دراسة في كتاب” شهادات على القرن الفلسطيني الأول” ل إلياس نصر الله. نشر : دار الفارابي. 2016 بقلم : فؤاد عبد النور

اصدارات ونقد
بقلم : فؤاد عبد النور – المانيا …
كتب مئير لتفاك:
” منذ أن انشغل الفلسطينيون في عملية بناء  وطنهم كأمةٍ  في السنة 1920, فإنهم لا يزالون في خضم الكفاح الوطني, وبالتالي فإن المؤرخين الفلسطينيين باللغة العربية – إن كانوا رسميين, أكاديميين, أو مؤرخين شعبيين – يمكن اعتبارهم كمؤرخي تعبئة. بكلمات أخرى فإنهم لا يزالون في مرحلة عدم الانتقاد, ويتجاهلون انعكاس الواقع على كفاحهم, بحيث لا تُـقبل  ولا تُعرض سوى ما يناسب قواعد الهدف الوطني المقرر. ”
———-

إلياس نصر الله، الصحفي من شفا عمرو، خالف هذه القاعدة، وأثبت أنه مؤرخ توخّى الحقيقة، ولم يجامل أحدأً – لا الحاج أمين، ولا الصهيونية، ولامنظمة التحرير الفلسطيني بقيادة ياسر عرفات، ولا كهنة الكنيسة الأرثوذكسية التي من المفروض أن يكون من أتباعها.
نشر هذا المجلد المكثف – 700 صفحة –  بتفصيلات دقيقة، قد تكون متعبة للقارئ العادي غير المتخصص، ولكنها بالتأـكيد شهادة حية للدارس المتعمّق في ما أصاب الشعب الفلسطيني من كوارث، تتحمل قيادته الجاهلة والأنانية القسم الأعظم من المسؤولية عنها.
قدم للكتاب المؤرخ الفلسطيني البروفيسور قيس فرو، الرئيس السابق لقسم تاريخ الشرق الوسط في جامعة حيفا، وكتب: ” كلما أنهيت قراءة فصلٍ من فصول هذا الكتاب كانت قناعتي تزداد بأن إلياس نصر الله قدم عرضاً يمتزج قيه الماضي بالحاضر والمستقبل، مكوناً زمناً فلسطينياً واحداً.. فبالتذكّر المتيقّظ صوّر إلياس جوانب من ماضي فلسطينيي الداخل والشتات، وبالانتباه ألقى الضوء على مأساتهم المستمرة، وبالتوقع استشف مستقبلاً فلسطينياً محفوفاً بالمخاطر”.
———————
يتناول الكتاب  في البداية أحوال الفلسطينيين في أواخر الحكم العثماني، حسب شهادات من عاشوا في تلك الفترة، ويذكر بالكثير من التفاصيل مثل  تهرب الشباب من الجندية، والمعاناة التي كان أهلهم يزودونهم بالطعام وحاجاتهم الأخرى في مخبأهم. ويتناول باختصار احتلال الجيش البريطاني لفلسطين، وباختصار آخر ثورة الفلسطينيين 36 – 3، على الأرجح لأن لا أحد من عائلته قد شارك فيها.
ذكر عن احتلال شفاعمرو من القوات الصهيونية، ولم يتعمق في من ساعدهم على  احتلالها – القسم المتعاون مع الصهيونية من الدروز – وتناول معركة هوشة والكساير، ودور شكيب وهاب في تلك المعركة ، في شكل سطحي دون البحث في تفاصيل هجر الوهاب  للقضية الفلسطينية عندما أقنعه الجانب المتعاون من الدروز بأنه لا خطر عليهم من الدولة الصهيونية القادمة، فلم يهتم بقطف ثمار انتصاره الأول في تلك المعركة. وأُولمت للوهاب  مأدبة فاخرة عند الصهاينة، كان على رأس المضيفين فيها موشي دايان، رغم أن أخاه قد قتل قبل أيام في تلك المعركة نفسها. أَعتبر هذا نقصاً فاضحاً في الكتاب، برز من خلال تجنّبه لكل ما يتعلق بالدروز في تلك الأيام المأساوية، رغم أن الدروز كانوا يشكلون ولا يزالون قسماً كبيراً من سكان شفاعمرو.
يفتقد الكتاب التبويب، فتتداخل المواضيع العامة مع قصص العائلة، ويسرد تفاصيل فرز الصالح من الطالح للبقاء في شفاعمرو، حسب قرار رجل ” كيس الخيش “، ويؤكد إلياس أن ذلك المتعاون المخفية شخصيته في كيس الخيش، كان يفرز أناساً  للطرد من البلاد لم يكن لهم دوراً في المقاومة بالمرة. ويسرد تفاصيل رميهم على الحدود، حيث القوات العراقية والأردنية متمركزة في جنين وضواحيها. ويسرد بتفاصيل دقيقة عمليات التسلل من أماكن الهجرة في جنوب لبنان، وتفاصيل عن القتلى الذين كانت القوات اللصهيونية تقتلهم، لإقناع المهاجرين أن طردهم طردٌ أبدي. يذكر البطاقات الزرقاء التي تمنح للفلسطيني الذي وجد في قريته وبيته وقت الإحصاء،  والحمراء المتسلل الذي حصل على حق الإقامة نتيجة الوساطات المختلفة من متعاونين، وشخصيات متمكنة لم يستطع الحكام العسكريين رفض توسلاتهم. ولكن حامل البطاقة الحمرا يفقد حقوقه بأملاكه، إن كانت ارضاً زراعية، أو بيتاً للسكن، حسب قانون ” حاضر – غائب “.
( أذكر بشكل واضح استخدام رجل الخيش في نابلس أياماً بعد احتلال الضفة الغربية من قبل الجيش الإسرائيلي ).
——————
يتعرض إلياس للحاج أمين الحسيني، ويذكر تفاصيل عن تعيينه مفتياً عاما للقدس من قبل المندوب السامي البريطاني، في إجراء غير ديموقراطي، وفي تجاوز لمن هم أقدر منه علماً وفهماً.
يذكر بشكل مختصر عملية تثبيت الحاج أمين نفسه كقوة وحيدة في فلسطين، عن طريق الاغتيالات لكل من يمكن أن يشكل زعامة تتحداه، وبركوب موجة التطرف المسنود بالعقيدة الإسلامية، ويؤكد أن ذلك لم يكن سوى تحضيراً  لطموحه في تبوء منصب ملك على الشعب الفلسطيني. ويقول بالحرف الواحد:
” اجتهد الباحثون الفلسطينيون وغيرهم كثيراً في تفسير ذلك العداء الذي أظهره الحاج أمين الحسيني تجاه الأحزاب السياسية  الفلسطينية، وتبين لاحقاً أن سببه كان الرغبة الشديدة التي يبدو أنها قد سيطرت على الحاج أمين لكي يحول فلسطين إلى مملكة كبقية الممالك في الدول العربية، ويصبح ملكاً عليها. ففي عام 2012 ، وأثناء البحث الذي أجراه ابني تامر لنيل درجة الماجستير في التاريخ حول الحاج أمين الحسيني عثر في الأرشيف البريطاني على ملفٍ يوثق رغبة الحاج أمين الحسيني بأن يصبح ملكاً، فاطلعت عليه وكأنني أحل لغزاً اجتهد الباحثون في تفسيره. حيث ظهرت هذه الرغبة جلية في وثائف الملف الذي يعود تاريخه إلى عام 1939، ورقمه ( 2084 \ 2 كِيه  في) ويحمل اسم ” المفتي والعرش “. فهذه الرغبة ظلت غائبة عن المؤرحين والمحللين السياسيين الذين كتبوا عن الحاج أمين الحسيني وتاريخ القضية الفلسطينية، ولها دلالات سياسية وتاريخية مهمة، وتفسر لماذا تصرف الحاج أمين  بتلك الطريقة “. ( صفحة 658 ).
نشأت هذه الرغبة لدى الحاج أمين الحسيني نتيجة تعيينه في منصب مفتي القدس من قبل المندوب السامي البريطاني هربرت صمويل، بالإضافة إلى ظروف أخرى كان يمر بها العالمان العربي والإسلامي دفعته للتفكير في هذا الاتجاه. فرغم أنها كانت أول مرة في تاريخ فلسطين يقوم حاكمٌ  غير مسلمٍ  بتعيين مفتي القدس وفلسطين، إلا أن هذا التعيين كان لأول  مرة لمدى الحياة، وفقاً لنص التعيين الشبيه بتنصيب الملوك والسلاطين. فعلى مر العقود جرت العادة أن يقوم خليفة المسلمين بتعيين مفتي القدس الذي يعتبر من أرفع المناصب الدينية لدى المسلمين، نظراً لمكانة القدس أولى القبلتين  وثاني المسجدين وثالث الحرمين بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة. ومارس السلاطين العثمانيون دور مفتي القدس على مدى القرون الربعة لاحتلالهم لفلسطين، واحتلال بريطانيا لفلسطين إدى إلى انتقال سلطة تعيين المفتي إلى السلطات البريطانية.
“….فرغبة الحاج أمين الحسيني لكي يصبح ملكاً ربما كانت السبب وراء الكثير من تصرفاته محلياً ودولياً، ودفعته لاتخاذ موقفٍ معادٍ  لتشكيل أحزابٍ سياسية وتأسيس نقابات مهنية، لأن ذلك يعني إنشاء نظام حكمٍ برلمالني في فلسطين يعتمد على التعددية السياسية، ويمهد لحكومة منتخبة، وبالتالي يغلق الباب أمام إمكانية تحويلها إلى مملكة. بناءً على ذلك عارض الحاج أمين الأحزاب بشدة واتهمها بالعمالة لبريطانيا، وهو الذي عفت بريطانيا عنه  عام 1921، وعينته مفتياً للقدس. بل أن رغبة الحاج أمين أن يصبح ملكاً تفسر مواصلة رفضه وأتباعه تشكيل حزبٍ سياسي خاصٍ بهم، إلى أن اضطر في 25 \ مارس \ 1935  إلى الموافقة على أن يشكل جمال الحسيني، اليد اليمنى للحاج أمين، الحزب العربي الفلسطيني، والذي انتخب جمال الحسيني رئيساً له. ورغم تشكيل هذا الحزب واصل الحاج أمين الاستئثار بالقرار السياسي لهذا الحزب, والجماعة التي أيدته. ولا توجد لدى المؤرخين اية إشارة إلى أن قرارات الحزب العربي كانت تتخذ بشكلٍ ديمقراطي وبالتشاور داخل مؤسسات الحزب، أو إلى أن الحاج أمين ورئيس الحزب جمال الحسيني كانا يرجعان إلى كوادر الحزب في اتخاذ المواقف أو القرارات على الساحتين الداخلية والخارجية، ومن ضمنها قرار الحاج باللجوء الاضطراري إلى ألمانيا ومقابلة هتلر. فالقرار كان فردياً، لا علاقة له بالشعب العربي الفلسطيني أو حتى الحزب العربي الفلسطيني. ( يثبت رشيد الحاج إبراهيم رجل الحاج أمين في حيفا قبل سقوطها في مذكراته، ويذكر بالتفصيل كيف وافق الحاج أمين على قبول التعديلات التي ألح عليها رئيس الوزراء المصري في العام 1939 للكتاب الأبيض، رغم أنه  قبلها وباركها عندما وافق عليها رجاله  بالإجماع في القاهرة. ولكن، ويا للأسف، لم يجرؤ رشيد الحاج إبراهيم على نشر مذكراته وهو لاجئٌ في عمان، وسمحت ابنته بنشرها بعد خمسين عامٍ. وهذه قصة مأساوية سنبحثها في مقالٍ قادم.)
ليس بمقدوري التأكد من طموحات الحاج أمين هذه. ولكن  بالتأكيد  أقول إلياس هذه ستلفت  نظر الدارسين، وأتوقع أن يثار جدل حولها بين مؤيد، ومعارض، وأن يسعى أحدهم للتأكد من هذه الوثائق بنفسه، ومن هو الشخص أو الأشخاص الذين كتبوها، وإذا كان بالإمكان الاعتماد على تقريرهم  هذا.
وبالمناسبة، ذكرت  ” ليلى بارسونز” في كتابها الصادر السنة الماضية عن القاوقجي، إصدار دار الساقي اللندنية،  أن النازيين كانوا يسعون لإحياء الخلافة، وأن الاجد أمين هو  المرشح الأقوى لتولي المنصب فيما لو  انتصروا في الحرب العالمية الثانية!