رحلـة جذورية بين ( منذ ) و( من) و (مذ )

التصنيف : فن وثقافة (:::)
بقلم : د . محمد الحريري (:::)
وردت عبارة (من ربع قرن ) في إحدى مقالاتي فراسلني أحد المهتمين متسائلاً  أ ليس الأفصح أن نقول : (منذ ربع قرن ) ؟! وقد فتح شهيتي لهذا البحث المتواضع :
أولا : ( منذ )و ( مذْ ) :
قال فيه النحويون : يكون على ثلاثة أوجه : 1 -حرف جر مبني على الضم ، يدخل على اسم الزمان فيكون بمعنى ( من ) إن كان الزمان ماضيا ، وبمعنى ( في ) إن كان الزمان حاضرا ، وبمعنى ( من ) و ( إلى ) إن كان الزمان معدودا ما حضر منذ يومين – ما حضر منذ يومنا هذا – ما حضرت اجتماع المجلس منذ ثلاثة أيام : من ابتداء هذه المدة حتى نهايتها . 2 – ظرف في محل نصب إذا تلاه جملة فعلية أو اسمية وتكون الجملة بعده في موضع جر بالإضافة إليه ما زال يدرسمنذ هو فتى – منذ رحل وصورته لا تفارقني – ما خرج من البيت منذ نزل المطر . 3 – اسم يعرب مبتدأ إذا دخل على اسم مرفوع ، وقيل ظرف زمان خبر ، والمرفوع بعده مبتدأ مؤخر ما رأيته منذيومين :أي أن أمد انقطاع الرؤية يومان .
وقال الجوهري ، في الصحاح في اللغة مُنْذُ مبنيٌّ على الضم، ومُذْ مبني على السكون وكلُّ واحدٍ منهما يصلح أن يكون حرف جرّ، فتجرُّ ما بعدهما وتجريهما مجرى في ولا تدخلهما حينئذٍ إلا على زمان أنت فيه، فتقول: ما رأيته مُنْذُ الليلةِ. ويصلح أن يكونا اسمين فترفع ما بعدهما على التاريخ أو على التوقيت، فتقول في التاريخ: ما رأيته مُذْ يومُ الجمعة، أي أوَّل انقطاعي الرؤية يومُ الجمعة؛ وتقول في التوقيت: ما رأيته مُذْ سنةٌ.، وما رأيتُه من سنةٍ بمعنى واحد .
ثانيــاً قال صاحب اللسان  فيهما أي ( مذْ ومنذ) :
قال الليث : (مُنْذُ )النون والذال فيها أَصليان وقيل إِن بناء منذ مأْخوذ من قولك « من إِذ » وكذلك معناها من الزمان إِذا قلت منذ كان معناه « من إِذ » كان ذلك ومُنْذُ ومُذْ من حروف المعاني ( كذا قال ابن بزرج ). و قال ابن سيده : منذ تحديد غاية زمانية النون فيها أَصلية رفعت على توهم الغاية قيل وأَصلها « من إِذ » وقد تحذف النون في لغة (تصبح مذ ) ولما كثرت في الكلام طرحت همزتها وجعلت كلمة واحدة ، ومذ محذوفة منها تحديد غاية زمانية أَيضاً ، وقولهم ما رأَيته مُذُ اليوم حركوها لالتقاء الساكنين ولم يكسروها لكنهم ضموها لأَن أَصلها الضم في( منذُ) قال ابن جني : لكنه الأَصل الأَقرب أَلا ترى أَن أَوّل حال هذه الذال أَن تكون ساكنة ؟ وإِنما ضمت لالتقاء الساكنين إِتباعاً لضمة الميم فهذا على الحقيقة هو الأَصل الأَوّل قال فأَما ضم ذال منذ فإِنما هو في الرتبة بعد سكونها الأَوّل المقدّر ،ويدلك على أن حركتها إِنما هي لالتقاء الساكنين أَنه لما زال التقاؤهما سكنت الذال . فضمُّ الذال إِذاً في قولهم مذ اليوم ومذ الليلة إِنما هو رد إِلى الأَصل الأَقرب الذي هو منذ دون الأَصل إِلى بعد الذي هو سكون الذال في منذ قبل أَن تحرك فيما بعد وقد اختلفت العرب في (مذ )و(منذ) فبعضهم يخفض بـ(مذ) ما مضى وما لم يمض وبعضهم يرفع بـ(منذ) ما مضى وما لم يمض والكلام أَن يخفض بمذ ما لم يمض ويرفع ما مضى ويخفض بمنذ ما لم يمض وما مضى وهو المجتمع عليه عند النحاة ، وقد أَجمعت العرب على ضم الذال من منذُ إِذا كان بعدها متحرك أَو ساكن كقولك لم أَره منذ يوم ومنذ اليوم ، وعلى اسكان مذ إِذا كانت بعدها أَلف وصل ومثل له الأَزهري فقال : كقولك لم أَره مذ يومان ولم أَره مذ اليوم . وسئل بعض العرب لمَ خفضوا بمنذ ورفعوا بمذ ؟؟؟ فقال لأَن منذ كانت في الأَصل (من إِذ) كان كذا وكذا ، وكثر استعمالها في الكلام فحذفت الهمزة وضمت الميم ، وخفضوا بها على علة الأَصل . قال : وأَما مذ فإِنهم لما حذفوا منها النون ذهبت الآلة الخافضة وضموا الميم منها ليكون أَمتن لها ورفعوا بها ما مضى مع سكون الذال ليفرِّقوا بها بين ما مضى وبين ما لم يمض ِ . وقال الجوهري: منذ مبني على الضم ومذ مبني على السكون وكل واحد منهما يصلح أَن يكون حرف جر فتجر ما بعدهما وتجريهما مجرى في ولا تدخلهما حينئذ إِلا على زمان أَنت فيه فتقول ما رأَيته منذ الليلة ويصلح أَن يكونا اسمين فترفع ما بعدهما على التاريخ أَو على التوقيت ، وتقول في التاريخ : ما رأَيته مذ يومُ الجمعة وتقول في التوقيت ما رأَيته مذ سنةٌ . أَي أَمدُ ذلك سنة ، ولا يقع ههنا إِلا نكرة فلا تقول مذ سنةُ كذا وإِنما تقول مذ سنةٌ وقال  شيخ النحاة سيبويه : (منذ) للزمان نظيره من للمكان ، وهناك ناسٌ يقولون : إِن منذ في الأَصل كلمتان « من إِذ » جُعلتا كلمة واحدة كما قدَّمْنا ، قال : وهذا القول لا دليل على صحته كما أفاد ابن سيده  ، وقال اللحياني وبنو عبيد من غنيّ يحركون الذال من منذ عند المتحرك والساكن ويرفعون ما بعدها فيقولون مذُ اليومُ وبعضهم يكسر عند الساكن فيقول مذِ اليومُ  . وفي مذ ومنذ لغات شاذة تكلم بها الخَطِيئَة من أَحياء العرب فلا يعبأُ بها . قلت : واليوم يجري العرب ، غالبهم ، على أنهما حرفا جر فيخفضون ما بعدهما ، وقال الفراء في مذ ومنذ هما حرفان مبنيان من حرفين من (من) ومن (ذو) التي بمعنى الذي في لغة طيء  ، فإِذا خفض بهما أُجريتا مُجْرى من وإِذا رفع بهما ما بعدهما بإِضمارٍ كان في الصلة كأَنه قال من الذي هو يومان . قال: وغـلَّـبوا الخفض في منذ لظهور النون .
والتطبيق المباشر هنا ، عن عائشة عليها السلام ، قالت :(( ما رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان )) >.
ثــالثــاً ، ولكن هل يجوز أن أقول : ما رأيته من  شهر بدل قولي منذ شهر ؟؟
كثيرون لايجيزون تعاور ( من ) و( منذ) ويخصصون ( من ) للظرفية المكانية ، كأن نقول من دمشق ، ومن الشارقة وعمّان ومن القاهرة ، قال تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ) الاسراء\1  ، وأجاز ذلك فريق من النحاة ،وصرّح بالجواز قاموس المعاني ، وهو ما نرجحه ،وذكرناه في صدر بحثنا هذا عن معاني ( منذ\مذ) ومن أراد الاستزادة نحيله إلى المطولات النحوية ( أبواب حروف الجر ومعانيها ) مع الإشارة إلى أن (مذْ) و(منذ) يأتيان كظرفين كما أسلفنا ، إضافة لمجيئهما حرفي جَـــرّ  …

ومن المعلوم أنه يشترط في مجرورهما ( أي : مذ \ منذ) أن يكون اسم زمان. ويكونان بمعنى من لابتداء الغاية إن كان ما بعدهما ماضياً نحو: ما رأيته مذ يوم الجمعة، وما كلمته مذ شهرٍ . ويكونان بمعنى (في) إن كان الزمان حاضراً نحو: ما رأيت محمداً مذ أو منذ يومي هذا. ويشترط في عاملها أن يكون فعلا ماضياً منفياً.، وجاء في الصحاح للجوهري حين حديثه عن حرف الجر ( من ): وتقول العرب: ما رأيته مِنْ سنةٍ، أي منذ سنة. قال تعالى: (( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التَّقوى مِنْ أوَّلِ يوم أحق أن تقوم فيه )) سورة التوبة \ 108. وقال زهير بن أبي سلمى شاعر المعلقة الجاهلي الحكيم المعروف :
لِمَنِ الديارُ بقُـنَّةـِ الحِـجْـــرِ  === أَقْوَيْـنَ من حِجَـجٍ ومِنْ دَهْــرِ
وبناءً على ذلك فلا مانع أن نقول زرته من ربع قرن ، وزرته منذ ربع قرن ، على اعتبار (من ) و(منذ) تفيدان ابتداء الغاية المكانية والزمانية معا ، وعلى مذهب البصريين الذين أجازوا تناوب حروف الجر ( ومنع ذلك الكوفيون ) !!!
هذا والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين ، والحمد لله رب العالمين .
————————————
حاشـــــــيـــة :
(1)- ابن برزج :اشتهر بهذا الاسم اثنان : الأولهو عبد الرحمن بن النعمان بن بُزَرْجَ الفارسي  :
ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيّ فيمن أسلم من أهل سَبأ في العهد النبويّ. وَكَذَا ذَكَرَهُ سَيْفٌ في “الفتوح”.
قال ابْنُ حِبَّانَ: يقال له صحبة. وقال ابن عساكر: أدركَ النبي صلى الله عليه آله وسلم ولم يلقَه، وقدم الشام في عهد عمر. وأخرج ابن منده من طريق محمد بن الحسن بن أنس، عن سليمان بن وهب؛ قال: حدثني النعمان بن بزرج، وكان قد أدرك الجاهلية؛ قال… فذكر حديثًا طويلًا.
وتعقب أبُو نُعَيْمٍ على ابن منده ذكره إياه في الصحابة، وقال: لا يُعرف له إسلام. ولم يصب في ذلك؛ فقد ذكره في التابعين البخاري، وابن أبي حاتم، وكأن أبا نعيم اغتر بما ذكره الواقدي في كتاب الردة من طريق همام بن منبه، قال: كان أول من قدم على الأبناء بصنعاء يعني من المدنية وبر بن يوحنس، فنزل على بنات النعمان بن بزُرْج فأسلمن وصلين. وبعثتا إلى أخيهما عبد الرحمن بن النعمان بن بزرج فأسلم]] <<من ترجمة النعمان بزُرْج اليماني “الإصابة في تمييز الصحابة5\85
والثاني منهما وهو المقصود هنــا : إمام اللغة عبد الرحمن بن بُزْرُج : وكان حافظاً للغريب وللنوادر . و له كتاب بخطّ أبي الهيثم الرازيّ في ( النوادر ) ، حسن نافع و فيه فوائدَ كثيرة . و له حروف في كتب شِمْر بخطِّه . وما وقع في كتب النحو لابن بُزْرُجَ فهو هذا أي عبد الرحمن صاحب النوادر ، والله أعلم .. .