” كالطوْق مِن حولي تربَّع ” الكون في سَفَر : دراسة في ديوان الشاعر فيصل اكرم – بقلم : د . حسن عجمـــي – الولايات المتحدة الامريكية

اصدارات ونقد …
بقم : د . حسن عجمي – الولايات المتحدة الامريكية ….
يصوغ الشاعر فيصل أكرم قصائد ديوانه ” كالطوْق من حولي تربَّع ” بمشاعر و أفكار المسافر نحو ذاته و ذوات الآخرين فتحيا نصوصه في نبض فكرنا و مشاعرنا كأنها ثمرات أسفار دانية. فنحن الطريق و السفر و نحن ذواتنا الحاضرة و الغائبة دوما ً. نلامس في هذا المقال شاعرية ديوانه على ضوء النموذج الفلسفي السوبر مستقبلي.

سوبر مستقبلية الشِّعر
يتشكّل الشِّعر في المستقبل. لذا من المتوقع أن تُبنَى القصائد على ضوء أنَّ التاريخ بكل حقائقه يتحدَّد و يتكوّن في المستقبل فتتجه القصائد نحو صياغة ذواتها من خلال اتجاه الزمن من المستقبل إلى الحاضر و الماضي بدلا ً من العكس. هذا يعني أنَّ المستقبل يلعب الدور الأساس في بناء القصائد الشِّعرية فتنطلق القصيدة من المستقبل المُتخيَّل في عقل و مشاعر الشاعر لتكوِّن ذاتها في حاضر ٍ يتحوّل إلى ماض ٍ ينتفض على نفسه و يثور باستمرار ليتجه إلى مستقبل جديد يُعيد صياغة ذاته بشكل مستقبليات متكررة و متنوّعة تنتج الأعداد اللامتناهية من نُسَخ الحاضر و الماضي.

الحاضر و الماضي غير مُحدَّديْن لكونهما من صناعة المستقبل الذي يبقى مستقبلا ً ما يفسِّر لماذا القصائد الشِّعرية تبقى غامضة و إن أوضحت و تبقى قابلة لتفاسير و تأويلات مختلفة فتغتني بذلك و تسمو. فالشِّعر من الشعور لكن مشاعرنا تتشكّل في المستقبل لكونها تُبنَى على ضوء تصوراتنا حول كيف سوف نكون في مستقبل لم نصل إليه بعد. لذلك الشِّعر السوبر مستقبلي يصوغ نصه من منطلق المستقبل أي على أساس ما ستكون عليه مشاعرنا في مستقبل مُتخيَّل. و هذا يفسِّر لماذا يملك الخيال دورا ً أساسيا ً في صناعة الشِّعر و اتقانه. فالشِّعر قائم على المستقبل المُتخيَّل و لذا من المتوقع أن يتكوّن على ضوء الخيال. لكنه خيال يلامس الواقع و الحقائق و يعبِّر عنها بطريقة أو أخرى لأنَّ الواقع أيضا ً يتكوّن في المستقبل كما تقول الفلسفة السوبر مستقبلية. الخيال تصوّر الوقائع الممكنة بينما الواقع مجموع كل الممكنات و لذلك تعتمد القصائد الشِّعرية على الخيال و الواقع معا ً.

الشِّعر بناء الحاضر و الماضي على ضوء المستقبل. الشِّعر شعور و فكر لكنه شعور و فكر مُتشكِّلان في المستقبل. التاريخ يبدأ من المستقبل كما تؤكد السوبر مستقبلية. لذلك الشِّعر أيضا ً يبدأ من المستقبل و يتكوّن على ضوء ذواتنا و ماهياتنا المستقبلية. فإن تصوّر الفرد أنه سيصبح شاعرا ً أو طبيبا ً أو مهندسا ً إلى ما هنالك في المستقبل فسوف يتصرف على هذا الأساس. بذلك المستقبل و كيف نتصوّره يحددان أحداث الحاضر و الماضي و بهذا المعنى التاريخ يبدأ من المستقبل. لذا من غير المستغرب أن تبدأ مشاعرنا و أفكارنا من المستقبل فيتشكّل الشِّعر من المستقبل و يتجه إلى مستقبليات لامتناهية. هكذا أيضا ً يحررنا الشِّعر من حاضرنا و ماضينا لكونه كينونة مستقبلية تساهم بقوة في صياغة الإنسان المستقبلي. على أساس هذا النموذج التحليلي نقرأ قصائد الشاعر فيصل أكرم لنرصد فعالية المستقبل في بناء نصوصه.

الكون كانتظار
يصوّر الشاعر فيصل أكرم الكون على أنه مسافات بين انتظارات غير متناهية. و هذا متوقع من منطلق التحليل السوبر مستقبلي لأنَّ الكون يتكوّن في المستقبل و بذلك من الطبيعي أن يكون الكون مجرد مسافات بين مستقبل يتحوّل إلى حاضر فماض ٍ و مستقبل آخر في انتظار أن يتحقق في الحاضر و الماضي. هكذا الكون صيرورة المسافة و الانتظار ما يمكّننا كبشر من أن نحيا في المستقبل المعتمد في تشكّله على تصوراتنا عنه و قراراتنا بشأنه. على ضوء هذا النموذج التحليلي تبرز عبارة الشاعر : ” و أنتم الحلم الأخير /  يموت لو يوما ً تَفَسَّر ” ( فيصل أكرم : كالطوْق من حولي تربَّع. 2018  . المكتب العربي للمعارف ).

بما أنَّ الكون بكل حقائقه و وقائعه يتكوّن في المستقبل , و المستقبل لم يتحقق كليا ً في الحاضر و الماضي , إذن كل ما نشاهد و ما شاهدنا مجرد حلم. و هو الحلم الأخير لأنه حلم تحقق كل الوجود أي حلم تحقق كل المستقبل في حاضرنا و هذا مستحيل. نحن حلم أخير لا تفسير له و يزول إن تَفَسَّر لأنَّ هذا الحلم حلم تحقق ماهياتنا و صفاتنا المستقبلية كافة و هذا مستحيل لكون المستقبل يبقى مستقبلا ً. بكلامٍ آخر , علما ً بأننا نتكوّن في المستقبل بينما المستقبل يبقى مستقبلا ً , إذن من غير المستغرب أن نكون حلما ً لا يتفسَّر. ” لا شيء من خلف الستار سوى الجدار ../  (لا شيء بعد الانتظار سوى انتظارْ )”. هكذا الكون انتظار ماهيته السفر كما أنَّ الكون سفر ماهيته الانتظار.

ينسج الشاعر فيصل أكرم قصائده السوبر مستقبلية قائلا ً : ” سأقول : لا  /  هو في الحقيقة كالحقيقة  /  هل تطير حقيقة كرصاصة صوبَ الحقائق؟ “. هنا يؤكّد الشاعر على سوبر مستقبلية نماذجه الشِّعرية و لذا يقول ” سأقول ” بدلا ً من  “أقول” أو “قلتُ”. فالقول متحقق في المستقبل و لذلك ” سأقول ” و لن “أقول” و لا “قلتُ”. و الهو الموصوف هو في الحقيقة كالحقيقة و بذلك هو ليس مطابقا ً للحقيقة رغم أنه حقيقة ذاته لأنَّ الحقائق تتشكّل في المستقبل لكن المستقبل غير متحقق بعد و بذلك من الطبيعي أن يكون هو كالحقيقة و ليس الحقيقة عينها. الحقيقة تطير كرصاصة صوب الحقائق لأنها بحث مستمر عن ذاتها لكونها غير متحققة بشكل كلي في الحاضر و الماضي من جراء تحققها الفعلي فقط في المستقبل. هكذا تمضي الحقائق نحو اكتشاف ذواتها فتضمن بقاءها فإن كانت متحققة كليا ً و تعرف ذواتها حينها لا حاجة لبقائها. فهي باقية في وجودها ( أي في انتظارها ) لتحقيق ذواتها فإن كانت ذواتها متحققة فعليا ً فلا داع ٍ لوجودها. من هنا حين تراوغ الحقيقة و تخفي ذاتها تنجح في البقاء و تضمن وجودها.

الأنا كسَفَر
يسأل الشاعر فيصل أكرم و يجيب بانشطار الأنا و بجدلية فنائها و بقائها في آن : ” هل كان غيرُكَ في الطريق؟ /  قال لي , / و أنا أمدُّ له الخواتمَ , في انشطار ٍ / بين كونيَ و العدم”. الحياة طريق لأنها سَفَر. و في هذا السَفَر تتقلّب الأنا بين أن تكون في الوجود و أن تكون في العدم. فالأنا غير مُحدَّدة لكونها تتشكّل فقط في مستقبل يظل مستقبلا ً لا يتحقق كليا ً في حضور ذواتنا و ماضويتها. فبما أنَّ الأنا تتكوّن في المستقبل فقط لكونها تكتسب صفاتها بشكل كامل في المستقبل الذي من المفترض أن نحياه , إذن الأنا غير مُحدَّدة في الحاضر و الماضي ما يحتِّم تقلّبها بين وجود ٍ و عدم. هذا التقلب في كينونة الأنا يجعلها في سَفَر دائم فتكتسب ماهية أنها مجرد سَفَر.

لكن الأنا في لا يقينياتها الوجودية تبحث عن ذاتها. فلامحددية الأنا تطالبنا بتحديدها. و لا يمكن تحديدها سوى من منطلق ما سوف تكون عليه في المستقبل لكونها كينونة مستقبلية. لذا تسافر الأنا باستمرار نحو ذاتها فتبقى غير مُحدَّدة في صيرورة تحديدها المستمر ما يضمن لا نهائية سفر الأنا و آلام لامحدديتها و فرحة تحديدها الدائم. فالأنا تُنتَج في كل ثانية على أنها ذاتها و الآخر المُحدِّد لذاتها فتظل في سفر غير متناه ٍ. من هنا يقول الشاعر : ” فأنا أسافرُ كي أسافرَ من سَفَرْ”. السفر اللامُحدَّد يدعونا إلى السفر منه فنستمر في السفر من سفر إلى آخر.

الحياة سفر متواصل من ذواتنا إليها. فلا تتحقق ذواتنا أبدا ً لكونها كينونات مستقبلية و المستقبل بِكليته غير متحقق بالضرورة. لذلك تواصل الأنا صناعة ذاتها لكنها لا تصنع سوى سفرها الدائم. من هنا , من غير المستغرب أن تتحوّل يقينياتنا إلى شكّ مراوغ و يتحوّل شكّنا إلى يقينيات كاذبة. لكن جدلية الشك و اليقين أي جدلية لامحددية الأنا و تحديدها المستمر تضمن بقاءنا. فإن كانت الأنا مُحدَّدة لزال سبب وجودها الكامن في بحثها الدائم عن ذاتها. هكذا الحياة دوما ً منتصرة. ” فالعمر , ندري , قد مضى /  لكنه سيظلُّ يمضي “. وهمية العمر الماضي تطالبنا باستمرارية إنتاج العمر في المستقبل و لذا العمر سيظل يمضي نحو المستقبل فتنتصر مستقبلية الحياة رغم وهمية الزمن المعاش. ليس بالحقيقة فقط يحيا الإنسان بل بالوهم أيضا ً.

بالإضافة إلى ذلك , حين تكتشف الأنا لامحدديتها تعترف بأنها لا أحد ; ” فانهض معي , يا ( لا أحدْ ) ؟! /  وحدي ألوِّحُ في الغبارْ “. لكن هذا اللاأحد يوحِّد في ذاته كل الظواهر و الذوات الأخرى من جراء لامحدديته. ” و أنتَ أنتَ , إذا تساوتْ في مراياكَ السحابة و الرمالْ “. فالأنا تتحوّل إلى مرايا ما يمكّنها من التوحّد مع الحقائق كافة لكونها غير مُحدَّدة في حقيقة ذاتها. من جهة أخرى , بما أنَّ الأنا تبقى غير مُحدَّدة رغم أنها تتمارى في الذوات و الحقائق الأخرى كافة , إذن من المتوقع أن تجمِّع الآخرين في ذاتها فتضيع و أن تضيِّع الآخرين حينما تلاقي ذاتها ; ” و لربّما /  بدَّدتُ نفسي حينما جمَّعتهم /  و لربّما /  لاقيتُ نفسي عندما ضيَّعتهم “. هكذا تظل الأنا في صيرورة لقاء و وداع ذاتها فالحضور غياب مؤجَّل و الغياب حضور مُضمَر. و هذا منطقي بسبب لامحددية الأنا و بسبب أنَّ الكون مسافات و طرقات و أسفار و انتظارات لامتناهية من جراء أنَّ التاريخ يبدأ من المستقبل و استحالة تحقق المستقبل كليا ً في الحاضر و الماضي.

الشِّعر تحليل فلسفي أيضا ً كما هو تحليل مشاعري. يقول فيصل أكرم : ” و أنتَ تظلُّ تسيرُ وحيدا ً في الطرقاتْ / و تقولُ : /  سأصلُ قريبا ً , حين يعودُ الدربُ إلى الخطواتْ “. هكذا يبقى الوصول المستحيل لأننا نولد في المستقبل فوحده الدربُ سيد الحياة و خطواتها.