حب طفولي

القصة (:::)
قصة : عبد القادر رالة – الجزائر (:::)
لا شيئ بقي واقف في تلك الديار لكن الحب يشدني للعودة حيث كُنتِ .
ما أصدق قول ابن قزمان الاندلسي ، وما قاله أكثر تعبيرا عن حالي هذه
الأيام . إذ أني كثير التردد على حينا القديم ، والوقوف مطولا عند الشجرة
أمام البيت ….مرارا صاحا ومساء.. لا شيئ بقي واقف في تلك الديار ، لا
أحد بقي في ذلك الحي ، كل جيراني رحلوا ، منهم من انتقل الى حي أخر ،
ومنهم من انتقل الى فرندة ، وبعضهم رحل الى مدينة وهران البعيدة …
كنا نحن أول الراحلين من ذاك الحي القديم ، بل هو اقدم حي في مدينتنا
الصغيرة يعُود تاريخه الى الثلاثينات من القرن الماضي ، رحلنا في نهاية
الثمانينات ، ولم استطع ان أنسى حيي القديم فكنت اتردد عليه  بين الحين
والأخر ، فأذهب الى جارتنا نعيمة ، وأجلس مع ابنتها ليلى ساعات طويلة كما
كنت أفعل من قبل نتفرج على أفلام الكرتون ، أو نراجع الدروس  ، رغم اني
انتقلت الى مدرسة جديدة .
وجارتنا نعيمة ، امرأة طيبة ، كريمة وودودة ، كلما أزورها تسألني عن
أمي ، أبي وجدتي ، وعن جيراننا الجدد . غير أنها بعد سنين قليلة تغيرت
فجأة ، إذ صارت تستقبلني ببرودة ، ولما أسألها عن ليلى تقول بأنها خرجت ،
أو إنها عند عمتها !  وفي احدى المرات سألتني أمي لماذا أنا كثير التردد
على بيت السيد محمود ؟ فقلت وقد احمر وجهي :
ـ أليست  خالتي نعيمة جارتك المفضلة والأثيرة ؟ فابتسمت وقالت :
ـ نعم ، هي كذلك ، لكن لماذا احمر وجهك مثل الطماطم ؟
فارتميت على صدر أمي وقلت : اني أحـ…. ارغب في الزواج من ابنة جارنا
محمود … لا استطيع التخلي عتها !
احتضنتني امي بقوة :  ـ لا تزال صغيرا … الحب شيئ جميل … لكن
الاقاويل والشكوك تدمر هذا الحب ، وقد يُسئ المرء الى من يُحب بدون أن
يشعر… وقبل أيام تحدث محمود مع والدك حول زياراتك اليهم ، فإن كان هو
طيبا وحسن النية ، فللمجتمع حرمته وقوانينه ! والبنت جوهرة غالية نحرص
للحفاظ عليها وصيانتها حتى تُزف الى زوجها ….
ـ لكن يا أمي …. اني احبها …وسأتزوج بها يوما ….
ـ ان شاء الله ….الكلام عن الزواج ليس هذا أوانه … ادرس … واجتهد
… وإني اعدك بأني اخطبها لك يوما …. إن مد الله لنا في الأعمار ،
والأكيد أن نعيمة لا ترفض لي طلبا ، فهي جارة قديمة وطيبة…
واستمررت اتردد على حيي القديم …. أقف من بعيد أنظر اليها وهي متوجهة
أو عائدة من المتوسطة … وبعض المرات أوقفها نتحدث قليلا ، حتى مواضيع
أحاديثنا تغيرت ، ولم تعد طفولية ، وحديثها صار حذرا ، بدا لي أن حديث
الحب فيه حذر ومعاني كثيرة ، والمعنى الكبير لا حب بدون زواج ، والزواج
ليس هذا وقت الحديث عنه ! فأي حب في هذه المرحلة يُفهم خطأ ، وقد تكون له
نتائج غير جيدة ! كلام أمي نفسه تردده هي ….
وفي الثانوية الوحيدة في مدينتنا الصغيرة ، بحثت عنها فلم أجدها …
قِيل لي أنها أصبحت امرأة ناضجة ، ومكانها البيت وعليها التدرب لكي تكون
ربة بيت ماهرة وزوجة ناجحة وأم حقيقة!
صُدمت ، بكيت ، لكن لم أتوقف عن التردد على الحي ، وأفرح فرحا طفوليا في
المرات القليلة لما أراها ترافق خالتي نعيمة الى الحمام أو الطبيب…
سمعت امي تتحدث مع والدي ، وتحمد الله أني نسيت ليلى ، وانتهى تعلقي
الطفولي بها ،غير عالمة بأني أتعذب ، وأعاني ، وما أبذله من  جهد في
الدراسة فلكي انهي مراحلي التعليمية  … واخطبها …
لكن ليلى ما صارت تخرج ، ولا هي تذهب الى الحمام أو الطبيب . وما أثار
فضولي أني رأيت أطفالا صغارا يدخلون ويخرجون من بيتهم ، لا أعرفهم ، ولا
رأيتهم من قبل !
سألت فقالوا بأن محمود رحل الى مدينة سعيدة البعيدة منذ شهرين ، أو أكثر
…. لم أودع حبيبتي ولا هي ودعتني  …. محمود باع سكنه ورحل  ، عاد الى
مسقط رأسه بعد أن تقاعد ، لكي يعيش بين أقاربه وعشيرته ، الحنين الى
طفولته الأولى …. واصدقاء الطفولة الذين تقاعدوا مثله..
عدت الى البيت صامتا حزينا ….ورأتني أمها فأخبرتها ، وغضبت كثيرا لم
علمت بأنها تعرف ، ما أغباني ! فأمي جارة نعيمة المفضلة ، فجاءت مع
ابنتها لكي تودعها ، و قد أقام محمود مأدبة عشاء  دعا لها جيرانه القدامى
والجدد ، ومن بين القدامى كان أبي ….
واتجهت أمي الى الخزانة ، ففتحتها ٌثم أخرجت منها ورقة صغيرة مطوية ومدتها لي …
ـ سلمتها لي ليلى بدون علم أمها ….وطلبت أن أعطيها لك …
صرخت بأعلى صوتي :ـ ولماذا لم تخبريني لحظتها؟ …لماذا؟……
قالت أمي بصوت هادئ وحنون :ـ خفت عليك …. وأنت ابني … أعرف ما ذا
يفعل الحب … خفت ان تحرقك كلمات الفراق…
فتحت الورقة المطوية …
ُيوسف….
حبيبي يوسف…
….
. لن أنسى ابدا أنك أول انسان يدخل قلبي ويمتلكه…
كل كلمة كنت أقرأها ، تُوخزني في قلبي ، فتفور الدموع من عيني …. وأمي
واقفة صامتة تنظر إلي …
طويت الرسالة ثم قلت لأمي : ـ لقد وعدتني….
احتضنتني أمي ثم قالت : يا ولدي !في حياة كل انسان ، رجل أو امرأة حب أول
، وهو في الغالب حب طفولي بريء  ، وفي الغالب لا تكون نهايته زواجا
،وإنما دموع وفراق ولوعة … وانت لن تختلف عن الاخرين … حتى ولو لم
ترحل ليلى فإنها ستتزوج بأول خاطب يطرق الباب ، وانت لا تزال طالبا
يدرس….
ـ لا اعتقد أنها ستفعل…..
ـ المهم يا ولدي ، على المرء في النهاية أن يُؤمن بالله ، ويرضى بما قسمه
له الله …
وبعد خمسة وعشرين سنة ، وقد تزوجت ولي بنتين حلوتين … تذكرت حبي الأول
… والعجيب أنه عاد قويا ، وحرت ماذا  أفعل ؟ هل حيبتي الأولى تتذكرني ؟
وكيف أحوالها؟ ، أخوتها نسوا  مدينتنا تماما !  …
وصرت أتردد على حيي القديم  وإن خلى من جميع الجيران القدامى ….
عبدالقادر رالة/الجزائر