فن وثقافة (:::)
طلال قديح * (:::)
ولله في خلقه شؤون، سبحانه ، خلق كل شيء بقدر، ولحكمة تفاوت البشر، واختلفت الرؤى ووجهات النظر.
وذهب الناس مذاهب شتى في الحياة، فمنهم من جبلت نفسه على الكد والجد، تتوق دوماً لأعلى مراتب المجد، وتتطلع لبلوغ المعالي والسؤدد.
يدرك هؤلاء أن الطريق شاق وطويل، لكنهم يؤمنون بأن لا شيء مستحيل ، وأنه يقصر مع العزم والإصرار الذي يقتحمون به الأخطار ويعبرون به البحار فينالون المجد والفخار.
حباهم الله إرادة قوية وعزيمة فولاذية، لا يستسلمون إن تعثرت الخطا أو اختلفت الرؤى ، بل يمضون إلى غايتهم ولا يلتفتون وراءهم أبداً، يواصلون المشوار حتى النهاية ، ويحققون الهدف والغاية.
هؤلاء هم الرجال الرجال ، الذين لا يتهيبون صعود الجبال، ويعشقون الوصول لأعلى مراتب الكمال، وتحقيق الآمال.
هذا صنف ألف الصعب والمطلب الوعر، لا يكل ولا يمل، يواصل الليل بالنهار، بعزيمة وإصرار، لا ينام ولا يضام، كل همه بلوغ المرام، فتقر عينه ويهدأ باله وتطيب نفسه.
أما الصنف الآخر، وهو الأكثر،فهو يؤثر الراحة على التعب، والنوم على السهر، يرضى من الغنيمة بالإياب، ويؤثر الكفاف على الغنى، والكسل على العمل.عزيمته وإرادته في أدنى مستوى.
ومع ذلك، ينفسون على غيرهم، ممن تسنموا ذروة المجد، وينظرون إليهم بحقد وحسد، متسائلين: أما كنا الأولى منهم؟ ماذا ينقصنا حتى نكون مثلهم؟و..و..؟
نسوا أنهم ناموا في الوقت الذي فيه سهرمنافسوهم، وتلكأوا فيما عزم الآخرون وشمروا عن سواعد الجد، وتحدوا الصعاب حتى وصلوا المجد، وأصبحوا يشار إليهم بالبنان ، وأضحت أسماؤهم أجراساً تدق في عالم النسيان، ومنارات هادية للأجيال.
ولولا أن الطريق إلى المعالي محفوفة بالمشاق، مليئة بالتضحيات، حافلة بالعقبات، لساد كل الناس، وتساوى الشجاع والجبان والمجدّ والكسلان، وماتت المروءة وتهدم البنيان.
لا مكان في الحياة للكسالى الجبناء، أو المتخاذلين الضعفاء ، المنتظرين رزقاً من السماء بلا كد أو عناء.
إنهم بذلك يحكمون على أنفسهم بالتلاشي والفناء بعيداً عن عالم لا يقدر إلا الأقوياء ذوي الهمم القعساء التي تتخطى حدود الفضاء، وألسنتهم تردد بشموخ وإباء:
تعالوا نقل للصعب أهلاً،فإننا شباب ألفنا الصعب والمطلب الوعرا
شباب نزلنا حومة المجد كلنا ومن يغتد للنصر ينتزع النصرا
الحياة كلها تعب وشقاء، ولله در أبي العلاء المعري إذ يقول:
تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد
لكن في سبيل المعالي، يهون التعب و يتضاعف العمل، ويتحقق الأمل .
خلق الناس للبقاء فضلّت أمة يحسبونهم للنفاد
زخر الشعر العربي بالحكمة التي تدعو إلى الجد والمثابرة ونبذ التواكل والرضا بالكفاف.
واخنزل شاعر الحكمة التي تعكس تجربة واسعة وتجسّد رؤية واضحة، وبصيرة نافذة، حتى ظلت مرجعاً وملهماً لكل طلاب الرفعة والسؤدد.اختزلها المتنبي، مالئ الدنيا وشاغل الناس، في قوله، الذي نردده بصوت عال:
لا يدرك المجد إلا سيد فطنٌ بما يشق على السادات فعّال
لولا المشقةُ ساد الناسُ كلُهم الجودُ يُفقرُ والإقدامُ قتّالُ
كاتب ومفكر عربي