كتابات ومواد دينية (:::)
طلال قديح * (:::)
إنها ذكرى من أعظم الذكريات التي يحتفل بها المسلمون كل عام فيتجدد معها الحب والوفاء لخاتم الرسل والأنبياء، محمد بن عبدالله، الذي خصه الله بمعجزة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعرّج به إلى السماء..
يحتفل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، بذكرى المولد النبوي الشريف اعتزازاً بالرسول الأعظم الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة كما أراد الله تعالى.
اصطفى الله محمداً ليضطلع بهذا الشرف العظيم لأنه أهل له والقادر بصبره وعزيمته وإرادته وكريم خلقه ، على تحدي كل الصعاب التي تعترض طريقه ، وماأكثرها..
اختاره من قريش أعظم القبائل العربية، ومن بني هاشم بن عبد المناف خير بيوتات قريش ذات المكانة الأعظم حسبا ونسبا،انطلاقا من سمات العرب التي كانت تعتز بالأنساب وتوليها المنزلة الأرفع، ويحظى أبناؤها بالاحترام والتقديروالهيبة والكلمة الفصل في النزاعات والخلافات.
شرف العرب أي شرف بأن اصطفى الله منهم سيد البشر، وأوحى إليه القرآن الكريم بلسان عربي قويم ، وظل المعجزة الخالدة على مر الزمان ويزداد عظمة وسمواً في كل آن.
لذا كان حب النبي العربي واجباً على كل مسلم، ومن متممات صدق الإيمان..قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين. وقال ايضاً: أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، و القرآن عربي، و كلام أهل الجنة عربي.
ومن هنا لا يصح الفصل بين العروبة والإسلام مهما كانت الأسباب والاجتهادات فالرابط أبدي ,وباق ما بقي الكون. القرآن عربي” إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون”،و “إنا أنزلناه بلسان عربي مبين”.
إن الاحتفالات التي تعم العالم الإسلامي والمحاضرات والندوات المزينة بكل مظاهر البهجة والفرح، لهي برهان على صدق الانتماء والاعتزاز بهذا الدين العظيم.
تغنى الشعراء بالمولد النبوي الشريف ونظموا فيه غرر القصائد أشادوا فيها بعظمة رسول الله وجهاده في سبيل الدعوة الإسلامية الذي سيظل قدوة ومنارة على الدوام.
وأمير الشعراء أحمد شوقي نظم قصدته العصماء في مدح خاتم الأنبياء، فقال:
ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء
الروح والملأ الملائك حوله للدين والدنيا به بشراء. والعرش يزهو والحظيرة تزدهي والمنتهى والسدرة العصماء ..إلى أن يقول:
يا خير من جاء الوجود تحية من مرسلين إلى الهدى بك جاءوا
بيت النبيين الذي لا يلتقي إلا الحنائف فيه والحنفاء
…..
بك بشّرالله السماء فزُينت وتضوعت مسكاً بها الزهراء
أثنى المسيح عليه خلف سمائه وتهللت واهتزت العذراء
يوم يتيه على الزمان صباحه ومساؤه بمحمد وضّاء
….
زانتك في الخلق العظيم شمائل يغرى بهن ويولع الكرماء
أما الجمال فأنت شمس سمائه وملاحة الصدّيق منك أياء
والحسن من كرم الوجوه وخيره ما أوتي القُوّاد والزعماء
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وإذا عفوت فقادراً ومقدراً لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضبةٌ في الحق لا ضغن ولا بغضاء
وإذا رضيت فذاك في مرضاته ورضا الكثير تحلّمٌ ورضاء
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو النديّ وللقلوب بكاء
وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصومَ من السماء قضاء
وإذا حميت الماء لم يورد ولو أن القياصر والملوك قضاء
وإذا أجرت فأنت بيت الله لم يدخل عليه المستجير عداء
وإذا ملكت النفس قمت ببرها ولو أن ما ملكت يداك الشاء
وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الآباء
ويعدد شوقي مناقب نبي الهدى فيقول:
ياأيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت بك العلماء
الذكر آية ربك الكبرى التي فيها لباغي المعجزات غناء
صدر البيان له إذا التقت اللُّغى وتقدم البلغاء والفصحاء
نسخت به التوراة وهي وضيئة وتخلف الإنجيل وهو ذُكاء
لما تمشّى في الحجاز حكيمُه فُضّت عكاظ به وقامت حراء
أزرى بمنطق أهله وبيانهم وحيٌ يقصّر دونه البلغاءُ
حسدوا فقالوا شاعر أو ساحر ومن الحسود يكون الاستهزاء
جرت الفصاحة من ينابيع النُّهى من دوحه وتفجّر الإنشاءُ
بك يا ابن عبد الله قامت سمحة بالحق من ملل الهدى غرّاءُ
بُنيت على التوحيد وهي حقيقةٌ نادى بها سقراطُ والقدماءُ
….
الدينُ يسرٌ والخلافةُ بيعةٌ والأمرُ شورى والحقوقُ قضاءُ
….
أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء
المصلحون أصابع جُمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
صلى عليك الله ما صحب الدجى حادٍ وحنّت بالدّجى وجناءُ
لله درك ياأمير الشعراء!، فلو لم تكن لك إلا هذه الدرة العصماء في مديح خاتم الرسل والأنبياء ، لكفاك فخراً تتيه به ما دامت الأرض والسماء.
ومن أجمل الصدف أن يحتفل العالم بذكرى ميلاد عيسى المسيح، الذي بشر برسول يأتي بعده اسمه أحمد، وذكرى مولد محمد بن عبد الله، عليهما أفضل الصلاة والسلام – في زمن واحد، فتتم الفرحة وتغمر البهجة النفوس، وتلهج الألسنة بالدعاء أن يعم العالم الأمن والسلام والرخاء، وينتفي منه الحقد والضغينة والبغضاء.
وبهذه المناسبة يسعدني أن أقتطف أبياتاً في مدح الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، من قصيدة للشاعر القروي رشيد سليم الخوري، الذي كان متيماً بحب النبي العربي، وكان لي شرف سماع هذا المديح منه شخصياً في احتفال إيماني مهيب بالمولد النبوي، في مسجد الإمام علي بن أبي طالب، بالطريق الجديدة في بيروت قبل خمسين عاماً، ويظل هذا المشهد محفوراً في الذاكرة بأحرف من نور تتلألأ على مر الشهور.
استهل القروي قصيدته بقوله:
عيد البريّة عيد المولد النبوي في المشرقين له والمغربين دَوي
عيد النبي ابن عبد الله مَن طلعت شمسُ الهداية من قرآنه العلوي
….
يا فاتحَ الأرص ميداناً لدولته صارت بلادك ميداناً لكل قوي
يا حبذا عهدُ بغداد وأندلس عهدٌ بروحي أفدّي عودَه وذوي
فمن كان في ريبة من ضخم دولته ليتل ما في تواريخ الشعوب رُوي
يا قوم هذا مسيحيٌ يذكّركم لا يُنهض الشرقَ إلا حبُنا الأخوي
فإن ذكرتم رسول الله تكرمةً فبلّغوه سلام الشاعر القروي
كم عرفناك عظيماً أيها الشاعر القروي الذي جند شعره لخدمة القضايا العربية وعلى رأسها قضية فلسطين التي كان لها الحظوة في شعره وأقواله، وملكت عليه عاطفته وأفكاره!!.
أين نحن من ذاك الجيل العظيم؟! جزاهم الله خيراً عن كل ما قدموه خدمة للدين والوطن.
•كاتب ومفكر عربي
•28/12/2014م