وعد بلفور والتعهد بارتكاب الجريمة 3\3- بقلم : منير شفيق

دراسات ….
بقلم : منير شفيق – الاردن …
الكيان الصهيوني والمستقبل
ثمة قراءات عدة يمكن لها أن تتتناول حتمية زوال الكيان الصهيوني بعضها يستند إلى مرجعية دينية، ويعضها يعتمد سنن زوال الكيانات والدول والامبراطوريات، وبعضها يتناولها بالمقارنة بالتجربة الفرنجية (“الصليبية” كما يسميها المؤرخون الغربيون) في فلسطين، أو بتجربة الكيانات العنصرية في أفريقيا. أما القراءة التي ستعتمدها هذه الورقة فترتكز أساساً إلى ثلاثة مرتكزات:
الأول يفترض فقدان الكيان الصهيوني لأهم عامل من عوامل تشكل الحركة الصهيونية المعاصرة وحمايتها ورعايتها وتمكينها من الهجرة إلى فلسطين ثم إقامة دولة الكيان على حساب تهجير ثلثي شعبها. ثم تمكينها لتصبح أقوى قوة عسكرية في المنطقة العربية –الإسلامية. وهذا العامل هو عامل السيطرة الغربية الإستعمارية- الإمبريالية العالمية التي تمثلت، أولاً في بريطانيا ثم بريطانيا-فرنسا، ثم أمريكا- الغرب.
هذا العامل الذي لعب الدور الأول والأساسي في إقامة دولة الكيان وتمكينها وتعزيز تفوقها العسكري على من حولها يقع تحت حكم السنن التي تنطبق على انهيار الامبراطوريات العالمية الحتمي في التاريخ. وقد أخذت علامات، أو وقائع كثيرة، تبرز على سطح الوضع العالمي والإقليمي تؤكد على بدء تزعزع السيطرة الغربية العالمية، واتجاهها نحو الضعف والأفول. الأمر الذي سيؤثر حتماً في مستقبل الكيان الصهيوني في فلسطين. (حتى لو حاول إيجاد بدائل دولية) وقد يصل الأمر هنا بسبب ما قام من علاقة عضوية بين الكيان والهيمنة الغربية على العالم إلى الاستنتاج بلزوم إصابة الكيان بالضعف والأفول.
على أن هذه العلاقة لم تعد من الناحية العضوية كما كانت في مرحلة تشكل الحركة الصهيونية المعاصرة 1897- 1917، كما لم تعد كما كانت بين 1918- 1948. ولا حتى كما كانت في السنوات الأولى التي تلت إقامة دولة الكيان الصهيوني (في الخمسينيات والستينيات). فقد أخذ الكيان في مرحلة ما بعد تشكل دولته يستقل نسبياً في بناء مشروعه الخاص في المرحلة الجديدة، كما في بناء قوته العسكرية والتوسع في علاقاته الدولية. فعلى سبيل المثال كان امتلاكه للقنبلة النووية يجسد التوجه في عدم ربط مستقبل وجوده بما تؤمنه الحماية الغربية له. وذلك تحسباً لما قد يطرأ على القوى الكبرى من متغيرات قد تنعكس سلباً على وجود الكيان الصهيوني فامتلاك القنبلة واحدة من عوامل عدم الاعتماد على الحماية الغربية اعتماداً مطلقاً.
ويمكن أن يسجل، في هذا الاتجاه نفسه، ما حدث من تطور في نفوذ الحركة الصهيونية حين انتقلت في دول الغرب من الدور الوظيفي إلى دور الشريك بل حتى المسيطر صاحب النفوذ الذاتي على من كانوا بالأمس أولياء النعمة بالنسبة إلى الحركة الصهيونية. هذا يعني أن مستقبل الكيان لم يعد تحت رحمة ما يحدث من متغيرات في الدول الغربية كما كان في عهوده الأولى وإنما أصبح فاعلاً في تلك المتغيرات. أي أصبح شريكاً إلى حد بعيد في القرار.
ولهذا لا يمكن الخروج بالاستنتاج الذي يعني أن ما سيحدث للسيطرة الغربية العالمية سينعكس تلقائياً وكلياً وفورياً على مستقبل الكيان الصهيوني. ومن ثم فالرابط هنا بين حتمية تراجع السيطرة العالمية الغربية وتراجع استمرار بقاء الكيان الصهيوني ليس حتمياً وتلقائياً. ولكن يظل، في الأقل، عاملاً أساسياً في تراجع شروط بقاء الكيان واستمراريته.
صحيح أن عامل تراجع السيطرة الغربية العالمية يجب أن يبقى على رأس ما يجب أن يحسب عند تناول مستقبل وجود الكيان الصهيوني في فلسطين. ولكن مع ملاحظة كيف سيتطور الوضع العالمي بعد تراجع تلك السيطرة، مثلاً هل ستحل محله سيطرة دول كبرى ونظام عالمي جديد بناء على تلك السيطرة أم ستنشأ دول كبرى ولكن دون أن يكون لها سيطرة عالمية على نظام عالمي يخضع لها. وذلك بمعنى تعادل قوى متنازعة في ظل فوضى ولا نظام، الأمر الذي لا يسمح للكيان الصهيوني أن يضمن بقاءه بالاعتماد على حماية جديدة، كما في السابق، تقوم مقام الحماية الغربية.
احتمالات ما سيحدث من تطورات في العالم بعد تراجع السيطرة الغربية العالمية ستكون متعددة ولا يَسهل “التنبؤ” بها. ولكن أياً من السيناريوهات المحتملة لن تكون في مصلحة بقاء دولة الكيان الصهيوني كما كان الحال في ظل المنتصف الثاني من القرن العشرين إلى اليوم. ولكن في الأغلب ستتراوح رياحها التي ستهب في مصلحته، وضد مصلحته، في آن واحد. الأمر الذي يفرض عليه منذ الآن أن يكون شديد القلق من المستقبل، لا سيما ونحن نتابع تراجع السيطرة الأمريكية منذ عشر السنوات الأخيرة تراجعاً مشهوداً أو ملموساً، وإن لم يصل مرحلة النهاية بعد.
العامل الثاني، إذا كان الكيان الصهيوني قد وصل الآن إلى ما وصل إليه من قوة ذاتية، عسكرياً وتكنولوجياً وإنتاجياً ومالياً، ومن علاقات دولية قوية، مع مختلف الدول الكبرى التي أخذت تحتل مواقع هامة في النظام العالمي الراهن مثل الصين وروسيا والهند، فإن هذه القوة الذاتية العسكرية أخذت تدخل في مرحلة التراجع ليس بسبب تراجع السيطرة الغربية العالمية فحسب وإنما أيضاً بسبب عوامل داخلية ذاتية في الكيان الصهيوني نفسه. وهذا ما كشفته بشكل صارخ هزائمه في حروب أربع هي حرب 2006 في لبنان وحروب 2008/2009 و2012 و2014 في قطاع غزة.
أ‌-       فالجيش الصهيوني لم يعد جيش الطلائع، الأولى والثانية، وإنما دخل في مرحلة الترهل عدا قوة النيران والطيران والصواريخ، ولم تعد قواته البرية قادرة على الاقتحام والاحتلال. فالضابط لم يعد يتقدم جنوده، ولا جنوده يتقدمون من دونه. فالجيش منذ 25 عاماً يقوم بأعمال شرطي، وضباطه يترقون من خلال قتل الشباب أو اعتقالهم. وهذا كله منقول عن تقديرات صهيونية أو صديقة للصهيونية عند محاولة تقويم سبب الهزائم في الحروب الأربعة.
ب‌-  والقيادات السياسية الصهيونية هبطت في مستواها عن مستوى القيادة السابقة، وازدادت تطرفاً وفساداً فضلاً عن تخلفها. الأمر الذي يجعلها عرضة لارتكاب الأخطاء الفادحة في السياسة، وفي إدارة الصراع، وفي الوقوع بالعزلة العالمية.
جـ – وكذلك حال المجتمع في الكيان الصهيوني الذي أصبح أكثر انغماساً في المجتمع الاستهلاكي وأكثر ميلاً للانحياز إلى التيارات المتدينة ضيقة الأفق والغبية.
وبهذا يكون توجه الكيان الصهيوني نحو التراجع والضعف قد أخذ يتشكل من خلال بنيته نفسها التي سبقت بالإسهام في تحقيق ما وصله الكيان الصهيوني من قوة ذاتية في مرحلة الحرب الباردة.
الثالث: ثم هنالك العامل الثالث. أي العامل الفلسطيني والعربي والإسلامي الذي كان ما بين 1918-1948 مكبلاً  بالسيطرة الاستعمارية ومشلولاً بسبب التجزئة العربية ومحكوماً بأنظمة مقيدة بالمعاهدات الاستعمارية والسيطرة المباشرة. وقد استمر هذا الوضع المجزأ في عهد الاستقلال محكوماً بنظام دولي وإقليمي وعربي تحت السيطرة الإمبريالية. وأما من أفلت منها أو حاول الإفلات (من السيطرة) كان مصيره التعرض لحروب غير متكافئة مع جيش الكيان الصهيوني، أو تعرض للحصار والمقاطعة والإنقلابات، (مثلاً تجربة عبد الناصر).
ومن هنا فإن هذا العامل إذا ما رفعت السيطرة الغربية عن العالم وإقليمياً وعربياً وفلسطينياً فستكون ثمة فرص ليلعب دوراً أقوى من أدواره السابقة التي ساعدت على تمرير المشروع الصهيوني في فلسطين وتمكينه. بل يمكن حتى لجزء من بلدين أو أكثر أن يلعب دوراً كبيراً في إنجاز نهاية المشروع الصهيوني في فلسطين وذلك إذا ما جاء تطور العاملين السابقين في اتجاه التراجع والأفول بالنسبة إلى السيطرة الغربية وإلى ضعف البنية الصهيونية في موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية. مما قد يفسح المجال أيضاً للرأي العام العالمي ليرى القضية الفلسطينية، من جهة والكيان الصهيوني من جهة ثانية، بعيون أخرى غير التي نظر من خلالها في السابق.
من هنا، وبالتأكيد، لن يكون المستقبل بالنسبة إلى الكيان الصهيوني كما كان ماضيه، ولا كما هو حاضره. فالعوامل والشروط (موازين القوى) التي جاءت به، ستذهب به إذا ما انقلبت وتغيرت بالاتجاه المعاكس. وعندئذ لن تنفعه مئات القنابل النووية، فلا شيء يجدي حين يجيء أوان الأقوى.
وبعد هذا، أضف ما يمكن أن تُقرأ، من خلاله، نهاية الكيان، دينياً، أو تاريخياً، أو حضارياً.