تجليات الجمال والعشق عند اديب كمال الدين (3)

 

الرابط: اصدارات ونقد (::::)

د. اسماء غريب – ايطاليا (:::)

وهي كلّها ألوان تدلّ على سفر الشاعر الطويل مع الحرف والنقطة، لذا فمن الجدير التوقف مليا عند كلّ لون: 1) لون الغروب عند البحر هذه صورة تشكيلية تتكوّن من لونين أساسين: لون الغروب ولون البحر. ويوجد بداخلها عنصران مهمّان مستتران: الشمس والسماء. وبعبارات أكثر وضوحا يمكن تفكيك الصورة بهذا الشكل: ـ الألوان = أحمر+أزرق ـ الشمس = النقطة / السماء= المائدة  ـ الغروب / وجميع عناصرالصورة تقود كلّها إلى بداية النّص الشعري الذي تحدّث فيه الشاعر عن (النقطة وكأسها المترع بالشوق) فالنقطة إذن هي الشمس المكتملة، وهذا دالّ يجد صداه في المعادلة التي تمّت الإشارة إليها قبل لحظات: “الشمس = النقطة / السماء= المائدة”

لكن على الرّغم من هذه المحاولة التفكيكية البسيطة إلا أنّ المعنى مازال يكتنفه الغموض، والصّورة لا تزال تغوص وسط كتل من الضبابية والإبهام، لذا يتوجب التوغّل أكثر وأكثر في نصّ الشّاعر بل في بقية المجاميع الأخرى علّ صنّارة الدّارس تعثرُ على سمكة تحمل في بطْنها جوابا على الأسئلة التي تحُوم حول صورة الغروب هذه، وعندي اليقين بأنك لن تخيب أيها القارئ الصيّاد المتلحّف بخرقة الصّبر، فالحرف العربي وشجرته لهما من الكرم والجود ما يفوق أيّ تصور وخيال ودليلي على ذلك هذه الليرة الذهبية التي أحملها لك الآن بين يدي وأقصد بها قصيدة (غروب النقطة)  ففيها الجواب الوافي عن كلّ ما يكتنف صورة لون الغروب من غموض، وهي التي سيتمّ التوقف عند أجزائها ومقاطعها مقطعا مقطعا:

يقول أديب كمال الدّين: “أنا النقطة، أنا الشمسُ المكتملة،” هذان البيتان يحلاّن لغز من يكون البحر؟: إنه الحرف. والحرف كما تمّ إيضاحه سابقا هو الشاعر: “التقطنا معا / ياصديقي الحرف / الكثير من الصور التذكارية”. والشمس أو النقطة هي مكتملة والبحر لانهائي كالسماء التي يستمد منها لونه، السماء التي هي في الوقت ذاته المائدة والكأس المترعة بالشوق، والشوق لونه أحمر، لون النقطة الهابطة الذائبة في البحر. وأنتَ البحر اللانهائي، أيّها الحرف، أهبطُ فيكَ شيئاً فشيئاً حتّى أختفي تماماً هذا المقطع مليئ بالحركة والإيقاع: الهبوط هو نزول، والنزول كان من الممكن أن يكون له دويّ قويّ لولا أن تدخّل الشّاعر واستخدم عبارة “شيئا فشيئا” التي توحي بحركة ولوجية هادئة عبر باب الرّحمة واللطف، وإلا لكان نزول النقطة في الحرف قد أودى بحياته أو بحياة الشاعر نفسه. الحركة إذن أو الدّوي المتوقع يتحوّل إلى صمت كامل عبر عملية الاختفاء التام الذي هو مرادف للذوبان أي لفناء الشيء في الشيء، وانصباغ الشيء بالشيء مادام الحديث هنا يدور عن الألوان. (انظر الجزء الذي سبق فيه الحديث عن انصباغ الشاعر بالحرف وبالنقطة).

لا تفوتني الإشارة إلى طبيعة اتجاه الحركة والتي يمكن تقسيمها إلى نوعين: حركة ظاهرة (من فوق إلى تحت/ من الخارج إلى الداخل) وحركة مستترة تتم في كل الاتجاهات (شرقا وغربا / شمالا وجنوبا / داخلا وخارجا / وخارجا وداخلا) وهذا يتطابق من فكرة الامتزاج والتمازج بين الألوان.

أما عن فكرة الصّمت فإنه لا يقصد بها الصّمت المتعارف عليه ولكن الصّمت الذي يحمل في داخله صوت الصّخب الذي تنقله الموجات “المافوق صوتية”، فنزول الأحمر في الأزرق يستمد صوته الصاخب من حركة النور والظل الذي يحمله كلّ لون من هذه الألوان، ناهيك عن الصّوت الذي يُحدثه الجسمُ المُنصهر في المادّة السائلة (الماء)، وعمّا قد ينشأ عن الانصهار بفعل الحَرارة والتمازج بين جسم حارّ وآخر بارد من أفعال تخليقية وتخلّقية لها أصواتُ كلّ حرف من حروف الأبجدية وخاصّة منها ذات الطبيعة النارية الحارّة.

يستمر الشاعر في الإلقاء ويقول: لتصبح أحمرَ بدمي،  بمحبّتي، بطيورِ طفولتي. لون النقطة (الشمس) إذن أحمر، ولون الحرف (البحر) أزرق وذوبان الأحمر في الأزرق وفقا لنظرية الألوان وتقنية المزج لابدّ وأن تعطي لونا ثالثاً هو (البنفسجي). لكن ريشة الشاعر تتحدث عن البحر الذي أصبح لونه أحمرَ. هذا يعني أن البحر انصبغ بالنقطة، مع العلم أن البحر لم يكن أبداً أزرق اللون، وإنما له لون الماء، أي لون الحياة المتخلقة من الماء أو لون القصيدة التي يخطّها لنا الحرف ويلقيها الشاعر على مسامع المتلقّي سواءً عبر الكتابة أو عبر الصوت:.”أيها الحرف/ يا من تقرأ لوح حياتي، أعني قصيدتي/ هكذا أختفي فيك وبك ومعك، لأكون لانهائية فيك وبك ومعك” (انظر المقطع الثاني من القصيدة نفسها) هذا من جهة أما من جهة أخرى فإن كل هذا الحدث الكوني والتخلّقي عبر ذوبان النقطة في البحر أو دم الشمس والجَمال في ماء الخليقة لا يمكن إلا أن يكون حدثا سعيداً تشدو له عَصافير الطّفولة الملونة بالمحبّة الحمراء التي يصفُها الشاعر في المقطع الثالث من قصيدة (نوم) ” المرّة الوحيدة التي أفقتُ فيها من النومِ سعيداً كانَ الوقتُ عيداً وكانَ حذاءُ الطفولةِ الأحمر قرب مخدّتي يحرسُ سعادتي!”

2) لون الأمطار الأستوائية ربّما تكون أوّل بادرة تخطر بذهن القارئ ساعة وقوع عينه على هذه الصّورة، هي ربط فحواها اللغوي بالمنطقة التي يعيش فيها حتى اليوم الشاعر أديب كمال الدّين، باعتبار أن المناخ الأستوائي هو السائد في نحو ثلث مساحة أستراليا بأسرها، لكن ثمة سؤال تقضم دابّته في صمت منسأة البحث ويقول:”إذا كان الأمر كذلك، فما علاقة أستراليا ومناخها الأستوائي بلون غروب النقطة في البحر؟”، الحق أقول، أن السؤال قد يبدو غريباً أو غير ذي فائدة، لكن على غرابته وربّما عدم جدواه، فإنه يحمل عناصر قيّمة تستندُ على عصا التفكيك الدلالي علّها تمكّن من الوصول إلى ما قد يكون المَعنى الحقيقي الكامن وراء هذه الصّورة الغارقة في الماء. ويبدو أنّ كلمة “الأستوائية” هي المفتاح الأول لفتح باب المعنى على مصراعيه، مادامت كل كتب الجغرافيا تقول بأنّ المناخ الأستوائي يتميز بالحرارة المرتفعة والأمطار الغزيرة التي تسقط طوال العام. وسبب هذه الأمطار الغزيرة يرجعُ إلى استواء أشعة الشمس على مناطقه في فترات معينة من السّنة؛ والمؤدي بالتالي إلى ارتفاع نسبة التبخّر.

إن العنصر الأقوى في هذا التعريف المبسّط لأهمّ خصائص المناخ الأستوائي هو عبارتا “الحرارة المُرتفعة” و”ارتفاع نسبة التبخر” لأنهما تقودان مباشرة إلى البيتين اللذين سبق الوقوف عندهما (أهبط فيك شيئا فشيئا/ حتى اختفي فيك تماما) وإلى ما حُكي بصددهما عن مفهوم الهُبوط الصّامت مجازاً، مادام هذا الصّمت يحملُ بداخله صخب الانصهار والتخلّق. الانصِهار الذي يعْني وُجود حرارة مرتفعة جداً وهذا بدورِه يعني وُجود عملية تبخّر والتبخّر يؤدّي إلى تراكُم كيميائي للسّحاب والضّباب الأحمر، مادام هو صَاعدٌ من البحْر الذي ذابت فيه النقطة وأعطته لون دمها، والسّحب المتراكمة تعني سقوط أمطار غزيزة حمراء وربما أيضاً سوداء أو صفراء ناتجة عن استواء أشعة الشمس أو النقطة.

فالأمطار الأستوائية إذن لها لون دم الجمال كما قال الشاعر في إحدى قصائده: “كانت النقطةُ دمَ الجمال  دمَ المراهقة  دمَ اللذة  دمَ السكاكين  دمَ الدموع  دمَ الخرافة  دمَ الطائر المذبوح. كانت النقطةُ دمي أنا تمثال الشمع.”  النقطة إذن هي الدّم الذي سال نوراً من الله المطلق الديمومي الأزلي الجمال، وهي جوهر النور الذي اهتزت له الظلمة وتزلزلت فخرج منها أول شكل في الخلق دالا على جمال الذات الإلهية الشريفة المتمثلة بالرقم الواحد (1) رمز الأحدية وبالحرف الملك (ألف) تصديقا لقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} فوقع الاحتراق ومنه تولد عنصر النار وعنه تبخّرت الغازات الطيّارة فكوّنت دائرة أصبحت النقطة مركزها وتشكل حرْف النون وأقسم الله عز علاه بهذا الحدث وقال:{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} فسالت النقطة وصارت ألفاً وصار الألف قلماً يُسطّر كلمات الله الأزلية ومن أبخرة دائرة النقطة والنون تكوّنَ الماءُ والهواءُ أو ما يسمّيه أهل الفيزياء بعُنصر الخلق والتخلق. وتلتهُ بعد ذلك النّار ثم التراب فاكتملت لهذا كله دائرة الرمز السرّي للخلق والجمال الإلهي، فتعرّف الله إلى حقيقة نفسه واحتفظ بحقيقة معرفتِه لهُ وحده لا يشاركه فيها أحد.

3) لون غيوم الشتاء البعيد

الشّتاء هو ربيع  والرّبيع إذا بعُد صَار لهُ طعمُ الذكرى والذكرى إذا كانت نديّة بالغيم الحابل بالمطر وخضراء بلون المَحبّة وحمراء بلون العشق والحياة صارت دالة على الطفولة  طفولة الشاعر وطفولة الكون باعتباره جزءاً من قلب الشّاعر العَارف. وليستْ هذه هي المرّة الأولى التي يتحدّث فيها أديب كمال الدّين عن لوْن الشتاء البعيد بل ثمّة قصيدة مغرقة في البعد أيضاً كتبها في أوّل ديوان صدر له وسمّاها (النبي الصغير) وهي التي سيمكن الوصول من خلالها إلى ما يقصده حقا الشاعر بهذا اللون وهذه الصورة. يقول أديب إذن في مقطع منها: ” الشتاءُ نبيّ صغير، ملعبٌ للزمانِ القديمْ، لحظةٌ للفراشِ المغطّى بلونِ القصائد  عند اللقاء الأخيرْ. الشتاءُ نبيّ صغير أطفأ الضوءَ لكنه عادَ وقت المساء الوحيد مثل أرجوحة بللتْها الظهيرة. /// الشتاءُ نبيّ صغيرٌ فلمّي التي صوتها غابة من زئير البنفسج صوتها النوم في بركةٍ للطفولة والتي غادرتْ ليلها مرّةً فاشترتْ دفتراً سجّلتْ فيه أشجارها سجّلت فيه شيئاً ونامتْ مثلما الطفل عند اشتهاء البكاء الأخير.” المقطع كلّه موزع بين قاموسين رئيسين: قاموس الشتاء بمائه ومطرِه وربيعه (البركة / الضوء / الفراش / غابة / البنفسج / الأشجار)، وقاموس الطفولة (صغير / ملعب / الزمان القديم / أرجوحة / للطفولة / الطفل عند اشتهاء البكاء الأخير) وهذا مايمكن تسجيده عبر التخطيط التالي:

البحر تمّ الانطلاق من عنصر البحر باعتباره المكان الذي انصهرت فيه النقطة وصعدت منه الأبخرة التي          صارت غيوما وأمطارا أستوائية ثم شتاء بلون الربيع والطفولة

الغيمة     +     المطر

غابة+أشجار+بنفسج + الأرض  (لم يتم ذكر اسم الأرض لكنه عنصر موجود وإن كان مستترا فلكي توجد الغابة والشجر والبنفسج لابد لهم من الأرض التي هي جسد الكون وجسد القصيدة وجسد الشاعر) = الطفولة

لا شكّ في أن المشيَ على هذا الحبل الشائك والخاصّ بالطّفولة الكونية وبمراحل التّخليق والخلق الكوني سيؤدي إلى الوصول إلى أخطر المواقف وأشدها وطأة على الشاعر إنه موقف المطر والماء وما يتبعه من غرق بل من أمل في النجاة من هذا الغرق. يقول أديب كمال الدّين في ديوان (مواقف الألف) : “أوقَفَني في موقفِ الماء وقال: قِفْ على الماء. فقد جعلتُ من الماءِ كلَّ شيءٍ حَيّ. فَوقفتُ.” هذا المقطع قائم على سورة قرآنية هي المفتاح الأكبر لآية الخلق والتخليق برمّته، وهي لها صلة وطيدة بما سبق شرحه عن لون غروب الشمس وسط البحر وما تلاها بعد ذلك من تفاعلات كيميائية أدت إلى حدوث المطر الأستوائي. فأديب كمال الدّين منذ بداية قصيدة “الكثير من الصور” ومرورا بقصائد أخرى تصبّ في القصيدة نفسها محطّ الدرس وصولاً إلى نصّ “موقف الماء”، يريد إيصال فكرة علمية عظيمة مفادها أن أولّ الخلق جميعاً هو المَاء تصديقا لقوله تعالى في سورة هود (آية 7): ” وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ “.

لكن يبدو أن صُورة الوقوف على المَاء في هذه الأبيات، لهَا وقع أكبر وأعظم على نفس المتلقّي من الفكرة العلمية ذاتها، إذ أنها تُؤذن بوقوع خطب خطير وهو “الغرق”، فالمتكلّم هنا يبدو وكأنه في مرحلة الحبْو، فهو يتلقى الأمر التعليمي الإرشادي من اليدِ التي توقفه على المَاء ثم تحيطه بالعناية الكاملة حتى نهاية السّفر المائي. قد يتبادر إلى ذهن المتلقّي بأنّ في الأمْر مبالغة أو محاولة للتشبه أو التماهي مع من وقفوا أو مشوا على المَاء من الأنبياء والقديسين، كالنبي عيسى (ع)، إلا أنّ أديب كمال الدّين أظهر في أكثر من نصّ بأنه غير مشغول بالتشبه بأحد ولا بالتماهي مع أحد فقد أقفل باب النفس عن كلّ مظهر من مظاهر الغرور والتفاخر، والدليل على ذلك المقطع الشعري نفسه، فهو قال: “أوقفني” أي أنه لم يقف لوحده على الماء.

ويكمل ويقول في قصيدته: “ثُمَّ قال: امشِ. فمشيتُ. مشيتُ حتّى الخطوة الثانية وفي الثالثةِ غرقتُ. فمدَّ لي يداً من نور” الموقفُ في ظاهره موقف ماء، لكنه في باطنه موقف جنيني يُفصّل مراحلَ التكوين بدءاً من التّلقيح إلى التخصيب داخل رحم الكون، وصولاً إلى الغرق وسط ماء الكون، هذا الغرق الذي حدث لأن العارف اكتفى في بداية الطريق بالسلوك والعبادة والمجاهدة كلوح تُرجى من وراء ركوبه السّلامة، لكن هذا لا يعني أنّ من شروط النّجاة ترك العبادة، بل المُراد هو أن يُترك اعتبارها من القلب، لأن في ذكرها منّة على الله تعالى، ولأن المُعوّل عليه يجبُ أن يكون المُسبّب (يدا من نور) لا السّبب.

ثم يقول: “فقال: انجُ. فنجوتُ. وفي الخطوةِ الأربعين زُلزِلتُ حتّى عبرَ جسدي بحرَ الظلمات قِطَعاً قِطَعاً. وصارتْ كلُّ واحدةٍ فوق جزيرة فدعاهنّ فجئن على هيئةِ طائر ثُمَّ على هيئةِ طفل ثُمَّ على هيئةِ إنسان. ثُمَّ فتحَ لي باباً وسط الماء وقال هذا باب النجاة.” في هذا المقطع يبدو وكأنّ المتلقّي أمام خليل الله إبراهيم (ع). أو بتعبير أصح أمام تجربة إحياء الموتى بعد واقعة الغرق. ويبدو الشاعر وكأنه أحد تلك الطيور الأربعة التي صرّها إبراهيم إليه ثم أرسلها إلى الجبل ثم دعاها إليه فعادت حية تُرزق، فتحقّق له كما تحقّق للشاعر فعل الإحياء وفعل التّخليق بكل مراحله من الطفولة حتى الوُصول إلى صورة الإنسان الكامل.

ثم يختم القصيدة ويقول: “فانزعْ عنكَ كلَّ حرفٍ إلا حرفي وكلَّ نقطةٍ إلا نقطة نوني. واخرجْ فإنّكَ عريان خُلِق الساعةَ كي يمشي فوق الماء. لن تغرق بعد الآن. فافرحْ لأنّي جعلتُ الماء يتبعُ خطواتكَ أنت ويمشي بإشارةِ قلبِكَ أنت، قلبك الذي هو قلب الماء.” لا حرفَ إذن إلا الألف ولا نقطة إلا النّقطة المحمدية، ولا ماءَ إلا حليب الكاف والنون، ولا لونَ إلا لون نور الشمس الذي هو قلبُ الشّاعر العارف بل قلب الماء (وهو اللون الذي أشار إليه الشاعر حينما حدّد مختلف ألوان صوره، لذا فسيُتجنّبُ التطرق إليه فيما سيأتي من التحليل تفاديا للتكرار والإطناب في القول). لكن ما للشعر والماء في قصائد أديب كمال الدّين؟ يتعلق الأمر بمفهوم “العارف الطفل”، الذي يعشق الكون (الأمّ)، قبل أن يعرفهُ ويراه، لذا تجد الشاعر يصفُ بحماس هذا الكون ويُظهر تجاهه فضولاً دائم التجدّد، وهو شعور لا يمْكنُ أن يوصف إلاّ “بالبَنَويّ”  وهذا هو السّبب الرئيس الكامن وراء كون قصائد الشّاعر هي قصائد سائلة بامتياز، تنطلق في سيلانها هذا من قوة إسقاط الخيَال أو من القوّة التي تستولي على كلّ الصّور التي اختارها الشّاعر كي تضعها في المنظور البشري الأكثر نقاء: منظور الأمومة، ولعلّ هذا فيه تعويضٌ لغيابٍ أليمٍ عن طريق إعطاء صفة اللاّمحدودية لصُور البحْر حتّى يجْعل منهُ استعارةً جديدة للحُبّ القديم الذي يحمله كلّ إنسان في قلبه: الحُبّ الأمُومي . إذن كلّ ماهو سائل في نصوص أديب كمال الدّين هُو في الأصل ماء وإن كان ثلجاً، أو موجاً، أو كان بلوْن الدّم أو العسل الأسْود، ولعلّ هذا ما يُعطي للنّص هذه القوّة الخارقة القادرة على التجدّد والتخلّق باستمرار. وهذا ما يبدُو جلياً من خلال الرسم الكرافيكي التالي، والذي يُحاولُ أن يسلّط الضوءَ على عُنصر السيلان الذي تعوم فيه قصائد أديب كمال الدّين :

الصورة رقم 1 النتيجة تفوق كلّ تصور وخيال: لقد تساوى الماء والمطر (248) والبحر (248) في نصوص الشاعر وتبعه تدفق الدّم (219) ثم الدّمع (188)، وهذه حقيقة تقودُ مباشرة إلى أوّل لون تحدث عنه أديب كمال الدّين في قصيدته “الكثير من الصور”: لون الغروب عند البحر. إذن فالشاعر يُقدّم صورة البحر الكوني ليس فقط بشكل شاعري وأدبي وإنما بشكل فيزيائي أيضاً، ولا يحرمُه أبداً من عنصر الضّوء والنّور وذلك حتى يمكّن المتلقّي من رؤية ما لا يُرى بالعين المجرّدة أو من رؤية المُكوّنات التي يتمظْهرُ الخيالُ الماديّ منْ خلالها، لذا فإنّ صورة الماء والشّمس الحاضرة التي تذوب وتصيرُ دماً وسط البحْر في كلّ الدواوين هي صورة مادة صافية تحتضنُ كل عناصر الخلق والتخليق بشكل يجعلُ منك ومني ـ أيها القارئ الكريم ـ مُشاهداً يستحمُّ وسط النّورِ بانتشاء فيزيائي، لأن هذا يُذكّرك ويذكرني بقديم رغد العيش وبعذوبة الغذاء الأوّل حينما كُنّا أنت وأنا مجرّدَ ذرات دسمة تفتح فمها كي تمتصّ في كسل نسغ الحياة وسط مشيمة الكون الأكبر. 4) لون ظلال النساء

الماء المتدفق نهراً أو موجاً، دماً أو دمعاً، عسلاً أو خمراً بكلّ هذا الإحساس البَنويّ الهائل كان لابدّ له كي يصبح أكثر جمالا وعذوبة وسحرا من حضور عُنصر “المرأة” أو “الأنثى”، فحضور “لون النساء” إذن وإن كان مجرّد ظلّ، هو ضروري، وإلا لكانت كل الألوان قد غرقت في مللها الفيزيائي والفلسفي والوجودي. فالمرأة هي نقطة الروح وهي كأس الحبّ المقدّسة ولولاها لكان ماءُ الكون هذا مليئاً بالضجر بدلا من السّعادة والمسرّة، ولولاها “لضاع المعلم والمعلّم وضاع السرّ وحامل السرّ وكاشف السرّ.” . هي وحدها عبارة “ظلال النساء”، أضْفت الحياة على هذا البحْر العظيم الذي غرقت فيه أو سقطت وذابت فيه النقطة أو الشمس، فالنساء حينما سكنّه حوّلنه إلى كون مليئ بالحياة والرغبة والجمال والحُلم وبالموت أيضاً. لكن لماذا كلمة “ظلال”؟ إنها مسافة تفصلُ الشاعر وتبعدُه عن المرأة مادام الظلّ شيئاً بعيداً في الذاكرة، أو حضوراً استدعائياً لشيء مُغرق في الغياب عبر الظل وليس عبر المادّة الجسدية نفسها. الجوابُ عن هذا السؤال قد يكون هنا، في هذه الكلمات:  “المرأة لوحدها هي التي تستطيع أن تكسر حاجز الملل، لكنّها عند الشاعر تستطيع أيضاً أن تكسر حاجز الصّوت أيضاً! وهي تستطيع أن تصبّ في روحه الفرحَ صبّاً مثلما تستطيع أن تكسر له زجاج روحه ليبقى ملتاعاً حتى النفس الأخير. هذه هي الأنثى: جسد ورماد، قصور وخرائب، حياة وفناء. أما عن الانسجام بيني وبين الأنثى، فأنا آخر مَن يحق له الحديث عن هذا الانسجام! لأنه انسجام لا وجود له من قريب ولا من بعيد! ربما يكون الحديث عن علاقة الارتباك مع الأنثى أو التضاد هو الأدق. وسترى أن قصائدي تكافحُ من أجل أن يسود بيني وبين الأنثى، بأشكالها المعقدة وبأسمائها المختلفة، نوع من السّلام الداخلي، حتى وإن كان سلاماً بالاسم فقط”  يبدو أن رحلة الشاعر مع الصور والذكريات الكونية في نص “الكثير من الصور” قد وصلت إلى محطتها الأخيرة لذا تراه يختمها بهذا المقطع الموجز في الدقة ويقول:

“أما أنا فسأموتُ دون أنْ أكتب قصيدتي التي أقولُ فيها الحقيقةَ عاريةً دون صور، دون صورٍ من أيِّ نوعٍ كان!”

إنّ ما قاله الشاعر هنا هو عين الصدق، فهو لم يكتب أي نصّ يقول فيه الحقيقة عارية من الصور أو الألوان، ولربّما لن يفعل ذلك أبداً، ولو فعل فإن كلامه لن يكون لا فنّاً ولا أدباً. وهذا أمر قد انتبه إليه منذ أوّل ديوان له، فهو أكثر العارفين بما تتوق إليه النفس الإنسانية بشكل عام ونفس المتلقّي بشكل خاص، باعتبارها تنفُر بطبيعتها من الصّور التقريرية الفجّة والقاسية، وتميلُ إلى الصّور المجازية المزخرفة بشتى ألوان الإبداع. ولربّما هذا ما يجعلها لا تنتظر من شاعرها سوى أن يُعيد لها بقصائده ونصوصه خلق الواقع من جديد وبصور جديدة تفوق الواقع نفسه جمالاً وتأثيراً. لذا تجدُ أديب كمال الدّين قد بلغ في التعبير عن جمالية محبّته للمتلقّي مبلغاً عظيماً لدرجة أنه صاغ له، إضافة إلى تجربته الفذة في التقاط الصور، طريقةً جديدةً في عرض نوع خاص من صور أخرى اعتمد فيه أسلوبَ التعري من كلّ أثر صوري أو لوني: ويقصدُ بهذا النوع من الصور، صورة حرف خاصّ وشريف، سيتم التعرف عليه في الآتي من الأسطر.