القصة …..
بقلم / على حزين – مصر ..
صعد الى آخر قطار متجه إلي القاهرة , حشر نفسه وسط الكتل البشرية المعتركة الأجسام , المتدافعة بقوة وبعد معاناة ومشقة لم يجد مكاناً ليجلس فيه سوى خلف الباب كالعادة وحتى يتحاشى الكتل البشرية المتدافعة من شدة الزحام .. وقف خلف الباب في صمت وترقب ,
بضع دقائق معدودة ريثما يلتقط فيها أنفاسه ويعدل فيها من وضعه , وتهدأ وتعود إليه نفسه , والركاب في حالة تدافع بين نازل وراكب , والقطار يصفر فتتعالى الأصوات , وكان الجو حار جداً , والعرق يُلجم الناس إلجاماً , وهو واقف يجفف عرقة بمنديله الورقي المعطر ,
يتحرك القطار فتدخل نسمة هواء طرية تلف المكان وتلطف الجو , والوجوه , ينظر من نافذة القطار الي ميدان المحطة الذي خلا الا من بعض المارة , والعربات المنتظرة خلف المزنوقان والترعة التي بجوار شريط القطار , والكُبري العلوى الذي اُنشأ حديثاً لفك الزحام , والبيوت والمدارس التي راح يتجاوزها القطار في بطء ,
نظر إلي الخضار المترامي الأطراف, والنخيل والشجر النائم في سكون وسط الحقول , والي النوافذ المضاءة في جوف الليل , تمتم في نفسه بكلماته المشهورة “حدوته وراء كل باب ”
شعر بالتعب يمسك قدميه فجلس القرفصاء , سرح بعقله قليلاً , تصور المكان الذي هو ذاهب إليه , وتوقع ماذا سيحدث عندما يصل , وتخيل الكُل في انتظاره , وتخيل نفسه وقد أحتشد من حوله الناس يريدون أن يتعرفوا عليه ويتصوروا معه ويحظوا بتوقيعه الثمين , فقد أصبح رجلٌ مهماً للغالية, ومعترف به في المحافل والمنتديات الدولية , وعلي كل الأصعدة والمستويات بعد أن كان كماً مهملاً , ونسياً منسياً , أو هكذا سولت له نفسه
تحسس حقيبته السمراء التي ترقد فيها أوراقه المهمة ,والتي اشتراها خصيصا لذلك , وبعض الكتب التي يحرص دائماً بأن يصطحبها معه في السفر ….
تقع عينه على كرسي تركه صاحبه لتوه , بعدما أن حزم حقائبه , وامتعته , وأنزل أغراضه من على الرف , وهو يتهيَّأ للنزول في المحطة القادمة , وهو يشير اليه بيده بأن يأتي ليجلس مكانه , هب مسرعاً وفي غضون ثواني معدودة كان قد غرس نفسه في الكرسي , جلس مُمَنِيَاً نفسه بسفرية سعيدة , وبرحلة ممتعة ليلية عبر قطار نصف الليل , جلس في مكانه الجديد , وقد وضع قدم على قدم , وحقيبته السمراء فوق رأسه ,
” كثيراً ما يحدث ذلك معه وهو في سفره الي القاهرة , يقف خلف الباب منتظراً أحد الركاب ينزل في إحدى المحطات فيجلس مكانه , وربما اختلف الأمر وانعكست الآية معه وانقلبت الصورة فيقوم هو من مكانه ويُجلس غيره ليستريح , فالسفر قطعة من العذاب كما يقال , لكن فيه سبع فوائد ”
نظر في الوجوه التي تملأ العربة , تأملها لثواني معدودة , فرأى فيها الصمت يصارع الحزن ويتحالف مع البأس والشقاء , لاحظ امرأة شابة تحمل صبي علي صدرها مريض, أشفق علي الصغير وأمه فقام من مقامه وأجلسها مكانه , يبتسم في وجه الصبي وهو يفارقهما الي مكانه الأول خلف الباب , لاحظ بعض الركاب من رأوا المشهد يتهامسون وهم يبتسمون في خباسة ولؤم , لم يبالي بأحد ,
” كان يجب عليه أن يترفع عن تلك الأمور الصغيرة , فمتعة اللقاء وجمال المكان الذي حرص أن يكون متواجداً فيه والذي طالما كان يحلم أن يذهب إليه جعله يتحمل كل هذا العناء ”
انزوى خلف الباب مرة أخرى ومن جديد راح ينظر من النافذة الزجاجية المكسوة إلى بعيد , وسرح بخياله من جديد , وراح يتذكر, أول مرة ركب فيها القطار بعدما انصدم في حبه الأول
” سافر إلي القاهرة في تلك الليلة التي تزوجت فيها حبيبته برجل آخر, وكانت ليلة عصيبة وصيفيه مثل هذه الليلة , وكان صغيراً يومئذٍ لم يتعدى عمره السابعة عشر ربيعاً , أراد أن يترك لها البلد بما فيها , وأقسم ألا يعود الي بلده مرة أخرى إلا إذا حقق ذاته ونجح في حياته ويجعلها تندم على أنها باعته واشترت غيره ”
صوت الكمسري الأجش يخرجه من تداعياته
ــ تذاكر يا حضرت ..؟
مد له التذكرة , علَّم عليها بعدما نظر فيها , ثم ردها إليه ثانية , وضعها في جيبه , نظر في ساعة معصمه كانت تشير إلي الواحدة بعد منتصف اليل , لاحظ ضوء العربة ملائماً للقراءة , فأخرج كتاباً ليقرأه , ويقتل به الملل , والوقت , قلبه بين يديه ” مسافر ليل ” للمبدع الرائع ” صلاح عبد الصبور ” انغمس في القراءة بشغف ونهم , فهو يحب القراءة لدرجة الهوس , ولدرجة أنها أفقدته الكثير من نظره مما اضطره إلي الكشف علي عينيه , وصنع نظارة قارئه له , ..
نهض قام على قدميه , عدَّل من هندامه الأنيقة التي حرص بأن يكن مرتديها في هذا المكان وتلك المناسبة المهمة الذي هو ذاهب إليها , ابتسم في نفسه , لمَّا تذكر الأمس البعيد , وتلك الليلة الحزينة التي مرت به في القديم , وقارن بينها وبين تلك الليلة الجميلة ,
” اليوم هو متزوج من أمرةٍ جميلة يحبها جداً, وأنجب منها الأولاد , وأصبح ناجحاً في حياته العملية , والعلمية , وأصبح رجلٌ مهماً ومشهوراً وأصبح شخصيةً عامة يدعى للمؤتمرات والمحافل العلمية الهامة, ويدعى من قبل المسؤولين ليحضر المؤتمر السنوي الذي سوف ينعقد غداً , وسوف يتكلم فيه ويلقي كلمته ويسمعه الجميع , ويصفق له , وقد سجل التاريخ اسمه بحروف من نور , أما هي فقد ابتلعتها الحياة , واختفت , وذابت بل غرقت في دوامات الدنيا , وأصبحت نسياً منسيا , مرة واحدة يتيمة تقابلت فيها الوجوه , وامتدت فيها الأيادي بينهما بالسلام , لكن لم يشعر حيالها بنفس المشاعر ولا بنفس الأحاسيس التي كانت تملأه في الماضي نحوها ” ..
أخرجهُ من تداعياته مرة أخرى صوت الكُمسري وهو يهزه من كتفه ,
ـــ تذاكر يا حضرت ….؟!
ــ ……………
القطار ينساب بين المدن البعيدة .. والليل المترامي الأطراف يحمل في جوفه فجراً جميلاً , وهو من حين لأخر ينظر إلي ساعة يده , ويحسب كم مضى من الوقت , والنوم يسرق بعض العيون, والباعة الجائلون في القطار في حركة دائبة رتيبة لا تنقطع وهو من حين لآخر يرسل عينيه نحو حقيبته التي ترقد علي إحدى الرفوف بسلام , لاحظ أم الصبي وقد سرق النوم عينيها الكليلة , والصبي لم ينم , ينظر إليه من حين لأخر ويبتسم , فيبتسم له الصبي ابتسامة عريضة وصادقة , تذكر أبنائه الذين يحبهم كثيراً , ويسعى جاهداً في اسعادهم , وتعليمهم , وتوفير المعيشة الكريمة لهم ,”
يقترب القطار من إحدى المحطات , يخرج رأسه من القطار يقرأ اللافتة التي على الرصيف , وينظر في وجوه الناس التي تتهيأ للركوب في القطار , ينزل اُناس ويركب أخرون , يتأمل المشهد الذي يشبه الحياة كلها ,
” القطار والحياة والناس زائد الرصيف والمحطات , فالدنيا كالقطار , والناس بين راكب فيه ونازل منه , كل من تأتي محطته ينزل من القطار ليركب غيره في قطار الحياة من جديد , الناس تنزل من القطار بصعوبة بالغة من شدة الزحام والأجسام المعتركة وهم يحملون حقائبهم وامتعتهم علي اكتافهم , من جديد سرح بخياله بعيداً , تمتم في نفسه وهو مبتسماً : ــ لم يزل في الوقت متسع وبقية ”
أقلع القطار من جديد , بعدما أعلن له ناظر المحطة بالإقلاع , وانطلق القطار يطوي المسافات البعيدة, ويتخطى المدن النائمة ويعلن صولجانه وسطوته ويجوب بهدير عجلاته وسط الحقول المترامية الأطراف , وراح النوم يتسلل ليسرق العيون من جديد , وهو قد شعر بالملل أخرج آخر سيجارة كانت في جيبه ليشعلها, وراح يتجول ببصره في المكان , في محاولة لاستكشاف امرا ما , وبدأ الملل يشتد ويتسرب الي نفسه .. ففكر في قطع حبل الملل الذي راح يطوقه , وقتل الانتظار , ففكر يخرج كتاب ” مسافر ليل ” مرة أخرى من حقيبته السمراء , لكن تراجع عن فكرته تلك وخصوصاً النور في العربة قد خفت , ولا يشجع على ذلك , فاكتفى بالاسترخاء على الكرسي , وقد علق عينيه في السقف , وسرح بعيداً بعيداً بخياله , وفي هذا اللقاء الهام المرتقب , المنتظر ,
***************