فن وثقافة (:::)
طلال قديح * كاتب فلسطيني من السعودية (:::)
الشعر ديوان العرب ، وسجل كامل لحياتهم بما حفلت به من مكارم وأمجاد، توارثها الأبناء والأحفاد عن الآباء والأجداد، وظلت موئل فخر واعتزاز ومبعث مباهاة ومصدر إلهام يتجدد مع مرور الأعوام.
ومن أغراض الشعر العربي ، الغزل، الذي صور حياة العربي الزاخرة بالحب والغرام والعشق والهيام ، فحلّق الشعراء في سموات الإبداع ممتطين أجنحة الخيال التي تعبر بهم الفيافي والجبال، وتحط بهم قريبا من منازل الحبيب ، فلعل العيون تكتحل برؤيته ، وتطرب الآذان بسماع صوته وتهدأ النفوس بقربه!!
الغزل تاج الشعر المرصع باللآلئ ، والمشحون بالعاطفة الصادقة، والمشاعر الجياشة، يتدفق من القلب ليلامس القلب ، فيهتز حباً وهياماً.
واعتبر العرب الحب من لوازم الحياة التي لا غنى عنها، ولا بديل لها ، فلا حياة بلا حب أبداً، لذا قال الشاعر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى… فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
وقال آخر : إذا أنت لم تعشق ولم تدرما الهوى فما لك في طيب الحياة نصيب
وقال ثالث: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فأنت وعيرٌ في الفلاة سواء
وقال رابع : إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فقم فاعتلف تبناً فأنت حمار!!
وهكذا ، فالعشق يشعل جذوة الغزل ويزيدها اشتعالا. وما أكثر قول الحكماء فيه!!
منه: العشق يروّض النفس ، ويهذّب الأخلاق، وإظهاره طبيعي ، وإضماره تكليفي.
وقال آخر: من لم يهيّج نفسه بالصوت الشجيّ ، والوجه البهيّ، فهو فاسد المزاج، يحتاج إلى علاج.
وقال ثالث: العشق للأرواح بمنزلة الغذاء للأبدان، إن تركته ضرك، وإن أكثرت منه قتلك.
العشق زاد الشاعر العربي، الذي يصحبه في الليل والنهار، وفي الإقامة والترحال، وهو النور الوهاج الذي ينير له الطريق ويهوّن عليه المشاق ويروّض له الصعاب.
زخر شعرنا العربي بشعراء غزل ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، وغرد كل واحد باسم محبوبته التي لازمته وأصبح اسمه ملازما لاسمها، وغدا كل واحد منهما علماً للآخر. فهذا مجنون ليلى قيس بن الملوح، وهذا جميل بثينة، وكثيّر عزة، وهذا عمر بن أبي ربيعة الذي انفرد بسمة خاصة به، وتميز بها عمن سواه.والقائل:
إني امرؤ مولع بالحسن أتبعه لا حظ لي منه إلا لذة النظر
أما قيس فقد جُنّ بليلى، وملكت عليه حياته، وغدا يتنفس الهواء القادم عبر مضارب أهلها:
ولقد أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
وربما تخيلها مع الظباء فيتساءل:
بالله يا ظبيات القاع قلن لي ليلاي منكن أم ليلى من البشر؟؟!!
وهذا كثيّر عزة يبكي حبيبته:
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ولا موجعات القلب حتى تولت
أما جميل بثينة فيتحسر على أيام الشباب السعيدة، ويتمنى أن تعود بما فيها من ذكريات جميلة:
ألا ليت ريعان الشباب جديد ودهراً تولى يا بثين يعود
وبقي الغزل من أهم أغراض الشعر العربي في كل العصور، فنظم الشعراء غرر القصائد الخالدة.فعرفنا شوقي وإبراهيم ناجي ، والجواهري، ونزار قباني، وآخرين، تردد الألسنة أشعارهم صباح مساء.ولم ينس شعراء المهجر، على الرغم من البعاد، تراثهم، فنظموا وأبدعوا مع الحنين إلى الوطن مسقط الرأس ومربع الأهل.
صادف الشاعر القروي في مهجره بالبرازيل، فتاة تسير في الطريق ،بلغت الذروة في الجمال، فاستقطبت العيون وشخصت إليها الأبصار في عجب وانبهار، فقال:
وفاتنة كأن الله لما حباها الحسن ما راعى الحسابا
برازيلية وطناً ولكنها إلى الأعراب تنتسب انتسابا!
لها لحظ سألت عن المنايا ولاحظني فلم أطلب جوابا
يصيب إذا يَرى ويُرى سواء فلا حرج عليه إذا أصابا
ولله در القائل:
أنزّه في روض المحاسن مقلتي وأمنع نفسي أن تنال محرّما
والقائل:
وأقلّب طرفي في السماء لعله يوافق طرفي طرفها حين تنظر
والقائل،وهو جميل بثينة:
علقت الهوى منها وليداُ ولم يزل إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
فما ذكر الخلان إلا ذكرتها ولا البخل إلا قلت سوف تجود
أفنيت عمري في انتظار نوالها وأبليت فيها الدهر وهو جديد
وهذا يمثل قمة السمو والعفة، وذروة الغزل العذري الذي تغنى به فحول الشعراء، وأشاد به النقاد والأدباء ليظل نور بهجة ونقاء ومنبعاً للعشق والوفاء.
•كاتب ومفكر عربي
•7/3/2015م