حالةٌ اقترانيّةٌ ما بينَ الرّجُلِ والخطأ – بقلم : آمال عواد رضوان

فن وثقافة …..
آمال عوّاد رضوان – فلسطين المحتلة ….
أقامَ نادي حيفا الثقافيّ والمجلسُ المِلّيُّ الوطنيُّ الأرثوذكسيُّ/ حيفا، واتّحادُ لكرمل للأدباء الفلسطينيّين، أمسيةً أدبيّة في قاعة كنيسة مار يوحنا الأرثوذكسيّة في حيفا، بتاريخ 16-1-2016، ووسط حضورٍ من الأدباء والقرّاء، احتفاءً بتوقيع المجموعةِ القصصيّة “الرّجُلُ الخطأ” للكاتبة حوّا بطواش، وقد أدارت الأمسية الكاتبة عدلة شدّاد خشيبون، وشاركَ بمداخلاتٍ حولَ الكتاب كلٌّ مِن: د. محمّد حمَد/ منظومة الفجوات في قصّة المقهى، وشادية حامد، ونعمان عبدالقادر/ صورة الرّجُل في قصّتيْ “الرجل الخطأ” و”أحلام كبيرة”، ولمياء أسدي، وفي نهايةِ اللقاء شكرت الكاتبة حوا بطواش الحضورَ والمُنظّمينَ والمُتحدّثين، وتمّ التقاطُ الصّور التذكاريّةِ أثناءَ توقيع الكتاب.
مداخلة عدلة شداد خشيبون: بدايةً أُحيّي المحامي الأستاذ فؤاد نقّارة وعملَهُ الدّؤوبَ في هذا المجال، فلولاهُ لما كنّا هنا، فباقة شكرٍ لك ولسوزانك الغالية فراشة النّادي، مُكللّة بأعذب الأمنيات بالصّحة والسّعادة ودوام العطاء، ودمتما ذخرًا للأدب وللكلمة الطّيّبة وعنوانًا آخر للعطاء. يطيبُ لي في هذا المساء البارد جوًّا الدافئ قلبًا أن نجتمعَ، مِن أجل الكلمةِ والمعنى وما وراء معنى “الرّجل الخطأ” بطل أمسيتنا هذه اللّيلة، وعروس ندوتنا الكاتبة حوّا بطواش.
حوّا الفلسطينيّة شركسيّة الأصل، وُلدتْ في قرية كفر كما في الجليل الأسفل. تعلّمت الابتدائية في قريتِها، وأنهت الثّانويّة في مدرسةِ المطران في النّاصرة. حاصلة على لقب أوّل من جامعة حيفا في موضوعَيْ علم الاجتماع والتّربية. اللغة العربيّة تأتي كدرجةٍ ثالثةٍ في البيت بعد الشّركسيّة والعبريّة. بدأتْ تنشرُ قصصَها القصيرة في صحيفةِ “كلّ العرب” ومواقع إلكترونيّة أخرى. في جعبتِها العديدُ مِن قصصٍ تنتظرُ النّشر. “الرّجل الخطأ” مجموعةٌ قصصيّةٌ حلّقتْ بها إلى فضاءاتِ الفكر، وأخذتنا معها إلى قاع البحر، وتركتنا هناكَ نعومُ، ولا مللّ يأخذنا ولا ثِقلُ كلام. الإهداءُ كانَ مقتضبًا جدّا، لكنّه مُفعمٌ بالحنين والحبّ وعشق اللّغة فتقول: إلى روح جدّي الذي ما زال حيًّا في قلبي.
ما أروعَ وأعمقَ كلمة جدّي، وتداعياتُها جمّةٌ في قلب حوّا فتقول: لجدّي فضلٌ كبيرٌ على مطالعتي، فكنتُ أذهبُ إليه وأستعيرُ الكتب لأقرأها. كانَ إنسانًا يُشعُّ مِن نفسِهِ الطيّبةِ، مُفعَمًا بالرّقّة، مَسكونًا بالرّضا والسّلام الدّاخليّ، وكانَ لهُ وجهٌ بشوشٌ، مُشرقٌ بابتسامةٍ يَرتاحُ لها الوجدانُ، وكانتْ مكتبتُهُ جامعةً وشاملة. ما وراءَ الرّجُلِ الخطأ قد تكونُ مُفارقةٌ في عنوان هذهِ القصّة بالذّات، وقد تكونُ مقارنةٌ، وقد تكونُ جريمةٌ نحصدُ مِن عواقبها دوْمًا الكثيرَ، فهذهِ اللّيلةَ سنلبسُ معًا قبّعةَ الفخرِ والاعتزازِ لكاتبةٍ مغايرةٍ، تكتبُ عنّي وعنكَ وعنهم، تختصرُ كلَّ الضّمائرِ لنتوهَ معَها في خِضمّ الحكايات. وهل الخطأ هو مِن الأخطاءِ الّتي يُمكنُ أنْ نُصلحَها؟ هذا ما سنسمعُهُ مِن المداخلات.
مداخلة د. محمد حمد/ منظومةُ الفجواتِ في قصّةِ المَقهى: عندما ننتهي مِن قراءةِ نصٍّ، تبقى هناكَ فجواتٌ ناقصةٌ مثلَ النّهايةِ المفتوحةِ أو التّناصِ أو الرّمز، سنُشيرُ إلى بعضها في هذه المداخلة. عنوانُ الكتابِ لا شكّ أنّهُ يُشيرُ إلى مضمونٍ نسَويٍّ، وقد يتساءلُ الرّجالُ: ما هذهِ الحالةُ الاقترانيّةُ بينَ الرّجل وبين الخطأ، وبالتالي، لمجرّد أن يتساءلَ الرّجلُ هذا التّساؤلَ، لا بدّ أنّ هذهِ فجوةٌ بحدّ ذاتِها، خاصّةً وأنّ العنوانَ يُغيّبُ الجملة، أي لا يوجدُ هناكَ مبنى جُملةٍ ولا فِعل، والرّجُلُ المُعرَّفُ كأنّهُ حاضرٌ في وعي الكاتبة، على اعتبار أنّ مفهومَ العنونةِ هو مفهومٌ نقديٌّ للعمل الأدبيّ، أي أنّ الكاتبَ يكتبُ نصوصَهُ، وبعدَ أن ينتهي مِن كتابةِ النّصوص، يضعُ العناوينَ ويختارُ عنوانَ المَجموعة، عمليًّا، هو لا يمارسُ سُلطة الكاتب، بل يُمارسُ سُلطة الناقد. ولذلك، فإنّ اختيارَ العناوينِ هو عمليّةٌ بوعيٍ، وعبارةً عن تسميةٍ بوعي.
سنشيرُ غلى هذا الموضوع عبْرَ قصّة “المقهى”، عندما نشيرُ إلى الرّجل الخطأ، وهذا الموقفُ عمليًّا من الخطأ يقودُ أيضًا إلى الوظيفةِ الإغرائيّةِ الإيحائيّةِ في العنوان. أعتبرُ أنّ العنوانَ تأويليٌّ في هذهِ الحالة، ويُشيرُ إلى أنّ الكاتبَ لهُ موقفٌ مِن الرّجلِ في هذه الحالة.
قد نتساءلُ: عندما نقرأ عن “الرجل الخطأ”، هل نتحدّثُ عن منظورِ الكاتبةِ أم عن منظورِ الرّاوية؟ والرّاويةُ ليسَ بالضّرورةِ أن تكونَ الكاتبة. وفي قصّةِ “المقهى” نجدُ أنّ الصّوتَ، على الأقلّ في النّصفِ الثاني مِن القصّة، بالضّرورةِ هو ليسَ صوتَ الكاتبة، وإنّما صوتٌ آخر. هل هوَ صوتُ رَجل، ويَستحيلُ أن يَكونَ في هذه الحالةِ هذا التّماهي؟ أم هو صوتُ الشّخصيّةِ التي تُقيِّمُ هذا العنوانَ وتُشير إليهِ، وبالتالي، هناكَ إمكانيّاتٌ مختلفة؟ ما هو المنظورُ الذي يَقفُ وراءَ هذهِ المَقولة، وبالتالي فهي فجوة، وما دُمنا نسألُ فهيَ فجوة.
عندما نتحدّثُ عن قصّةِ “المقهى”، فالمقهى كما نعرفُ هو فضاءٌ عامّ، ويَذهبُ النّاسُ إلى المقاهي مِن أجل الالتقاءِ بأصدقائِهم والحديثِ معهم. المقهى له دلالةٌ تواصليّة.
حِبكةُ القصّةِ تَدورُ أنّ الرّاوية تدخلُ، وهناكَ في داخلِ المقهى تَنظرُ إلى شابّ يلبسُ بدلةً رياضيّة، وله عينان رماديّتان. تستغربُ وتتمعّنُ في هذه الشّخصيّةِ التي قد تُذكّرُها بأحدٍ ما، وبعدَ قليلٍ يَحضرُ رجلٌ في الخمسين مِن عمرِهِ، يُشبهُ إلى حدٍّ كبيرٍ هذا الشابّ، يلبسُ أيضًا بدلةً رياضيّة ولهُ عينانِ رماديّتان. وتتذكّرُ أنّ هذا الرّجلَ كانَ مَحطّ آمالِها، عندما كانتْ في السّابعةِ عشرة مِن عمرِها، فكانَ ابنُ الحارةِ، وكانتْ دائمًا تنظرُ إليهِ وتحتارُ في نظراتِهِ. يبدو أنّها كانتْ تُحبّهُ، ولكن لم تتحدّث، وتُغادرُ المَقهى، وينتهي هذا الصّوتُ؛ صوتُ الرّاوية الذي كانَ يتحدّثُ عن هذه الأحداث.
في المقطع الثاني يتحدّثُ الرّجلُ، بأنّ تلكَ المرأةَ الّتي كانتْ تجلسُ في المقهى، في الزاوية اليُسرى البعيدة، تُشبهُ الفتاةَ التي كانَ يُحبُّها ودائمًا يُفكّرُ بها، ويُحاولُ أنْ يُوصِلَ رسالةً مُعيّنةً إليها، وبالتالي، فهو يَسألُ النّادلَ عنها، فيقول لهُ إنّها تأتي إلى المقهى أحيانًا، وتجلسُ في هذهِ الزّاوية، فيَجلسُ في الزاويةِ اليمنى مِن المقهى وينتظرُ، ولا تأتي، لكنّه يتحدّثُ عن علاقةٍ كانتْ مع فرنسيّةٍ اسمُها إميلي، وهو الاسمُ الوحيدُ المَذكور. يتحدّثُ أنّها أنجبتْ لهُ هذا الشابَّ وانفصلَ عنها، فهو الآن مُطلّق ودونَ ارتباطٍ بإمرأةٍ أخرى، وكم تمنّى لو كان هناكَ بديلٌ لهذهِ المرأة. وعندما يَخرجُ، يلتقي مع الراويةِ الحبيبةِ الأولى، ويَنظرُ إليها وتنظرُ إليه، ويَسيرُ كلٌّ منهما في طريقِهِ دونَ أنْ يَتكلّم. سأقرأ بعضَ مَقاطع تُجسِّدُ بعضَ المفاهيم ص69:
تتحدّثُ عن الشّابّ وتسألُ: أينَ رأيتُ هاتيْنِ العينيْنِ الرّماديّتيْنِ السّاحرتيْن؟. المقطعُ الكاملُ مِن القصّة: (شعرتُ وأنا أتتبّعُ حرَكاتِهِ بفضولٍ، بأنّني رأيتُهُ في مكانٍ ما، في زمانٍ ما، قبلَ هذا اليوم. صوّبتُ نحوَهُ نظرةً طويلة. أينَ رأيتُ هاتيْنِ العينينِ الرّماديّتيْنِ السّاحرتيْن؟ لكنّ الشّابّ صغيرٌ، ويبدو أنّهُ ما يَزالُ في العشرينَ ربيعًا، فكيف لي أنْ أراهُ في مكانٍ ما، في زمانٍ ما، أنا المرأةُ الخمَسينيّة، العانسُ الجبانة التي لم تبادر يوما رجلا بالكلام؟)
وعن الوالد: أكادُ لا أصدّقُ أنّهُ هو. عيناهُ الرّماديّتان ما تزالان تحتفظان ببريقِهما الخلّاب رغم مرور السنين. المقطع كاملا مِن القصّة: (اختلستُ النظرَ إليه، أكادُ لا أصدّق أنه هو. عيناهُ الرّماديّتان ما تزالان تحتفظان ببريقِهما الخلاب، رغمَ مرورِ السّنين، شعرُهُ الأسودُ المُتموّجُ باتَ مَشوبًا بالرّماديّ، جسمُهُ الطويلُ والقويُّ باتَ يَميلُ إلى الامتلاء.. وفجأة، التفتَ إليّ، لمَحَني، توقّفتْ نظرتُهُ عندي، نظرةٌ فضوليّة. أتراه يذكرُ؟ ابتسمتُ لنفسي: وماذا تريدين أن يَذكرَ؟ نظرة أم ابتسامة أم سلاما؟ أيّتها الجبانة الحمقاء! لم تتغيّري. ما زلتِ تعيشينَ في أوهامِكِ. لا بدّ أنّهُ كانَ مشغولا بنفسِهِ طوالَ هذه السّنوات، وها هو الآن مشغولٌ بوَلدِهِ. ترى، مَن تكونُ زوجتُه؟ أهي مِن هنا أم من بعيد؟)
ويتحدّثُ بصوتِهِ عن خلفيّةِ السّماء الخريفيّةِ التي غطّتها سحبٌ رماديّةٌ حائمة حيرى. (المقطعُ مِن القصّة: كان المقهى على ارتفاع مِن المدينة، يُطلُّ على شاطئ البحرِ الجميل، حيث الأمواجُ تكسّرتْ وتراجعتْ إلى الوراء خجلى، مُتناهية، على خلفيّةِ السّماءِ الخريفيّةِ التي غطّتها سُحبٌ رماديّة، حائمة، حيرى. جلستُ في الزاويةِ اليمنى البعيدة، وحيدًا، حائرًا، أنتظرُ.. علّها تأتي.)
ما دلالةُ الرّماديّ؟ لوحة الغلافِ الخارجيّ باللون الرّماديّ. بالصّدفةِ شاهدتُ الليلة فيلمًا سينمائيًّا عن روايةِ “الظلال الخمسون للرّمادي”، والرّماديّ في الفيلم هو أيضًا اسمُ شخص، وفي هذه الظلال الخمسين يعيشُ هذا الرّجلُ حالة مُعيّنة مع المرأة، يقومُ بتصميمِها بشكل مُعيّن. ما هذه الحالة بما نراه؟ حتى لو نظرنا إلى اللون الرّماديّ البارز، وإلى صورةِ الرّجل الذي يلبسُ الأسودَ ولا نرى وجهَه، ويَمشي في الجليدِ والثلوج والضباب، فهل هو مكسورٌ؟ ضائعٌ؟ مسكينٌ؟ يَسيرُ إلى غير هدى؟ لماذا لا نرى وجهَه؟ هل يخجلُ بوجهه؟ لو حاولنا الانتباهَ إلى الأدوارِ التي رُسمَت في هذه القصّة، نجدُ أنّ الرّجلَ على المستوى الأوّل قد نجح في العلاقة مع الرجل مع الابن، وقامَ بإمكانيّة نقل الصفاتِ الوراثيّةِ والخاصّةِ بهِ إلى ابنه، ويلبسُ بدلة رياضيّة، والابنُ مثله أيضًا يلبسُ بدلة رياضيّة، وعيناهُ رماديّتان،  ونشيط وحيويّ، وهناكَ نجاحٌ بالنسبة للعلاقةِ بين أعضاء المؤسّسةِ الذكورية، لكنّ الخللَ هو بينَهُ وبين إميلي، وبينهُ وبينَ الرّاوية التي كانتْ هي المحبوبة. كلاهما، لم ينجحا في إقامةِ علاقةٍ وتواصُل.
الأحداث تجري في المقهى، لكن نعودُ إلى الاسترجاع الفنّيّ ونسمعُ صوتَ الرّجُلِ باسترجاع فنّيّ، ونكتشفُ أنّ الفتاةَ هي الرّاوية التي سمّتْ نفسَها العانس، والتي يزيدُ عمرُها عن الخمسين. الأسماءُ غيرُ مذكورة، وهنالكَ ذكرٌ للأرقام، كتسميةِ المقاطع بأرقام، والتركيز على العمر يعني المفاهيمَ الكمّيّة، والمفاهيمُ الرياضيّة هي الواجهة  التي مِن خلالها تُحاولُ الشخصيّاتُ التعبيرَ عن المشاعرِ وأزمةِ نهايةِ العمر، وعن الأحاسيس. المفاهيمُ الكمّيّة هي نوعٌ مِن التعبير عن الحالةِ العبثيّةِ التي يعيشُها الإنسانُ في هذا العصر، بحيث إنّهُ مُجرّدُ رقمٍ ليسَ لهُ اسمٌ، فالأسماءُ هنا غيرُ حاضرةٍ، والاسمُ الحاضرُ هو فقط اسمٌ أجنبيٌّ بعيدٌ عنّا، لا يُوحي بشيءٍ، لكن يُشيرُ إلى الغربةِ والاغترابِ والإخفاق، عندما نُقيمُ علاقةً معَ طرفٍ لا ينتمي بصِلةٍ إلى هُويّتِنا وإلى أصالتِنا، فبالتالي سيكونُ هنالِكَ فشلٌ.
ما أهمّيّةُ هذينِ الصّوتيْنِ في القصّةِ؟ هنالِكَ نوعٌ مِنَ الرّواياتِ يُسمّى الرّوايةُ البوليفونيّةُ، وهي روايةٌ متعدّدةُ الأصوات، فمثلًا كتبَ مِن هذا النّوع: جبرا إبراهيم جبرا في رواية “السفينة”، ونجيب محفوظ في رواية “ميرامار”. ما الّذي يَحدُثُ في مِثل هذا النّوعِ مِنَ النّصّ؟ وما أهمّيّةُ هذا الشكلِ مِن أشكالِ السّرد؟
هذا شكلٌ مِن أشكالِ الحداثةِ، فالرّوايةُ التّجريبيّةُ حاولتْ أنْ تتخطّى المفهومَ التقليديّ، وحاولتْ كتابةَ روايةٍ تتبنّى ما يُسمّى التّجريبَ الفنّيّ على أشكالٍ مُختلفةٍ، ومِن هذهِ الأشكالِ روايةُ تعدُّدِ الأصواتِ، وفيها نتخيّلُ أنّنا نتحدّثُ عن حفلٍ، ونتخيّلُ أستاذًا ما يكتبُ انطباعاتِهِ عن هذا الحفل، وبعدَ ذلكَ يكتبُ هذا الأستاذُ وكلُّ واحدٍ مِن الحاضرينَ عن الحفل أيضًا، فهذا يَعني عمليًّا، أنّ الحفلَ هو واحدٌ، لكن كلُّ واحدٍ مِنَ السّاردينَ يَسردُ سرْدَهُ الخاصَّ بهِ، وهذا طبعًا جميلٌ، لكي نُحاولَ أنْ نستبطنَ داخلَ الشّخصيّاتِ، ونفهمَ الحدَثَ مِن وُجهاتِ نظرٍ مُختلفةٍ، وهذا  فيهِ نوعٌ مِنَ التّبئيرِ ومِنَ التّعميقِ لفهْمِنا للحدَثِ، وهي فرصةٌ لأنْ نفهَمَ مَعالمَ الشّخصيّاتِ، وكيفَ تقومُ الشّخصيّاتُ بإسماعِ صوْتِها الدّاخليّ، وهذا الصّوتُ لا يُمكنُ أنْ نَصِلَ إليهِ مِن خلالِ السّاردِ الخارجيّ، لأنّ السّاردَ الخارجيَّ هو ساردٌ واحدٌ.
لو أردنا إجمالَ منظومةِ الفجَواتِ في هذهِ القصّةِ، سنجدُ أنّ الترميزَ بالنّسبةِ للأسماءِ وعدمِ طرْحِها هو فجوةٌ تبقى عندَ القارئ، وأنّ السّردَ بصوْتيْنِ مُختلفيْنِ هو فجوةٌ تبقى عندَ القارئ، وأنّ اللّونَ الرّماديَّ يُشيرُ إلى الظلِّ وما يَحدثُ في الظلّ، في المساحةِ البينيّةِ في المنزلةِ بينَ المنزلتيْنِ، وهذا فيهِ نوعٌ مِنَ الاستشرافِ الفنّيّ لنهايةِ القصّة. انتبهوا كيف تنتهي: (عندما وصلتُ، رأيتُها، كانتْ في طريقِها إلى المقهى. خطتْ نحوي مُقتربةً، وحينَ رأتْني توقّفت، تجمّدتْ في مكانِها وجمُدْتُ في مَكاني، وأمتارٌ قليلةٌ تقفُ بينَنا.. والصّمت. نظرَتْ إليّ بعينيْنِ مُندهشتيْنِ، ونظرتُ إليها مُتفاجئًا بها، أُحِسُّ بخفقاتِ قلبي المُسرعةِ، ونفسي المُضطربةِ، وجفافِ حلقي. لم تقُلْ شيئًا، ولم أقُلْ شيئًا. وبعدَ لحظتيْن، أرْختْ نظرَتَها وراحتْ في حالِ سبيلِها.)        هكذا انتهتِ القصّةُ بشكلٍ رماديٍّ فيهِ إخفاقٌ، فلم يَسمعْ صوْتَها ولم تسمعْ صوْتَهُ، لكنّنا كقرّاءٍ سمعنا الصّوْتيْنِ، وهذه طبعًا هي روعةُ استخدامِ مثل هذا الأسلوب الفنّيّ. نتمنّى للكاتبةِ مزيدًا مِنَ النّجاح، واستثمارِ مثلِ هذهِ التقنيّاتِ الأسلوبيّةَ الّتي تُقيمُ فجوةً بينَ القارئِ وبينَ النصّ، وتُحاولُ أنْ تُعمّق أعمالَها الأدبيّة القادمة.
مداخلة لمياء أسدي: هناكَ دوافعُ جعلتْني أنتقي المجموعةَ القصصيّةَ للكاتبة حواء بطواش في دراستي الأكاديميّةِ، لنيلِ اللّقبِ الثاني وهي شتّى:
أوّلا: أنا ممّن يَدعمونَ الأدبَ المَحلّيَّ بشدّةٍ وفي هذا المِضمارِ، فلي رأيي الخاصّ والذي مِحورُهُ كالآتي:  نحنُ نحظى بكوكبةٍ مِنَ الرّوائيّينَ والقصصيّينَ البارعينَ في حياكةِ ونسْجِ القصّةِ، فلماذا لا نقرأ لهم؟ لماذا لا نُقدّمُ لهم الدّعمَ المَعنويَّ والمادّيَّ أيضًا إذا ما اقتدَرْنا؟ لماذا لا نَسمو بهم عاليًا، ونجعلُهُم نجومًا تتألّقُ في سماءِ الأدب؟ ها هي الكاتبة المَحلّيّة حواء بطواش تخُطّ بأناملِها وجعَ المرأةِ، وجرحَ الوطن، وتسرُدُ لنا أحداثًا عديدةً تستمِدُّها مِن واقعِنا وتاريخنا، أفليسَ جديرٌ بنا مُؤازرةَ هذهِ الأقلام وإغاثتِها، حتّى ترفرفَ باسقةً في أرجاءِ العالمِ العربيّ؟ جميعُنا يُشيدُ بما أوْرَثَهُ العالمُ العربيُّ مِن فنّ القصصِ والرّواية، وفي جميع الأقطارِ العربيّةِ، لكن، حتمًا هناكَ مَن يَعيشونَ ويَقتاتونَ بيننا، ويَحتاجونَ لأنْ نمُدَّ لهم يدَ العوْنِ، فمِنْ مِنظاري الشخصيّ، مَن يَنقشُ الحرفَ والكلمةَ ببراعةِ شخصٍ رضعَ نكبَتَهُ بكلِّ صبْرٍ وعناء، فيقينًا، لو شاءَ قُرّاءُ شعبِهِ، لجَعلوهُ يقطعُ عنانَ السّماءِ، ويَسبحُ في فلكٍ شاسعٍ معَ صفوةِ الأدباء.
مِن جهةٍ ثانيةٍ، استحوذَ على ذاكرتي الأدبُ النّسائيُّ في الآونةِ الأخيرةِ، فبدأتُ أدعمُ وأُشَجّعُ الكتاباتِ النّسائيّةِ، وفي المجموعةِ القصصيّةِ “الرجل الخطأ”، نلحظُ بروزَ مُصطلحَيْن هامّيْنِ يَجدُرُ التّفريقُ بيْنَهما: الأدبُ النّسائيُّ والأدبُ النّسويُّ، فالأدبُ النّسائي الّذي اِتُّفِقَ عليهِ كمُصطلحٍ يُشيرُ إلى الأدبِ الّذي خطّتْهُ يدُ امرأةٍ، بينما مُصطلحُ الأدبِ النّسويّ الّذي يَتمُّ التَّطرّقُ فيهِ إلى موضوعِ المرأةِ، وطبعًا في “الرجل الخطأ”، الكاتبة حواء بطواش جَمَعتْ بيْنَ كليْهِما.
وهناكَ دافعٌ آخرُ، هو ندائي بإدراجِ وتضمينِ هذهِ القصص في منهاج اللغةِ العربيّةِ، وتعريفِ طلّابِنا إلى كتّابِنا المَحلّيّينَ، وعلى الألوانِ الأدبيّةِ والأساليبِ والطّروحاتِ الّتي تُميّزُهم عن غيرِهم مِنَ الكُتّابِ العربِ الآخرينَ في الأقاليمِ العربيّة. أمّا الدّافعُ الأخيرُ، فأساسُهُ انطلقَ مِنْ إعجابي الشّخصيِّ بكتابةِ حواء بطواش، وبأسلوبِها والقضايا والموضوعاتِ المَطروحةِ بنكهةٍ حيّةٍ لمُجتمعِنا، وتَعاصُرِهِ مع واقعِنا، وبجزالةِ ألفاظِها وتناغُمِ الكلماتِ، ولباقةِ نسْجِ الكلمةِ مع أختِها الكلمة، وتأبُّطِ الكلمةِ لأختِها الكلمةِ بسلاسةٍ ووُدّ.
اللغةُ العربيّةُ تُعتبَرُ اللغةُ الثالثةُ في السّلّمِ اللغويِّ لديها، إلّا أنّها أتحفتْ وأبهرتْ أذهانَنا بحكاياتِها، والتي تمحوَرَتْ حولَ صورةِ المرأةِ، فإذا ما أمعنّا النّظرَ وتمحّصْنا صورةَ المرأة، نرى تجلّياتِها تُشكّلُ موضوعًا هامًّا في جزءٍ وفيرٍ مِنَ القصصِ، وقدِ ارتأيْتُ أنْ أتناولَ بعضَ هذهِ الصّورِ في دراستي بالاستعراض والتّحليل، للأدوارِ الاجتماعيّةِ المُختلفةِ الّتي كانَ لها حضورٌ واضحٌ للمرأةِ: المرأةُ البنت (العزباء)، المرأةُ الأمّ، المرأةُ العانسُ، المرأةُ العاملة، وغيرها من الصور الأخرى.
قصّةُ “بنتٌ مِن هذا العالم”، تُمثّلُ البنتَ العزباءَ الواثقةَ المُجتهدةَ الطموحة، والّتي تمتلئُ بالحيويّة والنّشاط والشّباب، وتُخطّطُ مِن أجلِ تحقيقِ مستقبلٍ سَنيٍّ زاهرٍ، وتتمرّدُ على الواقع الّذي تنوي عائلتُها فرْضَهُ عليها، وتُؤمِنُ بأنّ لها الحقّ في اتّخاذِ قراراتِها بمحضِ إرادتِها الشّخصيّة، والتّعبيرِ عن رأيها بحُرّيّةٍ تامّةٍ. هذه الرّغبةُ الصّادقةُ والعزيمةُ الثابتةُ عزّزتا لديها الشّموخَ وذروة المجد كاسمها بالضّبط (علياء)، حيث أنّها لم تُذعن لقرارِ العائلةِ بشؤونِها الخاصّة، بل تحدّتْ واتّخذتْ قرارَها بالفرارِ والاختفاء، بسبب ذلك المجتمع الفاسدِ المُتحرّشِ الطّاغي.
وفي قصة “المقهى” تبدو العانسُ بصورتِها الحائرةِ التّائهةِ، تُحاورُ نفسَها باستمرارٍ، لأنّها لا تجدُ لها ونيسًا أو صديقًا، تُشاطرُهُ بعضًا ممّا يَختلج في أعماقِها، فهي تعيشُ وحيدةً، وتكادُ تغادرُ هذا الكونَ وحيدةً كذلك، تقضي لحظاتٍ عصيبةً مِن عمرِها، تزورُ المطاعمَ بمفردِها، تحتسي القهوةَ بمفردِها، وتراقبُ تصرّفاتِ الآخرين وترصُدُ سلوكَهم بفضولٍ لا إراديّ، وصوّبتْ جُلَّ اهتمامِها لتحرُّكاتِ البيئةِ المُحيطةِ بها، لكي تشعرَ بوجودِها في هذا العالم، وكي تعيشَ قَدَرَها كما رُسِمَ لها ،إذ سُلبَ منها حقُّ الزّواج، وحرَمَها من العيشِ في ظِلِّ رجُلٍ يَحميها ويُشعرُها بكينونتِها.
والمرأةُ الأمُّ العاملةُ في قصّتيْ “مذكّراتُ عاملةٍ في السّوبر ماركت”، وقصّة “بنتٌ مِن هذا العالم”، هي الأمّ التي تُعتبرُ مصدرَ الحنانِ المُلتهبِ المُتأجّجِ ما بقيَ الزّمن، فهي ما تنفكُّ تُعيلُ عائلتَها، وتَحرصُ على تماسُكِها وثباتِها حتّى رمَقِها الأخير، ولأسفِها، أنّها دومًا عالقةٌ ما بينَ المِطرقةِ والسّندان، ما بينَ الأبناءِ واحتياجاتِهم ورغباتِهم، إزاءَ ربّ البيتِ حاسمِ الأمورِ ومُنهيها، صاحبِ الكلمةِ القاطعةِ والأخيرةِ طبعًا، وإلى آخرِهِ مِن صورٍ تنقشعُ وتنجلي، بمُجرّدِ أنْ نُسْهِمَ في تصَفُّحِ صفحاتِ هذا الكتاب، فلِمَن لم يقرأه فأنا أنصح وأوصي به، فكما قال الرسول صلعم أوصيكم بالنساء خيرا، وبهذا التناص أنهي مداخلتي “أوصيكم بالأدب المحلي خيرا”، فتابعوه، أهيجوه، رغبوه وانشروه فأنتم العماد ولكم السداد.
مداخلة رشدي الماضي: غاليتي الأديبة حوا لطواش: أعمّدُني/ وصولًا راح يقتربُ/ ماءً/ يُراودُ الأمطارْ/ يأخُذني بعيدًا إلى/ مرفأ دواتكِ/ كي نرتشفَ عطر الآلهة/ لازوردَ ألوانٍ/ كلماتٍ وأشعارْ/ كلماتٍ وأشعارْ/ زاجلي إلى حوا سؤال ونداء…./ رشدي الماضي/ أكتبُني قصيدةً/ يطلُّ منها سؤالٌ/ وسؤال!!!/ لِمَنْ/ تجتمعُ على غُصن عينيكِ النّوارس/ وتسْتوي/ في شفتيكِ الحروفُ نفحًا سماويّا/ وكلماتٍ كلمات/ لِمنْ يا زهرةَ لوزِ آذار/ لغةً/ وأمطارًا تأتي/ بغير مسيرة التيّار!!!
غاليتي!!!/ كلامكِ رياحُ نبوءةِ الأنهار/ ومدينتي… أسئلةٌ لمحنتي/ هُبّي من وجعي إلى وجعي/ كتابًا/ يُفسّر حكمةَ الأشجارْ/ أنتظركِ… بأسرع من الزّمن/ الذي يهربُ منك ومنّي/ قُرب شرفةٍ/ يبرّر ضوؤها الأقمار بالأقمارْ/ تعاليْ!!! نحوي أبجديّةً تأتي/ تأتي كلّ ربيعٍ/ تموزًا إلى عشتارْ/ تموزًا إلى عشتارْ
مداخلة حوا بطواش: أودُّ أنْ أشكرَ القائمينَ على هذه الأمسيةِ: نادي حيفا الثقافيّ برئاسةِ الأستاذ المحامي فؤاد نقارة، والمجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ- حيفا، واتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين، ومنتدى الحوار الثقافي-عسفيا. أشكرُ الحضورَ والمُتحدّثين والمُنظّمين العريفة.
الحقيقة، أنّ كتابي “الرجل الخطأ هو كتابي الأوّل الذي صدر عام 2013 ويتضمّنُ قصصًا كتبتُها منذ سنواتٍ، أي أنّها أولى قصصي القصيرة، والتي نَشرْتُ مُعظمَها في حينها في صحيفة كلّ العرب وفي مواقع الإنترنت، وهي بالنسبة لي تعكسُ بداية مسيرتي الأدبيّة، وشخصيًّا، أرى أنّني تخطّيتُ هذهِ المرحلةَ، فقد كتبتُ العديدَ مِنَ القصصِ بعدَ صدورِ هذا الكتاب، وإنّني أتطلّعُ إلى الأمامِ، وأفكّر ماذا يمكنني أنْ أُقدّمَ للمستقبلِ بطريقةٍ أفضلَ ممّا سبق، وكيف يُمكنُني أنْ أتطوّرَ.
كنتُ منذ فترةٍ أُحضِّرُ لإصدارِ روايةٍ، وكنتُ أعلنتُ عنها ونشرتُ مقاطعَ منها على صفحتي في الفيسبوك، لكنّني أحسستُ أنّهُ ما زالَ هناكَ اهتمامٌ بكتابي “الرجل الخطأ”، وأنّهُ لم يأخذْ حقّهُ في التوزيع، فأصدرتُ الطبعة الثانية للكتاب، عن طريق دار الرازي في كفر قاسم، لمالكِها الكاتب نعمان عبد القادر، ووُزّعَ الكتابُ أكثرَ، وأنا تحدّثتُ عنهُ في أمسيتيْن عدا عن هذه الأمسية، خلالَ الأيّام الثقافيّةِ في طرعان هذا العام، وفي العام الماضي في دير الأسد، وقد تحدّثتُ عنهُ في عدّةِ مناسباتٍ، وكُتب عنه قليلًا، وأظنُّ اليومَ أنّ الكتابَ أخذ حقّهُ، وبشكلٍ عامّ أنا سعيدةٌ وراضية عنه. أتمنّى أنْ أكونَ قد وُفّقتُ إلى حدٍّ ما، في جذبِ اهتمامِ وفضولِ القارئ، وإمتاعِهِ وإيصالِ جزءٍ صغيرٍ مِن أفكاري وخلجاتي بالطريقةِ التي كتبتُها، وأنا سعيدةٌ جدًّا بمُداخلاتِ ومُلاحظاتِ الأساتذةِ المُتحدّثين الموضوعيّةِ والتحليليّة، استفدتُ منها ومِن كلِّ مَن أعطاني مُلاحظاتٍ عن الكتاب وتشجيعًا ودعمًا معنويًّا، فذلك يَعني لي الكثير.