دراسات ….
بقلم : د. تيسير الناشف – نيويورك …
القهر الحكومي واختيار موضوع البحث
يفضي جو القهر الحكومي في شتى بقاع العالم إلى التأثير السلبي في جوانب مختلفة من القيام بالبحث العلمي. وأحد هذه الجوانب اختيار موضوع البحث. توجد مواضيع ذات صلة أوثق بقضايا السياسة والحكم والسلطة ومواصلة توجيه دفة الحكم ومواصلة تولي السلطة. وهي مواضيع لنتائج واستنتاجات البحوث صلة أكبر بها. ولعل المتولين للسلطة الحكومية غير معنيين، بسبب حرصهم على مواصلة وتعزيز سلطتهم، بإجراء بحوث قد تتوصل الى استنتاجات وحقائق تؤدي الى إضعاف مركزهم. ولذلك، خوفا من إغضاب المتولين للسلطة الحكومية والسلطة غير الحكومية ومن استيائهم ونقمتهم في كثير من البلدان، ينصرف كثير من الباحثين عن إجراء البحوث في المواضيع التي لها ولنتائجها ولاستنتاجاتها صلة كبيرة بقضايا تولي السلطة.
القهر الحكومي ولهجة الإستنتاجات
ولهجة استنتاجات البحث العلمي جانب آخر من الجوانب التي يؤثر فيها جو القهر الحكومي تأثيرا سلبيا كبيرا. على الرغم من أن للبحوث العلمية هدف التوصل الى الاستنتاجات فإن هذه الاستنتاجات يختلف بعضها عن بعض من حيث قوة أو خفة لهجتها. يمكن وضع الاستنتاجات لنفس البحث بصيغة قوية اللهجة أو خفيفة اللهجة. وعن طريق اللجوء إلى استعمال اللهجة المخفّفة أو اللهجة المشدّدة للإستنتاجات يمكن للباحث أن يأخذ في الحسبان اعتبارات مختلفة منها – في المقام الأول – اعتبار توقعه لموقف المتولين للسلطة الحكومية وغير الحكومية حيال تلك الإستنتاجات. حتى تُحقق الفائدة الكبرى من البحث ينبغي أن تكون الاستنتاجات على أكبر قدر ممكن من الإيضاح. ولكن اتقاء للاستياء المتوقع أو المتصور من جانب أصحاب السلطة يميل الباحث ميلا أكبر أحيانا كثيرة – في الجو التسلطي القمعي – إلى تخفيف لهجة الاستنتاج، مما يمس بالفائدة المنشودة من إجراء البحث.
العامل الحكومي وعدم الإستفادة من تخصص العلماء
ومعرفة العلوم – التي يمكن أن تكون وسيلة للحفاظ على الأمن القومي ولتعزيز التماسك الإجتماعي – تزداد في هذه الأيام تطورا وتخصصا في مختلف المجالات. وفي بعض المجالات لا يستطيع أن يقرر مدى الفائدة من علم من العلوم المتزايدة التعقد والتطور والتخصص سوى المتخصصين فيها. ومن شأن لجم أصحاب السلطة الحكومية للسان العالِم عن التناول الموضوعي أو الجاد لموضوع من المواضيع أن يحرم المجتمع المعني من الإستفادة من أبحاث ذلك المتخصص وآرائه واستنتاجاته.
المناخ السياسي والفكر النقدي
ويخضع الفكر النقدي لمختلف أشكال القيود. وتقوم أسباب تاريخية واجتماعية ونفسية لعدم إعمال الفكر النقدي أو للاهتمام الأقل به. يمكن لأجهزة الراديو والتلفزيون والحاسوب في المنازل والمقاهي في المدن والقرى أن تؤدي دورا هاما في نقل وإشاعة الفكر النقدي في البلدان النامية والمتقدمة النمو. وعلى الرغم من أن هذه الوسائط تؤدي فعلا دورا معينا في ذلك النقل والإشاعة تقوم عوامل تقيد تقييدا شديدا تلك الوسائط في أدائها لذلك الدور. ومن هذه العوامل أن القائمين على إدارة البرامج لا يولون، بتوجيه حكومي، الاهتمام الكافي للبرامج العلمية والفكرية والنقدية في مجالات حساسة بالنسبة إلى الهيئات الحكومية.
ورجل السلطة يتمتع، بحكم سلطته وقوة نفوذه، بقدر أكبر من حرية التعبير عن الرأي. وإذا كان رجل السلطة مثقفا ومفكرا وأراد إعمال التفكير في مسائل مختلفة فيحتمل احتنمالا كبيرا أن يكون هذا التفكير متأثرا تأثرا أكبر، بحكم ميوله السياسية، باعتبارات تولي السلطة التي لا تتفق بالضرورة مع مقتضيات التفكير النقدي الحر.
مصلحة اصحاب السلطة تهميش دور المثقفين
وبالنظر إلى أن نواحي مختلفة في حياة الشعوب، ومنها الشعوب العربية، بما في ذلك الحياة السياسية، لا تزال تتسم بالمحافظة ولا تزال التقاليد مسيطرة عليها، وبالنظر إلى أن المجتمعات الذكورية الأبوية غير الحديثة وغير الديمقراطية تشكل المرتع المناسب لبقاء اصحاب المصالح في مواقع السلطة، وبالنظر إلى إن الفكر النقدي المستقل الموضوعي لا بد من أن يستهدف تغيير هذه الحالة أو تعديلها فإن من الطبيعي أن يناهض أصحاب هذه المصالح استقلال الفكر واستقلال النقد الفكري وأن يعملوا على تهميش وإزالة دور المثقفين الناقدين المستقلين في المجتمع.
بسبب خوف المفكر من غائلة السلطة يقيد المفكر انطلاق فكره
وكما أسفنا فإن النظم السياسية غير الديمقراطية لا تحتمل ممارسة حرية التعبير عن الرأي الذي لا يتفق مع مصالح تلك النظم في مواصلة تولي السلطة السياسية الرسمية. ولا تتردد هذه النظم في لجم لسان المفكر الحر الناقد وفي تحطيم قلمه وفي سجنه وحتى الفتك فيه. وبسبب هذه المشكلة لا ينقل الفكر ناهيكم عن الفكر النقدي الذي قد يجول في خواطر الناس إلى الساحة العامة إذا كان ذلك الفكر معارضا أو غير مؤيد لسياسة السلطة الحكومية. وقد ينكمش الميل لدى المفكر الناقد إلى الإبداع الفكري، أو قد يرى هذا المفكر، اتقاء لغائلة المتولين للسلطة، تقييد انطلاقه الفكري النقدي أو قد يرى أن ينتقي، في تناوله الفكري النقدي، بعض المواضيع التي لا يرى هو أن من المحتمل أن تناوله هذا من شأنه أن يوجد مواجهة وصراعا بينه وبين أصحاب تلك السلطة، أو قد يرى تخفيف حدة لهجة الانتقاد في المواضيع والمواضع التي تجدر ممارسة الفكر النقدي فيها.