كيف يمكن انقاذ حياتك اذا كنت قد مت حقا؟! بقلم : مهند النابلسي

فن وثقافة ….
بقلم : مهند النابلسي – الاردن ….
يتحدث هذا الفيلم الغريب عن امرأة شابة تتعرض لحادث سير مروع يضعها ما بين الحياة والموت، وحيث يقوم مديرالجنازات الذي يملك موهبة التخابر مع الميتين حديثا، وربما قصدا بدفنها وهي ما زالت حية!
في مساء رومانسي تلقى أنا صديقها الحميم باول لعشاء فاخر، وحيث يفاجئها برغبته للانتقال لشيكاغو بهدف الترقية الوظيفية، وبينما كان يقصد أن ينتقلا معا، شعرت هي بأنه سيتركها ويذهب وحيدا، لذا تغادرالمطعم غاضبة، وفيما تحاول السواقة في جو ماطر ساعية لاستخدام هاتفها الخلوي وارسال رسالة له، تتعرض لحادث سير مروع وتصطدم مع “فان بيضاء”! تفيق أنا مرعوبة ومرتبكة وهي ممدة على أريكة الموتى في بيت الجنازات، كما تشاهد أليوت ينظف لها جروحها ببرود، مخبرا اياها انها قد أصبحت ميتة، وأنه يقوم بتجهيز جثمانها للجنازة، مبررا لها شعورها بالحياة بأنه مجرد شعور وقتي عابر، وبأن معظم الموتى “الجدد” يدعون موهومين بأنهم أحياء، وأن “التنفس والتغوط والتبول” ليس مؤشرا حقيقيا للحياة… وحتى يبرر لها الحالة التي تمر بها فهو يخبرها بهدؤ حرفي بأنه يتمتع أساسا بموهبة نادرة تتلخص في قدرته على مساعدة الموتى الجدد للانتقال بسلام للعالم الآخر، محاولا اقناعهم بتقبل موتهم، وحيث نرى في بيت الجنازات خاصته مجموعة كبيرة من صور الجثث التي صورت فورا عقب وفاتهم! كما يبدو وكأنه ساعدهم جميعا لتجاوز هذا الوضع الصعب، متحدثا معهم وكأنه مشوش نفسيا وذهنيا. ترفض أنا فكرة موتها باستمرار مما يدعوه لحقنها بمادة كيماوية مركزة تساعد على استرخاء العضلات.
ويسعى باول حبيبها (الحزين والمنكوب بفقدانها) لأن يشاهدها للمرة الأخيرة في المشرحة، ولكن أليوت يرفض تماما بحجة أنه ليس من أفراد عائلتها، مما يدعو باول للاستعانة بالشرطة. كما تحاول أنا الهروب دون جدوى، محاولة الاتصال بباول بواسطة الخلوي، ولكن الأخير لا يسمعها بوضوح… وتتساءل: هل تذهب حقا للموت السرمدي وتتقبل ذلك أم تكافح بعناد مستغلة رمق الحياة وبقايا الأنفاس؟! ولكنها تتقبل أخيرا فكرة موتها، وذلك عندما يسمح لها أليوت بالنظر لصورتها بالمرآة حيث تبدو فعلا كجثة حقيقية! وتكمن هنا المفارقة في انها تركت اثرا ضبابيا لأنفاسها على سطح المرآة، مما يضطر اليوت الخبيث لأن يمحوها بسرعة قبل اكتشافها للأمر… كما يلاحظ اليوت أن الطفل جاك ذو الأحد عشر عاما، وهو طالب متعلق بمعلمته أنا في المدرسة، قد شاهد من الشارع “أنا” وهي واقفة أمام النافذة تتأمل نفسها بالمرآة، وعندما يخبر الفتى جاك باول بما شاهد يغضب هذا الأخير ويضربه! حيث يكتشف الفتى من اليوت فيما بعد أنه يملك مثله موهبة ” التخابر مع الموتى”! ثم وللمرة الأخيرة تطلب أنا من اليوت أن يسمح لها بأن ترى نفسها بالمرآة، وحينئذ اذن تفاجىء برؤيتها لأنفاسها وقد تكثفت على سطح المرآة، وبأن اليوت كان يكذب عليها… ويستعجل اليوت حينئذ الأحداث فيحقنها بمادة كيماوية مركزة (هيدرونيوم بروميد)، وهي مادة خطرة تؤدي لحدوث موت مؤقت: كم هي حقا مرهقة وحزينة ومحبطة… وكم أن العودة للحياة قد تكون مخيفة مثل الموت ذاته؟ وفي لقطة مجازية معبرة يقوم الفتى جاك بدفن كتكوت صغير مريض حيا، وذلك لتخليصه من عذاب المرض والعيش بلا حياة حقيقية!
بعد الدفن يشرب باول بادمان ويأس مخبرا اليوت بانه يعلم بأن أنا لم تكن ميتة تماما، كما يبدو أن أنا قد استفاقت على اصوات انهيار التراب على تابوتها، وبدأت تصرخ مستغيثة ومستعينة بأظافرها في سعي هستيري للخروج من التابوت، جارحة أصابعها….ولكنها تموت بالفعل تدريجيا من الاختناق، ثم يقترح اليوت لباول بأن يذهب  شخصيا للمقبرة للتأكد من دفن حبيبته قبل فوات الأوان… وبالفعل يسارع باول للذهاب ويسوق مخمورا، ونراه قيما بعد وقد تعرض لنفس مصير أنا والدماء تسيل منه، ويحيط به اليوت بأجهزته ذاتها، مخبرا اياه بأنه لم يتمكن من رؤية أنا او انقاذها لأنه تعرض بدوره لحادث سير مروع أثناء ذهابه للمقبرة، ثم يعود لتذكيره بأنه قد مات واصبح مجرد جثة، وأنه بصدد اعدادها للجنازة، رافضا بلؤم صراخ باول بأنه ما زال حيا، وفي حركة اجرامية مقصودة يدخل انبوب طبي خاص داخل صدر باول (ومع حضور لافت للفتى جاك كشاهد عيان) وذلك لانهاء حياته نهائيا.
يبدو اليوت كشخص بارد وهاديء ظاهريا، ولكنه في حقيقة الأمر مختل نوعا ما وغير متوازن نفسيا وشخصية سيكوباتية معقدة، ويكاد يتحول لشخصية اجرامية عندما يسعى للتخلص من بعض ضحاياه ليقوم بتصويرهم بشغف وتعليق صورهم، وكأنه من هواة جمع الطوابع البريدية النادرة! وكأنه لا يريد لهم ان يعودوا ثانية للحياة ان كانوا ما زالوا يمتلكون بعض الرمق، ويبدو وكأنه يستمتع بعقدة ملكيته “لأجسادهم ووجوههم الميتة”، ويظهر مرعوبا أكثر منهم من فكرة امكانية عودتهم للحياة مجددا!

ثلاث اطروحات لافتة:
بعيدا عن فنتازيا الطرح السينمائي الدرامي المثير ، فقد لفت نظري ثلاث اطروحات هامة تستحق ربما التامل والمتابعة العملية: أولهما يتعلق بموهبة الاتصال بالموتى ، فهل توجد حقا خاصية روحانية مماثلة أم مجرد محض خيال سينمائي؟  وان كانت توجد حقا ، فكيف يمكن الاستفادة من خاصية نادرة كهذه، والتي يمكن في ظروف معينة أن تنقلب للعنة (كما لاحظنا في حالة بطل الفيلم اليوت)، كما يمكن تخيل مدى الاستفادة العملية من هذه الموهبة الروحانية بالكشف عن أسرار الموتى الخفية وخاصة في الحالات الجنائية. أما الطرح الثاني اللافت في هذا الفيلم الغريب، فيكمن في تناوله الغير مسبوق لثيمتي  الموت الظاهري والدفن حيا، حيث تظهر لنا الفتاة المسكينة أنها كانت ما زالت تتنفس مما يدل على وجود رمق حياة فيها، ولكن اليوت ولأسباب سيكلوجية غامضة وشريرة يتجاهل ذلك ويصر على انها ميتة ويجهزها للدفن النهائي، حاقنا اياها  بمحلول ” بروميد الهيدرونيوم ” لاحداث موت مؤقت، وهنا يظهر الطرح الثالث  عن مدى سهولة الحصول على هذه المادة الخطرة ومدى انتشارها عالميا، والتي قد تسمح بارتكاب جرائم مريعة تمهد لدفن الأشخاص وهم ما زالوا بعد احياء بغرض الخلاص منهم، وبلا أدنى مساءلة قانونية… وربما لا ابالغ هنا ان قلت ان هناك نسبة من ضحايا ما يسمى ” ربيع الثورات العربي ” أو ما اسميه مجازا  : “بازار القتل والتنكيل العربي الكبير” ، قد دفنوا أحياء ربما بقصد او بدون قصد!

فرادة الشريط : رعب سيكلوجي هادىء
تكمن فرادة هذا الفيلم بكونه لا يستخدم تقنيات وأدوات الرعب والتشويق المعهودة ، كما تكمن في تناوله الهادىء المبسط للموضوع ، حتى نكاد نقتنع بصحة الأحداث الغريبة، وبكونه مثير حقا للجدل حتى أنه يدعونا للتساؤل عن مصداقية بعض التقارير الطبية (السطحية) التي تشرح وتبرر أسباب الوفيات في حالات الحوادث المرورية المروعة تحديدا، وفيما اذا كان العديد من الضحايا المساكين قد دفنوا ربما احياء، ولم تتاكد بعد وفاتهم الحقيقية، بمراعاة أن الاسلام يحث  على الاسراع بدفن الموتى!

ممثلون بارعون ومخرجة “غير مشهورة”!
أبدع الممثل الايرلندي ليام نيلسون في تقمص دور مدير الجنازات، وأدى الدور ببرود مهني لافت بلا انفعال وعصبية وتوتر،  كما تفوقت  الممثلة الجميلة البارعة “كرستينا ريسي” باداءها  لدور “الميت-الحي”، وعكس وجهها الفائق التعبير سحنة الأموات في المرحلة الأخيرة ، وأعطت بعدا جديدا للشخصية، بعيدا عن الانفعال الزائد والرعب المصطنع، كما عكس اللون الأحمر المتمثل في الجروح وصبغة الشعر وأحمر الشفاه مدلولات مجازية لأجواء العنف الصامت والموت العبثي القادم ، كما لعب “جوستن لونغ” دور الحبيب النادم بحسرة وحزن ولوعة، وكأنه يستبصر مصيره المرعب القريب، ونجحت مخرجة مبدعة شابة (بولونية الأصل) غير مشهورة اسمها “اجنسكا وجفتيك- فوسلو” في اخراج فيلم رعب درامي شيق، برؤيا غير مسبوقة وبلا حذلقة وتصنع. تقول المخرجة أن فكرة الفيلم بدأت كهاجس قوي استحوذ على تفكيرها، وخاصة لقطة الاستهلال  التي تصدرت أفيشة الفيلم! وتستطرد قائلة أنها كانت دائما متاثرة ومرعوبة من فكرة الموت، وخاصة انها فقدت والدها في العاشرة من عمرها ، وكانت دائما تتساءل: ماذا يحدث لنا بعد الموت؟! وقد استغرق اعداد هذا الشريط ثلاث سنوات ، وتقول انها بغرض الانغماس كليا في روح وثيمة العمل، فقد زارت معظم معارض الجثث في نيويورك حتى وصلت لزيارة مشرحة كبرى في لوس انجلوس، حيث شاهدت 800 جثة موزعة في الغرف المبردة!