دراسات …..
بقلم د . عبد الوهاب القرش – مصر ….
تعد دراسة التاريخ جزءاً أساسياً من ثقافة أية أمة، حريصة على بناء حاضرها ومستقبلها، فالأمة الواعية هي التي تؤمن باستنباط العبر والدروس، وترسم من خلالها الرؤية المستقبلية.
إن تحليل الماضي وأحداثه ومقارنتها بما نعيشه من أحداث حالية، تؤكد أن التاريخ يعيد نفسه بشكل مباشر أو بطرق مختلفة تؤدي إلى مقارنة ومقاربة الحدث، هذه الإعادة التي قد تشترك في الزمان أو المكان أو تختلف فيه، ولهذا لابد للأمة الواعية أن تقرأ التاريخ لاستنباط الدروس لترسم المستقبل لا تنظر إلى الأحداث على أنها ملفات توضع على الأرفف, إنما تتعامل معها بوصفها وثائق ناطقة تتسم بالحياة والديناميكية والاستمرارية، تساعدها على معرفة أحداثها ودروسها متى ما عرفت كيف نستنطقها وتعيد الروح لأبناء الأمة ليكونوا أولا لدروب ومعابر المستقبل.
الأمة الواعية هي التي تستطيع قراءة التاريخ وتحويل ما تقرأه إلى سبل نجاح خاصة بها، من خلال تفعيل وتطويع الاستفادة من الأحداث والوقائع في الماضي إلى تجارب حياتية وعملية واستثمارية تخدم به حاضرها ومستقبلها.
وهذا ما فهمه اليهود ، وعملت به إسرائيل ، فقامت الجامعة العبرية – أكبر المراكز البحثية في العالم في مجال الحروب الصليبية – بدراسة أسباب نجاح المسلمين بفتح الأندلس وبقائهم فيها ثمانية قرون ونيف كما درسوا بعناية شديدة لأسباب ضياع وسقوط الأندلس ، ناهيك عن دراستهم لأسباب نجاح المسلمين في معركة حطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي والتعرف على الدوافع الكامنة وراء معنوياتهم العالية، وشعورهم المطلق بعدالة ما يقومون به حتى تمكنوا من الانتصار على الصليبيين وكسر شوكتهم وفتح القدس ..بل وجعلت إسرائيل من نتائج الدراستين مقررات سرية يمنع تداولها.
وعلى النقيض تماماً لم يلتفت المسلمون إلى معطيات دروس سقوط غرناطة آخر المعاقل الإسلامية في الأندلس عام 1492م رغم مرور 518 عام على سقوطها!!
ولكن للأسف الشديد الدرس كله منذ الفتح الإسلامي لإسبانيا سنة 93ه/710م، وحتى سقوط غرناطة أخر المدن الإسلامية سنة 897ه/1492م، لم يدرس وفق سنن الله الكونية والاجتماعية في قيام الحضارات وسقوطها، بل حوله المسلمون – بعامة ،والعرب – بخاصة – إلى صفحة من المجد والازدهار يتغنون بأمجادها في مناهج التاريخ المدرسية الذي يغلب عليه الابتسار والتلفيق..
وقد بدأ الأمر وكأن العرب طردوا من الأندلس وفقدوا فراديسهم بلا أسباب..وكأن سنن الله كانت بعيدة عنهم فلم يكن سقوطهم عقاباً من الله، بل كان سقوطهم لمجرد توحد أعدائهم وتمزق صفوفهم وتفرق كلمتهم، لكن لماذا تمزقوا وتفرقوا شيعاً وصاح فوق كل غصن ديك؟!!.
لا يوجد منهج دراسي للتاريخ في مدراسنا يجيب عن هذا السؤال!!..مع العلم أن تمزق أي أمة وتنافرها إنما هما نتيجة أخيرة لأمراض استبدت بعقول وقلوب أبنائها ، حتى أضحت العقول ترجمة لمناهج متناقضة يهدم بعضها بعضاً..وأصبحت القلوب أوعية مريضة بالحقد والكراهية، لا يجمعها فقه واحد ولاحب منسجم ولا هدف كريم!!
ولو كان الأمر بأيدينا لأمرت بأن تقرر مادة دراسية عن (سقوط الأندلس) ..وعن نظائره من دروس السقوط الموجودة في على طول تاريخنا الإسلامي ..
ماذا حدث لدولة الإسلام في الهند حتى أصبح المسلمون أقلية مضطهدة؟!
لماذا سقطت دولة الخلافة العثمانية؟
ولماذا ضاعت صقلية وقبرص ورودس؟
لماذا تخلفنا علمياً بعد أن كنا علماء الدنيا وأساتذنها؟
لماذا أصبحت الحروب بين المسلمين أضعاف الحروب التي بينهم وبين أعدائهم؟
لماذا تمزقت الأمة الإسلامية إلى حوالي خمسين دولة؟
ولماذا وإلى متى نظل ممزقين متخلفين ندفع دائماً ثمناً باهظاً في تحولات السياسة الدولية، ونخدع أنفسنا بآمال معسولة تخديرية – نعلم يقيناً –بأنها سراب وخداع ونصدقها؟!!.
فهل نطمع أن يقوم الحكام المسلمون وصناع القرار التعليمي بتدريس النتائج والدروس المستفادة من تاريخهم؟!!.. أم أن هذه الدوس ستظل حكراً على إسرائيل ودول الغرب؟!!..بينما ندع أبناء الأمة الإسلامية يغطون في سبات عميق، أو نخدرهم بأوهام التركيز على الصفحات المضيئة في تاريخ الأمة الإسلامية..تاريكين الصفحات الأخرى السلبية والمأساوية..مع أن الله سبحانه وتعالى عندما قص علينا تاريخ الأمم السابقة بين لنا أن المهم ليس السرد التاريخي، بل المهم استيعاب الدرس والعبرة يقول تعالى: { قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ.فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ . ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}(يونس:101-103)
إن الآية القرآنية – وهي إحدى الآيات الكثيرة المتصلة بسقوط الحضارات – تحدثنا من خلال أمر إلهي على النظر الثاقب المرتبط بإرادة التغيير – أي بالإيمان..وهي تبين لنا أن النظر المغرور المتثائب المجرد من الإيمان لن يقود إلى الحق..بل لن تغني عنه النز المادية شيئاً.
هذه دعوة صادقة نقدمها لإعادة كتابة مناهج التاريخ من جديد وإبراز النتائج الدروس المستفادة من الأحداث والوقائع للاستفادة منها في رسم مستقبلنا, فالتاريخ هو المكون الأساسي للمستقبل لمن يعرف كيف يقرأه بعين الخبير البصير الفاحص، والكيس من اتعظ بغيره ولم يكن عبرة للآخرين.. وقفة تأمل
إن مثل القوم نسوا تاريخهم…كليقط عي في الحي انتسابا
أو كمغلوب على ذاكرة…يشتكي من صلة الماضي انقضابا