كلمتان للدكتور سمير ايوب

فن وثقافة ….
بقلم : د. سمير ايوب – الاردن …
فقر القلوب وفقر الجيوب
ذهب عامل إلى صيدلية لشراء دواء . سأل ألصيدلاني : هل لديك مرهمٌ للأسمنت؟
فضحك الصيدلاني  ساخرًا منه .  وقال للسائل : نعم لدينا ، ولدينا مرهمٌ للحجر وللحديد وللخشب ايضا .
وتابع الصيدلاني سائلا العامل : هل تريد نوعية ممتازة مستوردة ، أم نوعية عاديّة محلية الصنع ؟
أجاب الرجل : إذن اعطني من فضلك ، النوعية الممتازة المستوردة .
ردّ عليه الصيدلاني ساخرًا مرة اخرى : إنّها غالية الثمن . أقول لك ذلك مقدّمًا . ثمّ إنهمر ضاحكًا متهكما .
رفع العامل يديه أمام الصيدلاني ،  وقال له بصبر : إنّي عامل باطون ، أشتغل في الاسمنت . وقد علق الإسمنت في يديّ . ولا أستطيع أن ألمس وجه إبنتي الصغيرة وأنا أداعبها .
إذا كانت النوعية الممتازة المستوردة ، التي لديك تزيل هذا الإسمنت العالق ، فأعطني إياها ، وسأتدبّر ثمنها إن شاء الله .
تجمّدت ضحكات الصيدلاني الساخرة على شفتيه . ورأى نفسه مخطئا قاسيا فظا ، کما لم یراها من قبل .
فهو لم يحتضن أطفاله منذ زمن ، ولم يدللهم ، ولم يَرْوِهِمُ من فيض الحنان والأهتمام والمتابعة والمشاركة . وأدرك مما سمع ومما رآى أن الفقر الحقيقي ، ما هو إلا فقر يعشعش في القلوب قبل الجيوب .

(2)
أحْضُنِّي يا ظالم
أتَّصلِت غاضبةً باكيةً . تَصيحُ دون عتبةٍ أو إستئذانٍ  : أيها العاقُّ ألمُمْعِن في عقوقه ، ألمجازف كثيرا في معارجه ؟  ألم أزِدْكَ فوق حبِّ المحبين حبّاً ؟! ألَسْتَ حتى على البعدِ ، أقرب إليَّ من الأبهر في يسار الصدر؟! الكيفية ألتي أراك فيها تمر في القلب وحده . تجلب لي الغيرة . ولا تجعلك رمادا  .ولا تُخفيكَ بين الركام أو الحطام . بل يزدحم بك سوء الفهم . ألفرح والحزن يتنافسان على إستنبات معالِمَك . لأراك مُذاباً في كل شئ . مُحتلا لكل شئ . فيزدحمُ بك خاطري ولا تتلاشى فيه .
قلت : ما بِكِ يا نجمةَ إسْهيل ؟
قالت دون أن تلتقط شيئا من أنفاسها اللاهثة : قهوتنا وأنا مفعمون بك كل الوقت . ولكنك  تثير قلقي . أرى الفوضى ألتي باتت تُهَيْمن على موانِئَك . تغزوها تغريداتٌ . أجمع قِطَعَها ألمُتناثرة . فتتقوض طمأنينتي . وتتشظى سكينتي .  فأزداد خشية من أن يتأصل فيك التنكر ، وتنقلب علي . قلبي بارٌّ بك . فلا تتمادى في عقوقك . تلك المساحة بين ذراعيك ، وطني الظليل يا ظالم . لِمَ زَرَعْتَهُ في غِيابي ، مُستوطناتٍ ومُستعمراتٍ ومَحميات ؟! حتى بات مأوى لكل عابرات السبيل  ، الباحثات عن الكَيْفَما كان فيك . ويحك ، أريدك كفلسطين وطنا مُحررا ، بلا إحتلال او مستعمرات . تعال الآن إليَّ ، راكضا فاتحا ذراعيك ، واحضني . سيبقى حضنك يختطفني ، من نفسي إلى نفسك . فأنا كما تعلم ، ما زلت لا أحسن التَّنَكُّرَ لحنين قلبك ، أو لأحلام قلبي .
قلت مكررا : ما بك يا أحلى ما في النساء من نساء ؟
قالت : قهوتي اليوم تُعاندني ، فيها مرارةٌ لم أعد أحتملها ، وتأبى مُفارقتي . نَضَبَ السكر وأنا أُجالسها وحدي . والمعارج لحوافِّ فناجيلي  وقيعانها ، بدونك باتت مغلقة .
يا غائبا رغم المسافات بيننا ، ما أقربك . تعال ، إحتسي معي قهوة الصباح والمساء والكثير مما بينهما  . فأنا أحب الساحرة معك . بدوية كانت ، أم عربية أو فرنسية . لنا معها حكايات عديدة . بعضها جميل وبعضها موجع . كانت تأخذنا الى عوالم متكاملة ، وتجوب بنا فضاءات كثيرة متجددة . لا تنتهي مع آخر قطرة في الفناجيل .
قلت  : لم تبكين إذن ؟
قالت : مثقلةٌ بالحزن المكتوم ، وآهاتِ الحنين المؤلم . تعالَ ألِجُ  دوائرَ حِضنك الآن .  لأستكمل بكائي على صدرك . أحتاج لنسيانِ نفسي فيك . البكاء في موانِئك  وأنا مغمضة العينين تِرياقٌ ، لكل خليّة في جسدي وروحي . أنتعش بعد أن يتلاشى ضجيجُها ويَهدأ .
قلت : وإستبدادُ الجغرافيا وحتمياتها يا الونيسِ الأنيس ؟
قالت ، بفرح مشوب بقلق مستكين ، تتهجى التمني : دَعْ عنكَ كلَّ تفاصيلِ الحياة وتُرَّهاتِها ، وتعال . أَقْدِمْ وأمْسِكْ بالزمام . لا تكترث بالركام أو بالحطام . أريد  أن أختلي في حضنك مع نفسي . فوراء حضنك عوالم شاسعة . لا يدرك المطلق فيها ، إلا أنا والصمت . فأي عناق صادق ذاك ، إن لم يكن فيه إصطكاكُ الضلوعِ ، متبوعا بشهقةِ إتحاد الأرواح !!! ولكن ، ليس شرطا دائما ، أن يكون للعناق ذراعان ، ولسان وشفتان . فقط تعال بقلب يجيد الإحتواء ، مُخضَّباً بالدمع ، مُشبَعا بفرحِ المُتَّقينَ ، المُوقنينَ يا رجل .
والباقي تفاصيل