دراسات ….
بقلم : منير شفيق – الاردن ….
المشروع الصهيوني بعد قيام “دولته”
ثمة سمتان خاصتان لإقامة دولة الكيان الصهيوني، تختلفان عن السنن التي تشكلت الأمم والدول على أساسها. السمة الأولى أن قرار إقامة دولة الكيان الصهيوني في فلسطين جاء بقرار من هيئة الأمم المتحدة. وهي لا تملك من خلال ميثاقها أو نظامها الداخلي حق إقامة دول أو إلغائها، فضلاً عن أن اتخاذها ذلك القرار جاء مخالفاً مخالفة صريحة للقانون الدولي الذي يحصر تقرير المصير في البلدان المستعمَرة، كفلسطين، على شعبها الأصلي الذي كان يسكنها حال حدوث احتلالها من قِبَل الاستعمار.
أما السمة الثانية فهي تشكّل الجيش قبل أن يتشكل المجتمع تاريخياً على أرض محددة. وقد تشكل الجيش من مهاجرين وفدوا من عشرات الدول التي يحملون جنسيتها، وهم في حالة ميليشيات عسكرية في المستعمرات (المستوطنات) التي أقاموها، كما في حالة جيش الهاغناه الذي تولى شن حرب وجود لاقتلاع الشعب الفلسطيني والحلول مكانه، فضلاً عن خوضه حرب 1948، ضد مقاومة فلسطينية، مجردة من السلاح عملياً، وسبع جيوش عربية لم يزد عديدها على 23 ألفاً مقابل 66 ألفاً عديد جيش الهاغناه في حينه. أما التفوق في السلاح فكان بنسبة 10 إلى واحد، على الأقل، في مصلحة جيش الهاغناه الذي سُلّح بما تركه جيش الاستعمار البريطاني من أسلحة ثقيلة: مدافع، دبابات، طائرات.
مجتمع دولة الكيان الصهيوني ركب على الجيش وتشكل من حول الجيش وهذه عكس حالة المجتمعات التي تتشكل تاريخياً على أرض واحدة، ومنها تتشكل دولة وجيش وشعب وأمة. فمن يراجع تاريخ تشكل مجتمع الكيان الصهيوني فسيجده مخالفاً لذلك تماماً.
فالكيان الصهيوني تشكل خلال ثلاثين عاماً عملياً من 1918-1948 من مهاجرين دخلوا فلسطين بحماية الحراب البريطانية. وقام الانتداب البريطاني من خلال الهجرة اليهودية المتعددة الألسن والجنسيات والمنابت الاجتماعية بإحداث تغيير ديمغرافي في فلسطين. وبهذا خالف القانون الدولي الذي لا يجيز للاستعمار أن يُحدث أي تغيير ديمغرافي، أو جغرافي، في البلد الذي يستعمره. ويعتبر ذلك غير شرعي وتجب إزالته.
تكونت هذه الحالة المخالفة لسنن تشكل المجتمعات والشعوب والأمم والدول في إطار المشروع الاستعماري البريطاني الذي استهدف إقامة “الكيان الحاجز” في فلسطين، أو قل “الكيان الحاجز اليهودي”. وذلك بهدف منع مصر من تكرار تجربة محمد علي في النهضة وفي الوحدة العربية، أو الإسلامية. وبهذا كانت المحصلة المحتومة هي ولادة كيان غريب معادٍ لمن حوله قومياً وثقافياً وحضارياً وأهدافاً ومصالح ووجوداً من حيث أتى.
ومن هنا كان لا بدّ لهذا الكيان من أن يتعلم مؤسسوه ومن يفد إليه بعدهم من مهاجرين، لغة واحدة، وأن يعتادوا على أن تتقارب عاداتهم وعلاقاتهم في ما بينهم من خلال المؤسسة العسكرية أولاً، ومن خلال “المجتمع” الذي تجمع حولها ليخدمها ويرفدها بالمقاتلين ثانياً. الأمر الذي فرض عليه لمدى العقود الثلاثة أو الأربعة الأولى أن يكون متقشفاً ليؤمن، فوق كل المساعدات الخارجية الهائلة، أكبر موازنة للجيش، ليتفوق على كل ما حوله من جيوش وقوى مقاومة. فضلاً عن تأمين التوسع إلى أقصى حد ممكن.
بكلمة، تأسس المجتمع الصهيوني بعد 1949 مجتمعاً عسكرياً محارباً متقشفاً، فكانت التعبئة العسكرية تشمل النساء كما تشمل الرجال. وكان لمن تجاوز سن العسكرية مواقع في الخدمة المدنية في أثناء وقوع الحرب.
طبعاً هذا كله أريد منه أن يصبح جيش الكيان الصهيوني أقوى من أي جيش عربي بل أقوى من أي تحالف لجيوش عربية ضده. ولكن أيضاً مع استمرار الحماية الإمبريالية التي انتقلت تدريجاً من بريطانيا وفرنسا إلى أمريكا وقد تمثل ذلك أول ما تمثل بعد أن وضعت الحرب أوزارها في هُدَن 1949، من خلال البيان الثلاثي الأمريكي- البريطاني- الفرنسي لعام 1951، والذي تعهد بالحفاظ على خطوط اتفاقات الهدنة التي قامت بين الكيان الصهيوني وكل من الأردن ومصر وسورية ولبنان.
إن التعهد بالحماية السياسية والعسكرية الدولية لم يكن كافياً وإنما كان المطلوب أن يُصار إلى دعم الجيش الصهيوني بسلاح متفوق لا سيما في مجال الطيران والسلاح الثقيل والدبابات والتكنولوجيا، ولا تسل عن التدريب والتخصصات. أما في المقابل فقد استمرت استراتيجية الدول الغربية المصدر الأساسي والأوحد للتسلح العربي. ووضع سقف متدنٍ لتسلح الجيوش العربية وتطوير قدراتها وإعدادها. وقد استمر هذا الوضع طوال الوقت حتى يومنا هذا عدا المرحلة التي اخترق فيها جمال عبد الناصر هذا الاحتكار بصفقة السلاح التشيكي عام 1955. ثم تبعته سورية فالعراق فالجزائر. ولكن هنا أيضاً بالرغم من ارتفاع سقف التسلح العربي من الاتحاد السوفياتي ظل أدنى، بشكل واسع، من سقف التسلح الصهيوني وقد تحكّم في هذا الموضوع ما جرى من اتفاقات وتفاهمات بين المعسكرين في مرحلة الحرب الباردة.
باختصار اتجهت الاستراتيجيات الدولية إلى المحافظة على هوّة واسعة بين تسلح الجيش الصهيوني وتزويده بالتكنولوجيا من جهة، وبين تسلح الجيوش العربية فرادى ومجتمعة. وقد اقتضى هذا ما عرفته الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات من حروب واعتداءات وسياسات حصار وضغوط هائلة حتى يبقى جيش العدو هو الأقوى، والقادر على هزيمة أي جيش عربي وتهديد عاصمته. ولا ينبغي لأحد أن ينسى في هذا الصدد الاستراتيجيات الغربية التي ساعدت الكيان الصهيوني على امتلاك القنبلة النووية وإنتاج المئات منها فضلاً عن وسائط نقلها إلى أهدافها. فيما بُذلت كل الجهود لمنع أية دولة عربية من امتلاك القنبلة النووية لا سيما من جانب مصر أو العراق (فمصر أجبرت على إغلاق مركز بحوثها النووية، والعراق قصف مركزه النووي).
وبهذا استطاع الكيان الصهيوني ضمن المعادلة الدولية المذكورة أن يهزم الجيش المصري عسكرياً في حرب العدوان الثلاثي 1956، ثم في حرب 1967، إلى جانب الجيش السوري والأردني. ثم الرد على اقتحام الجيش المصري لخط بارليف عام 1973 وذلك بفتح ثغرة الدفرسوار، كما من خلال الجسر الجوي الأمريكي لإمداده بالسلاح والمعلومات الميدانية، كما استعادة الهجوم في منطقة الجولان السورية في حرب 1973، ثم أضف حربي 1978 و1982 في لبنان وإخراج المقاومة الفلسطينية منه. هذا إلى جانب عشرات الاعتداءات على مواقع عسكرية وقرى ومخيمات.
يمكن القول أن القوة العسكرية التي امتلكها الجيش الصهيوني وما تلقاه من دعم سياسي ومالي واقتصادي وتكنولوجي وتسلحي من بريطانيا وفرنسا ثم، على الخصوص، من أمريكا جعله الجيش الأقوى المعربد في المنطقة العربية- الإسلامية المحيطة لمدى دام ما بين 1949-2000. أي ما يقارب نصف القرن.
هنا أيضاً بقيت الأولوية، أو الفضل الأول، في ما وصله الكيان الصهيوني من قوة وإمكانات وتطور وتقدم علمي وتكنولوجي يعود إلى ألوان الدعم الأمريكي- الأوروبي والسيطرة على الوضع الدولي، بما في ذلك حتى في مرحلة اشتداد ساعد الاتحاد السوفياتي وازدياد نفوذه العالمي.
أما دور الحركة الصهيونية العالمية ودور المشروع الصهيوني لدولة الكيان، فقد تعاظما في التأثير في السياسات الغربية خلال الخمسين سنة المذكورة حتى وصلا إلى ما يشبه حالة الشريك عالمياً، والشريك في السلطة داخلياً. فالكونغرس الأمريكي مثلاً شبهه باتريك بوكانن، وهو كاتب معروف ومرشح سابق للرئاسة الأميركية، بمستعمرة إسرائيلية، إذ لم يعد بإمكان مرشح للرئاسة في أمريكا إلاّ تقديم الولاء للوبي الصهيوني والإعلان عن الدعم شبه المطلق للكيان الصهيوني، شرطاً لوصوله إلى سدة الرئاسة. وعلى ذلك قس أغلب أعضاء الكونغرس بقسميه.
وبالطبع ما كان لدولة الكيان وللأقليات اليهودية الصهيونية واللوبيات أن تبلغ هذا المستوى من النفوذ في بلدان الغرب ولا سيما في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية لولا ما قام من تبنٍ إمبريالي لإقامة الكيان الصهيوني: مما ساعد الحركة الصهيونية أن تنطلق بتشكيل اللوبيات بحرية، إن لم يكن بتشجيع الدولة والأحزاب المتنفذة. ويمكن أن يضاف هنا عامل الصراع بين المعسكرين في مرحلة الحرب الباردة وما يمكن أن تقدمه الحركة الصهيونية والكيان الصهيوني من خدمات للغرب في هذه الحرب. ومن ثم يخطئ من يظن أن بإمكان العرب والمسلمين أن يبلغوا ما بلغته الحركة الصهيونية واللوبيات من نفوذ في المجتمعات والدول والبرلمانات الغربية. وذلك إذا ما “تعلموا الدرس” من تجربة الحركة الصهيونية. إن من يظن إمكان ذلك، لم يفرق بين العمل ضمن التيار المساعد والمشجع كما حدث مع الحركة الصهيونية من جهة وبين العمل، من جهة أخرى ضمن التيار المقاوم والمعارض للقضية الفلسطينية والمتواطئ مع الكيان الصهيوني. ويمكن لهؤلاء أن يراجعوا، حال الأقليات اليهودية المنتشرة في كثير من البلاد حين كانت في وضع متناقض مع التيار السائد، أو كان التيار السائد معادياً لها. وقد دام هذا الوضع المتسم بالضعف وعدم القدرة على الفعل والتأثير لمئات وآلاف السنين. ولم يبدأ بالتغير إلاّ بعد تبني بريطانيا، ومن بعدها عدة دول كبرى، مشروع إقامة الكيان اليهودي الحاجز في فلسطين. ولا سيما بعد قيام “دولة إسرائيل”. وأضف احتدام الصراع بين المعسكرين الإشتراكي والرأسمالي الإمبريالي في الحرب الباردة 1950-1990.
إن انتقال أقلية إلى مواقع التأثير والشراكة في بلد معين لا يتم بالشطارة ولا بحسن التنظيم والتخطيط، ولا بالمؤامرات والدسائس، وإنما في ظل موازين قوى محددة وسياسات من قبل القوة السائدة، تقتضي الاستعانة بتلك الأقلية وتشجيعها والسماح لها بالتمكن. وهنا تبدأ “الشطارة”، أو التنظيم والتخطيط والمؤامرات والدسائس لتفعل فعلها المساعد والمؤثر. وهو الذي توفر للأقليات اليهودية والحركة الصهيونية في الغرب أي السباحة مع التيار. فأنت لكي تصبح مقبولاً من قبل التيار السائد في الغرب يجب أن تكون ضد الحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية في فلسطين. ومع الاعتراف بالكيان الصهيوني والبكاء عند المحرقة، ويجب أن تكون ضد وحدة العرب وضد تحررهم ونهضتهم فعندئذ قد تفتح لك الأبواب (نصف فتحة).
طبعاً هذا لا يعني عدم العمل في الغرب، وإنما يعني عدم التوهم أن في الإمكان التشبه بالحركة الصهيونية فقط، كما يعني عدم رفع سقف التوقعات فوق مستوى معين.