الفيلم السويدي: “حمامة جلست فوق غصن تتأمل الوجود”: بقلم : مهند النابلسي

دراسات ….
بقلم : مهند النابلسي – الاردن ….
متاهة انسانية وجودية وسخرية فلسفية وكوميديا سوداء تشويقية!
سيريالية وجودية أعجبت النقاد، ولم تنل اعجاب الجمهور، كوميديا سوداء صادمة، تتناول مواضيع الحب والتقدم بالسن والديون المالية وخيبات  الحياة والوحدة…تتناول “ثيمة” الفيلم “الوجود الانساني” بالكثير من الحرفية العالية،  تحفل بالفكاهة السوداء “الحلمية”، ترتبط بتجارب البائعين المتجولين الفاشلين ” سام وجوناثان”، حيث يأخذانا بجولة غريبة فنتازية وحقيقية  في آن واحد، لنكشف النقاب عن الحلقات العبثية لمصائر البشر: كغناء بقاعة مطعم بأربعينات القرن الفائت وتقديم “القبلة” للساقية الجميلة بدلا من دفع ثمن المشروب، وتجربة معلمة “الفلامنكو” التي تتحرش بتلميذها الوسيم، وقصة الملك السويدي “شارلز الثاني عشر” الذاهب للمعركة، كما لم ينسى المخرج الفذ “روي اندرسون” استعارة ذكريات المجازر والمحارق البشعة للاستعمار الاوروبي لأفريقيا، وركز على اظهار التجارب العلمية على قردة مقيدة بائسة “معذبة” تذكرنا “بالقردة “لوسي” بالفيلم الأمريكي الشهير (من اخراج الفرنسي لوك بيسون) والتي تم اكتشاف رفاتها بحفريات شرق افريقيا” والتي يعتقد أنها أصل الانسان القديم!…انها رحلة تكشف النقاب عن جماليات اللحظات الآنية للوجود الانساني “المؤقت”، كما تسلط الأضواء على الدور المهمل “لصغائر الامور” بالوجود البشري، ولا تغفل تذكيرنا بعظمة الحياة، مغلفة كل ذلك بروح الدعابة التلقائي والتراجيديا اللافتة…
تروي لنا الأحداث الرئيسية بهذه التحفة السينمائية تفاصيل سفر رجلي المبيعات سام (الممثل نيلسن ويست بلوم) وجوناثان (هولجر اندرسون)، اللذان يعملان بمجال أعمال ومنتجات الترفيه،  ويسوقان أشياء غريبة كأنياب مصاصي الدماء المصنعة والأقنعة البلاستيكية المخيفة وأكياس “القهقهة” بحجة رغبتهما بمساعدة الناس واضحاكهم، وحيث تتراكم ديونهما “المستحقة” القديمة من متاجر مختلفة ببلدة “غوتنبيرغ”، ثم نرى تهرب المديونين منهم لفشلهم ببيع هذه المنتجات الغريبة …ويتحدثان بالليالي بغرفتهما عن خيباتهما المختلفة بالحياة، ويتشاحنان لاختلاف طريقة تفكيرهما، ثم لا يلبثا أن يتصالحان.
يبدأ هذا الفيلم الغريب بثلاثة مشاهد للموت: الأول يتعلق بسقوط الزوج ميتا فيما كان يحاول فتح قنينة نبيذ فيما نرى الزوجة على بعد أقدام منه بالمطبخ تعد العشاء بلامبالاة، والمشهد الثاني يتعلق بامرأة عجوز على فراش الموت، ترفض التخلي طوعا عن “شنطة مجوهراتها”، معتقدة باصرار أنها ستأخذها معها للسماء بعد الموت بينما يصر أبناءها على سحب الشنطة منه لأنها تحتوي على ساعة ذهبية ثمينة للأب الراحل، والمشهد الثالث يتعلق بزبون كافتيريا متوسط العمر، يسقط ميتا بعد الانتهاء من حساب تكاليف وجبته، ولا يوجد أحد مستعد لكي يستفيد من وجبته المدفوعة الاعجوز يأخذ “البيرا” فقط!
وهناك مشهدان آخران يشدان الانتباه، حيث تضع معلمة رقص بدينة محترفة (لوسي- تورنروس)  يدها على جسم تلميذها الوسيم المتدرب اوسكار (سالومونسون) متحرشة به بوقاحة سافرة، فيما تحاول تعليمه اتقان الحركات، ثم لقطة لبنت صغيرة موهوبة تظهر على المسرح بمدرسة وتصف للحضور ومعلمها شعرا كتبته عن “الحمامة” بدلا من القاؤه… أما المشهد الثالث اللافت هنا فيتعلق بالملك شارلز السابع (الممثل فيكتور جالينبرغ) وحادثة سقوطه  عن ظهر فرسه، كما يقوم جنوده “المهزومين” باضطهاد ورفس عاملة البار الشابة وجلد عامل آخر، بينما يتناول الملك المياه المعدنية ويتحرش بعامل البار بعد عودته مهزوما من حملته العسكرية!
يتماثل هذا الفيلم الثالث للمخرج السويدي مع نمط أفلام الفنلندي “آكي كوريسماكي” اللي تناقش عبثية الوجود الانساني، وتتضمن مناظر خلابة وشخصيات “مثيرة للدهشة” وأحداثا غريبة، ويحتوي على “وجبة دسمة” من الاثارة والارباك والاستفزاز والطرافة، وهو يستحق بجدارة “جائزة الأسد” الذهبية بمهرجان كان لعام 2014.
معظم لقطات الفيلم مصورة بكاميرا ثابتة، وتتوالى المشاهد اللافتة المجازية، كمشهد الام التي تجلس بمحاذاة سياج في حديقة عامة وهي تلعب مع طفلتها الرضيعة، ثم المشهد البالغ الدلالة لجنود بريطانيين  استعماريين،  يقودون مجموعة بائسة من العبيد السود لداخل اسطوانة معدنية ضخمة مزروع على محيط سطحها “أبواق”، ثم يغلقون الباب الفولاذي باحكام، ويشعلون النار تحتهم ليتم شواءهم ببطء وتنطلق الصرخات وأهات العذاب كالموسيقى الصاخبة عبر الأبواق، بينما نرى حشدا من العجائز البريطانيين البيض وهم يحتسون النبيذ بهدؤ ويستمتعون بفضول وسادية بمشاهدة المنظر المرعب وكأنه فيلم سينمائي وثائقي…ويختتم الشريط بلقطة تعبر عن جماليات اللحظة الراهنة وأثر مرور الأيام على وعينا البشري، حيث نرى فيها أربعة أشخاص على الرصيف بمحاذاة محل حلاقة، حيث ينظر احدهم للأعلى ونسمع هديل حمامة، ثم يتساءل مستفسرا ومؤكدا أنه يوم “الخميس” ويجيبونه بأنه “الأربعاء”، ولكنه يصر قائلا  ولكنه يبدو وكأنه يوم “الخميس”!
المخرج أندرسون لا يبدو مهتما بتفسير فيلمه وتقديم اجابات لكل هذه المشاهد المتلاحقة المجازية، ويستكمل بهذه التحفة السينمائية ثلاثيته بعد فيلميه اللافتين: “اغنية من الطابق الثاني والحياة”، ويتحفنا هنا بهذا الزخم المشهدي الشيق بالحافل بالدلالات المجازية، ربما ليدفعنا للتساؤل عن موقعنا في هذا العالم, وربما لمعاينة وجودنا البشري ولقياس “ضميرنا” الانساني ولاضحاكنا وتسليتنا “ابداعيا” من منطلق “شر البلية ما يضحك”!
مهند النابلسي
Mmman98@hotmail.com