيرها بسعر زهيد جدا.
هذا واحد من اقتراحاتي للترويج لأعمال غسان كنفاني، وتمكين أبناء الأجيال الراهنة من قراءته، لأن الرغبة تحتاج للتشجيع.. وبهذا نحتفي بغسان، ونُسهّل تواصله مع مزيد من القرّاء الحاليين ..والقادمين.
-3-
بهذه المناسبة، وحتى لا أكتب كلاما إنشائيا، فإنني اقترح ما يلي، إضافة لاقتراحي بإصدار طبعة شعبية رخيصة ميسورة:
أولاً: إقامة ندوة في كل عام يحدد موضوعها، ويدعى لها نقاد وكتاب متابعون وجادون لتقديم دراسات وقراءات لأعمال غسان: غسان روائيا، غسان قاصا، غسان باحثا، غسان صحفيا وإعلاميا، غسان مساجلاً، غسان تشكيليا وخطاطا( مع التوقف عند تجربته في الهدف).
ثانيا: أن تصدر تلك الدراسات والقراءات في كتب، أو كتيبات بحجوم (جيب) ليسهل حملها وقراءتها ونقلها.
ثالثا: تشجيع نقاد شباب على دراسة أعمال غسان، من كل الوطن العربي مشرقا ومغربا.
أنا أعرف صعوبة الأوضاع المالية وأـنها عائق، ولهذا أنبه إلى أنه يمكن أن يدعى للمشاركة فيها عدد محدود من سورية ، ولبنان، والأردن، وفلسطين- خاصة مع اقتراب فتح الحدود السورية الأردنية- وتكون الندوات متاحة للعامة لأن الهدف في الجوهر (إعادة) تعريف الأجيال الطالعة بغسان وبمسيرة حياته الأدبية والإنسانية.
سيكون جيدا عرض الفيلمين المأخوذين عن ( رجال في الشمس) – المخدوعون إخراج توفيق صالح- و( السكين) المأخوذ عن رواية ما تبقى لكم، والذي أخرجه خالد حمادة – إذا لم تخني الذاكرة- وهما فيلمان متميزان..إضافة لفيلم عن حياته ومسيرته.
وبعد: غسان كنفاني سيعيش عمرا مديدا مع شعبه، وسينقش اسمه في شوارع كثيرة من مدن وبلدات فلسطين بعد تحريرها، ولذا : سيعيش أبدا..ما دامت فلسطين باقية عربية..وشعبها حيا، وهي قلب وطننا العربي الكبير.