اء حرة ….
بقلم : جيمس زغبي – واشنطن …
أثار الخطاب الوداعي لوزير الخارجية جون كيري حول الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني عاصفة من الانتقادات في أوساط الفئة ذاتها من الناس التي توقفت لتوّها عن اللهاث لدفع الولايات المتحدة للامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن قبل أيام قلائل.
وكان الخطاب مقسماً إلى ثلاثة أجزاء. افتتحه كيري باستعراض كل ما فعلته إدارة أوباما لمصلحة إسرائيل خلال السنوات الثماني الماضية. واختتمه بذكر قائمة من المبادئ التي وصفها بأنها تستحق أن تشكل أساساً لتحقيق السلام الإسرائيلي – الفلسطيني في المستقبل. وكان الجزء الأوسط والأطول والأكثر أهمية من خطابه يتعلق بانتقاد سياسة الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، والذي يعدّ أقسى وأشمل انتقاد ينطق به قيادي سياسي أميركي ضد إسرائيل.
وخلال السنوات الخمسين الماضية، كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تفعل كل ما في وسعها لتجنب الانتقاد العام لإسرائيل. وكثيراً ما كان ذلك يفجّر السخط ضدها في أوساط الرأي العام. ولكن، وفي أحيان كثيرة، عندما يحاول السياسيون الأميركيون التصدي للسلوكيات الإسرائيلية، فلقد كانوا يفعلون ذلك بشيء من التملّق أو حتى تقديم «الحوافز» لإسرائيل لفعل المزيد. ولم يصل بهم الأمر أبداً إلى حد التحدث معها بقسوة. وهذا ما فعله كيري هذه المرة وهو ما أثار ردود الأفعال العنيفة.
ومن خلال رده على كيري، عبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن غضبه الشديد حتى قبل أن يكمل كيري خطابه، وعبر الرئيس المنتخب دونالد ترامب عن استيائه من الخطاب عبر تغريدة على موقع «تويتر»، وسارع أعضاء الكونجرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لإصدار بيانات عبروا من خلالها عن دعمهم الكامل لإسرائيل ورئيس وزرائها وانتقدوا وزير خارجيتهم.
فلماذا هذه الهستيريا؟. وكما قال كيري ذاته، فإن الخطاب لم يكن المُراد منه تغيير الوقائع القائمة على الأرض ولا إجبار الإسرائيليين على تغيير سلوكهم! أو كما قال ترامب في تغريدته، عندما أشار إلى أنه وخلال الأسابيع القليلة المتبقية على نهاية إدارة أوباما، فلقد بات من الواضح أن إسرائيل ليست بصدد دفع ثمن الشروط التي تحدد إطار علاقاتها مع واشنطن. وبالطبع، لم تُظهر ردود الأفعال هذه أي اهتمام بجزئي خطاب كيري الافتتاحي والختامي.
وأما الشيء الذي أشعل هذه العاصفة النارية فيتعلق بجرأة كيري على انتقاد سياسة إسرائيل بقوة وعلى الملأ. ولقد اعتادت إسرائيل في مثل هذه المواقف على إطلاق حملة مضادة تهدف إلى تخويف الآخرين من اتباع نهج مشابه لذلك الذي اتبعه كيري.
وتعود بي ذاكرتي إلى عام 2003 عندما كانت الانتخابات الرئاسية التمهيدية في أوجها. وفي ذلك الوقت خصّ جون كيري الذي أصبح سيناتوراً فيما بعد، المؤتمر الوطني الذي نظمه معهدنا «العربي الأميركي» بخطاب تعرض فيه للصعاب التي يواجهها الفلسطينيون تحت الاحتلال الإسرائيلي. وشجب في سياقه إقامة «حائط العزل» الذي كانت تبنيه إسرائيل في الضفة الغربية، وأطلق عليه صفة «العائق في وجه السلام». وخلال الأسابيع التي تلَت هذا الخطاب، تعرض لسيل من الانتقادات من الناشطين والمانحين المؤيدين لإسرائيل كانت من القوة بحيث دفعته في النهاية إلى التراجع عن أقواله والاعتذار عما بدر منه.
وخلال الصيف الماضي، طلب منا «بيرني ساندرز» المشاركة في لجنة الصياغة التابعة للحزب «الديمقراطي»، وكانت هناك محاولات لتكذيبنا وإسكاتنا حتى قبل أن تبدأ اللجنة مداولاتها. ونتيجة لذلك، ذهبت محاولاتنا لإضافة تعابير مثل «الاحتلال» و«المستوطنات» إلى بيانات الحزب، أدراج الرياح. والآن، يأتي خطاب وزير الخارجية كيري الذي لم يكتفِ فيه بانتقاد سياسة الاحتلال والاستيطان الإسرائيلية، بل سعى إلى تفنيد الحجج والادعاءات الباطلة التي يتذرّع بها الإسرائيليون لتبرير ممارساتهم. وفي هذا الوقت بالذات، عرض كيري بالتفصيل للضرر الذي لحق بمشروع تحقيق السلام بسبب المستوطنات الإسرائيلية. ولا شك أن خطاب كيري لن يغير سياسة إسرائيل، كما أن وصول ترامب إلى المكتب البيضاوي لن يغير سياسة الولايات المتحدة، ولكنّ الشيء الذي فعله كيري هو أنه تمكن من تجاوز المحرمات التي كانت إسرائيل تحصن نفسها بها ضد التعرّض للانتقاد