القصة ….
قصة : ماجد عاطف …
أغلق جوزيف بوابة المرآب، وصعد الدرج الداخلي المؤدي للمنزل. لم تكن هناك واحدة من فتاتيه اللتين كانتا في رحلة مدرسية. وكذلك كاثرين زوجته لم تعد، بعد، إلى المنزل رغم تجاوزها وقت انتهاء عملها بكثير. ألقى ميدالية المفاتيح على الطاولة. هرع وتناول شرابا حلوا يبلل به فمه الجاف، فأغناه السكّر عن الطعام. ثم تمدد على الأريكة المريحة في غرفة المعيشة أمام برنامج طبيعة ما وحاول أن يغفو.
لم يستطع. كان ذهنه مشغولا بصوفيا.
// //
منذ عقد، اضطر لطلب نقله من قسمه في العمل إلى قسم آخر. لما منحت صوفيا نفسها صلاحيات التدخل في قسمه الجديد، وهي زوجة مالك الشركة العجوز تفعل ما يحلو لها، أدرك أنها ستلاحقه ولن تتركه في شأنه؛ واحتمى منذها بالسلوك الرسمي. لقد بنى علاقة معها استمرت عدة شهور، كما فعل غالبية الموظفين في القسم القديم الذي كانت تتواجد فيه، وكانت هي بين جسورة داعرة وبلهاء لا تفهم نفسها، متمردة على زوجها الذي ينفق معظم وقته ثملا في الحانات أو الطابق الأعلى من الشركة. كانت علاقاتهما الملحوظة من الجميع متوترة متصارعة، ولكنهما من مذهب لا يبيح الطلاق.
ما الذي أراده منها؟
لا يعرف. لا يستطيع أن يحمّلها كامل الوزر ويتنصّل هو منه. لأن من زملائه الذين حاولت معهم، من رفض اللهو معها وزجرها، بل وعانى المشقات في وظيفته إلى أن تعرّض للإقصاء حين افتعلت له مشكلة، وقّع على أثرها المالك العجوز قرارا بالفصل. ربما كان تنافسيا يسعى لإثبات النفس في (التحدي) الجماعي والمعلن، فقد حرص على إزالة الآخرين من طريقه وتدمير علاقاتهم بها، أو هذا ما ظنّه. أعجبه ذلك وأعجبها، وسرعان ما سيطر في العمل وترأس القسم. كانت من الخلف، أو الموظفون، يشيدون به وبقدراته “المهنية” ويشجعونه على “التقدم” أكثر. في الحقيقة، إنه يشعر أنه وقع في مصيدة لعبة التنافس هذه: الادعاء بالتميز والنجاح والتفوّق، لايجاد مشروعية للعلاقة وتبريرها والتشجيع على المضي فيها.
وحين كان يلتقي في الاجتماعات مع صاحب الشركة، إدوارد، العجوز المنهك (بينما هي في ذروة نضوجها)، كان يشعر أن الرجل يحدس أو يفهم ما الذي يحدث، ولكنه في وضع غريب عاجز يصعّد همومه أكثر وأكثر في الخمر، ويتغاضى. حين كان يفكّر فيه جيداً، كانت تخطر له أفكار مجنونة، منها أنه يريد التخلص منها بإثبات الخيانة عليها وليحرمها من أي حقوق!
لم يرد أن يكون صاحيا البتة. وتشمّع كبده من المشروب وتراجعت صحّته وأخذت أصابعه ترتعش. ربما يريد أن يجبرها على الاعتناء به، كممرضة أو خادمة. كان يعتمد في الشركة على موظفيه بالكامل وعلى زوجته، وبالكاد يحضر اجتماعا واحدا في الشهر ويكون فيه مشتتاً. أما الموظفون، فهم غير مبالين، ينتهزون أي فرصة لمغازلة زوجته أو ربما أكثر. كلهم حريص على زيادة الراتب والعلاوات بإرضاء المؤثر، هي. بعضهم تباهى أنه تسلل إلى مخدعها وزوجها ثمل فيه غريق نوم.
عندما كان المسكين يتلقى سؤالا أو دعابة ملغّمة عن زواجه منها أثناء تناول المشروب، حتى بحضورها، يقول، بالأحرى يكرّر: “إنه يوم المراسم في الكنيسة كان ثملا!”
وتنظر له بحقد وكراهية تفهم شيئا لا يفهمه الباقون. لا أحد يعرف ما الذي كان يعنيه حقاً. ربما يحملها مسؤولية أشياء متدهورة. ربما كان يعلم حالها لكنه تقيّد بأولاده الغارقين في النوادي والسفريات وتحطيم السيّارات الرياضية، لا يستطيع فكاكا. ربما كان يستمتع بما يحصل. لا أحد يعلم.
نسيباته المساهمات في الشركة، كانت حياتهن صاخبة منطلقة على مرأى الجميع. هن عزباوات وناشطات نسويات ولديهن ادعاءات نظرية -تدعمها الشهادات العليا- لحياتهن الليبرالية، وكانت صوفيا تغار منهن بشدة و/ أو تقلدهن، تحاول استعادة مرحلة من عمرها لم تعشها. حين فكّر في النقطة هذه بعمق، خلص إلى أن تفاصيل المرحلة العمرية أو الوضع الاجتماعي، لا يبرر كثيرا السلوك الشخصي وإن منح له تفهما من الآخرين.
بنظرة معينة، كان تفلّت النسيبات الذي يجري على مرأى من العجوز، ولا يتدخل، ملحوظا عند زوجته، وبالتالي أفلت شيء من مسؤوليته، وتتعلم منه صوفيا أو تقلّده. النساء، في الغالب، لسن إلا انعكاس لبيئاتهن.
كانت سوداء دون نقاء للون البشرة وقبيحة مهتزة الثقة –على الأغلب- بالنفس، ووجهها ينطوي على ملامح جهالة. وبالطبع لم تكن قد أنهت أكثر من فصل واحد من الكلّية التي لم تكملها. ولا ثقافة لها أو خبرة. وآتية من الحي الجنوبي الفقير لمدينة بروكلين، حيث العالم السفلي والعصابات وحيث عائلتها تقيم هناك قد باركت زواجها لأسباب لا يجهلها أحد، منها -كما فكّر- التخلص منها، ولا تزورها إلا نادرا.
ولم يستطع معرفة شيء عن حياة العجوز أبيض البشرة قبل زواجه. وبما أنه قبل بامرأة مثلها، فهناك أحد احتمالين: أن خلفه دوافع معقدة وحياة صعبة، بعد تجاوز الظاهر (قد لا تخلو من حكمة)؛ أو متطلباته الفعلية، مثل شخصيته، شديدة البساطة.
في الحقيقة ثمة شيء فكّر فيه ولم يخلص إلى نتيجة حاسمة له: النساء يرسمن المثل العليا للرجال منذ طفولتهم حتى موتهم، كأمهات وشقيقات ونسيبات وزوجات. أي صدمة أو مشاهدة، تحطّم تلك المثل، وينعكس على سلوك الرجل فيما بعد.
لقد أخبرته مرّة أنه كان يسمح لأصدقائه بالسهر في الفيلا، ويتركهم طوال الليل يكملون سهرتهم معها ومع نسيباته الجميلات، ليذهب وينام. إنّه لا يصدّق كلام النساء، فغالبا ما يظهرن جانبا يدعمن به موقفهن اللحظي ويخفين جوانب أخرى، لكنه أيضا لا يكذّبه. كانت تستطيع تجنّبهم إذا صحّ كلامها، لكنها قبلت به وانغمست فيه.
ومع ذلك كانت تتدخل وتصول وتجول في كل أمور الشركة، على اعتبار أنها من مالكيها، ولا شك أن هذا كان أمرا ممتعا لها. غالبا ما كان إدوارد يهملها في كلتا حالتيه، واعيا أو ثملا، كأنّه يعذّبها. الأمر الذي كان يستفزه هو، جوزيف، ويستفز الموظفين، أنصار المرأة وصوفيا والنسيبات، خصوصا عند إساءة المعاملة العلنية؛ فينحازون إلى جانبهن أو جانبها!
سيكتشف فيما بعد أن تعاطفه معها، هو جوزيف، وربما تعاطف الجميع أيضاً، كان كاذبا بدافع حسّي ولا يخلو من كره للمدراء والمالكين أو منفعة ما خفية. لكن بين وقت وآخر، في حالة صفاء أو اكتفاء من الخمر، كانت تغمر العجوز وهو يتجول معها في أرجاء الشركة ملامح طيبة وسعة صدر وتفهّم، ويتحوّل لأب راع لها من نوع ما، فكانت تبدو حينها سعيدة جداً. تتكشف أسنانها البيضاء بشفتين حمراوين على خلفية السواد عن أريحية وطيبة أصيلتين. الغريب، وهذا أصابه هو بالجنون، أن الجميع عندئذ يصبحون سعداء، كأن مطلبا جماهيريا قد تحقق!
جوزيف عذّبه ضميره، مع توغّله في تعقيد النفوس ومحاولة فهمها. لكنه علم أن محاولة الفهم أو التفهم، قد يكونان مجرد مبرر واه للتدخّل وكذبة أخرى من كذبات النفس البشرية!
وأوشك على التورط الحقيقي مع صوفيا حين طلبه العجوز إدوارد إلى فيلته ليأتي ببعض الأوراق والملفات. كانت تراوده مختلف المخاوف والأفكار. هل من المعقول أنه طلبه للفيلا من أجل تيسير علاقته بزوجته؟ هل كان عنينا، مع إنجابه للأولاد منها؟ هل هم أولاده حقا (بشرتهم متباينة الألوان)؟
كان غائبا من الثمالة على مقعد المدير في مكتبه داخل الفيلا، لا يحسّ بشيء. وأعدت اللعينة بقية المكان، خاصة غرفة البليارد حيث يمكن أن يدعيا أنهما يلعبان، إذا ما طرأ شيء. كانت تتقلّب في وقفتها وحركاتها المفتعلة وهي تمسك العصا كأنها حبة بطاطا في المقلى. أدرك أنها تبحث عن الاحتكاك الجسدي والاتصال به، فاقترب منها وأسكن توترها بالاحتضان واللمس والقبلات. كان يشعر بكامل جسدها من خلف -أو تحت- الملابس المسائية الشفّافة والقصيرة، حيث تتسلل أنامله. لكنها ليست شبقة تماما تتحرك عن محض دافع غريزي. يا إلهي ما أصعب هذا الشعور الذي يبعثه، بتعقيد شديد، كسر حرمة ما. هناك مقدار كبير من الوعي الذي يحدثه الباعث أعلى، في الرأس الأعوج. كان أصغر منها في العمر ولا شك يسعدها شبابه كما وتحاول التوجيه السيطرة، كأنها تردّ على -أو تقلّد- العجوز!
في لحظة ما لم يعودا يحتملان، ووقعا على أرض الصالة. كاد يغرق. ثم دهمه شعور مفاجئ، مثل ضربة بصرية كُبرى، جعله يفيق ويترك الفيلا في التو والحال.
كان وقتها قليل الخبرة مع النساء، وأراد فقط، ربما، توكيد النفس. بدلا من ذلك، وسّخ أحلامه وذاكرته كلتيهما، وتحوّل كل ما له قيمة في (العلاقة) إلى شعور عنيف بالعار الداخلي. قُبلاتها رغم أنها نشرت حسّيته في أثير المكان، كان يذكّر منها، دائما، طعم الخيانة.
في اللحظة الأهم، رغم ما تورط فيه، استرد نفسه. كان أولا وأخيرا صاحب تصورات رومانسية. خصوصا مع تذكّره لتقوّلات الموظفين الذين تورط بعضهم قبله، وكانوا ضعافا في العلاقة معها، بسبب ممارسة الجنس غالبا، ومارست هي عليهم سادية ممعنة في القسوة.
بتر كل صلة خاصة، وأبقى على التعامل الرسمي الجاف ولم يعد ينفرد بها إطلاقاً. استعملت الإغراء بل وحتى الاحتكاك الجسدي لكنه صمد، فسلّمت. مضت عشر سنوات على هذا الحال وهو يتناسى لا ينسى. وأحواله تغيّرت، فقد تزوّج وزادت انشغالاته واختلفت نظرته.
حين علمت عن زفافه الذي لم تسبقه فترة خطوبة، ولم يدعها هي أو زوجها والكثير من زملائه، اقتربت منه وقدّمت له مظروف التهنئة المالي. بعد كلمات قليلة مرتبكة، طلبت أن ترى صورة زوجته إذا كان يحملها في محفظته. هل كان فضولا أم مقارنة؟
كانت تلك هي المرّة الأخيرة التي تكلّمت معه.
وصار، مثل حجر مصقول سقط على الأرض فتحطمت حوافه، حاداً خشنا فظاً صارما في كل شيء ميالا لعدم الثقة. وكأنه يعذّب نفسه، تنازل عن الترقيات التي ظل يشعر أنها مزوّرة بحجة عدم رغبته في المسؤوليات، وحافظ على مقدار الراتب فقط لأنه مضطر إليه. المسؤولية، أي مسؤولية، يجب أن يكون صاحبها مؤهلا لها أولا. إنها قبل أي شيء أمانة، وهو لم يحفظها.
لن يستطيع أبدا أن ينكر أنه كان مجرد انتهازي وأن كل مبرراته الذاتية أو المعلنة كانت كاذبة. العاطفة الآنية تعاطف مبهم الدافع (قد يكون نقيض المدّعى)، وعطف (هو وجه آخر لتعلّق مرضي)، وانعطاف عنيف حول حافة جبل (الانعطاف انحراف)، وكلها لا يهتم بالمشروعية. أخذ يتأمل، إيجابا، ما تفعله بعض الطوائف والأديان كالأميش والمسلمين، من حظر للاختلاط بين الجنسين.
لكن من يحتمل اليوم عيش الفصل، بل من يجرؤ على القول إن الإنجيل يأمر بحلق شعر المرأة إذا ما كشفته أمام الغرباء؟ وأن اللباس الحقيقي هو لباس أم يسوع المصوّر في الكنائس، وهو نفسه، تقريبا، عند اليهود والهنود والمسلمين واليابانيين وغيرهم، قبل أن تفتك بالجميع حياتنا المعقّدة؟
بعد ظهيرة اليوم لمحها وهو يغادر الشركة. ومع أنه يتجاهلها في العادة، شعر بذبذبات طاقة ما تدفعه للنظر إليها. وجهت له نظرة غريبة. لم ينقطع لهوها تماما مع الموظفين الآخرين، لكنه تراجع كثيرا وصارت تهتم أكثر بشخص العجوز الذي أخذ يطفئ إدمانه فقط بالمشروبات الخفيفة ولا يغرق كليا في الثمالة، وتفاقمت صحته.
لنظرتها، ها هو يتمعّن، عُمق تذكّر وبريق مجون وأنوثة مشاع ورغبة في التلاعب. إنه المشاع الذي يخاف منه. التفلّت الكامن في عمق الإنسان منذ الخطيئة الأولى والرغبة في الحرية المطلقة، كأنه ينافس الإله، ضد أي قيد أو نظام. التدنيس الذي هو تقديس وثني أسس لأقدم مهنة في التاريخ. نظرات إناث الحيوانات الغريزية، في موسم التسافد، أقل وطأة بكثير، على الأقل هي مؤقتة ومفهومة. استمرت نظرة صوفيا لبرهة أو اثنتين فقط من الزمن ثم تخطاها إلى الساحة الخارجية. غير أنها، في ذاكرته، ثبتت كصورة فوتوغرافية منقوشة كمشهد دقيق على الصخر.
أخيرا، بكل الاضطراب الممكن، غفا جوزيف منهكا على الأريكة؛ وخيالاته، أفكاره، مخاوفه، تتمازج معا في إعصار يعصف بعقله الذي حلّق بوعيه قبل أن يفلت وينام.
استيقظ بعد ساعة على صوت انغلاق الباب. مسحت انشغالاته، بفعل النوم القصير، مثل قرص حاسوب تعرّض للتهيئة.
كانت كاثرين قد عادت. حيّته بهدوء ورد تحيتها. لم يعرف الحب باستثناء أوهام المراهقة التي غالبا ما تزول بسبب الفشل و/ أو النضوج. نسي الموضوع، ومع تعدد تجاربه الخفيفة لم يعد يؤمن به. حتى الوهم، إذا اعتقد به صاحبه، يمكنه أن ينتج أفعالا.
جمال كاثرين لا بأس به. لا يهتم بمواصفات محددة للجمال، لكن لا بد من ملمح فارق. شقراء بعينين عسليتين وجسد متوسط. على كل حال، الجمال لا يدوم إلا في الأيام الأولى للعلاقة، ثم تحل مكانه ألفة ما أشبه بالاعتياد، أو اعتياد ما أشبه بالألفة. إنّه يهتم، أكثر، بالإخلاص والبراءة والعفوية، فكانت كلها متحققة أو هكذا يظن. وهي أقل منه عمرا بسنوات خمس، تركن لتجربته في الدنيا ومنها خيرته الحسّية. كل امرأة فيها طفلة، وهو لا يثق إلا بالطفلة هذه، بقدر ما تخيفه.
اعتذرت أنها بعد العمل ذهبت مع صديقاتها إلى مطعم ونسيت الوقت، ثم طمأنته، وهو لم يسأل، على الابنتين. لم يكن راغبا في الحديث، ويبدو أنها تحاول إيجاده. باستثناء الوظيفة، بل وحتى فيها بمقدار ما، تحول إلى شخص سلبي.
سألته إن كان قد تناول الطعام ولم يجب. لا رغبة له في تناول شيء مع أنه لا يخلو من جوع. كلامها منذ وقت صار هادئا منظّما. المحافظة على مستوى العلاقة، أي علاقة، يتطلب جهدا واعيا يراه افتعالا بينما يريد العفوي والطبيعي. قالت إن برنامج الرحلة يتضمن بنودا من زيارة المتحف ومشاهدة الأفلام وأنشطة أخرى وسيستغرق حتى المساء، وأن الحافلة ستضعهما أمام المنزل بالضبط.
هزّ رأسه موافقا.
كان المنزل لهما بالكامل ولعلها تثير تلميحا من وراء حديثها الذي يبدو عاديا. هل كانت راغبة أم تؤدي فرضا على شاكلة عرض؟؟ تراجعت رغبته لغياب الشراكة والتبادلية أكثر منه خبوة جسدية قد يمرّ فيها الرجال. إنها، في السرير، تتوقع أن يفعل كل شيء وحده وبامتياز. هناك حاجة للوعي والخبرة بل والمبادرة. سئم من التكلف بالإرضاء والتظاهر بالرضا.
لم يكن يطلب حبها، أو ربما لا يقبله، لأنه لا يصدق ادعاؤها العاطفي. لم يطلب حب أي امرأة قط، وبعض الادّعاءات التي لمسها في علاقاته القليلة من النساء، كان يختبرها بشكل صارم. له فهمه الخاص. ليس كلمات ولا قلّة فرص أو تجارب ولا إرهاقا أو تسببا بالمشاكل اليومية، كما كانت تفعل غالبا لتحصل على الاهتمام. ربما هذا ما كان يحرّك صوفيا مع العجوز، رغم الفوارق، بطريقة ما. الطلب فيه ضعف وإهانة بينما العدوانية –ولو وصلت درجة الخيانة- تحفظ الكرامة.
مع الإنجاب (والجسد يتغير) والرتابة والهموم، وربما مع ازدياد خبرتها بمشاركتها صديقاتها، اختلفت كاثرين. وربما اختلف هو أيضاً. صار مزاجيا أكثر فأكثر وتهمه النوعية، في كل شيء. صار الفراش تبادلا آليا للسوائل يبغضه أشد البغض.. لم يعد يحقق كلفة الاستحمام!
يذكر أنه حين التقى بها للمرة الأولى أثارت فيه رفضا ما.. كان الانطباع الشكلي عنها سلبيا، وفي محض الانطباع قد تتلخص شخصية كاملة بمؤثراتها ومستوياتها النفسية والجسدية والثقافية والعاطفية. يكره الشفقة المورِّطة بالآخرين وضعفه/م، ولكنه أحسَّ بها. من ثم تبعه شعور أبوي عريض، قد ينتاب الرجال رغما عنهم، فيعلقون وسط شيء غير مريح. إنها (علاقة معقّدة)، أو كما يقول العرب في مثل لهم: “المرأة إما امرأة أو متاعب أو مسمار في العنق!”
كانت في حفلة راقصة تتناوب عليها تعريضات الفتيات الساخرة والفتيان، على حد سواء، راغبة في الرقص ولا تتقنه مثلما لا تتقن آداب السلوك ولا أحد يريد الرقص معها. كانت من الحي الجنوبي الفقير لبروكلين الممتدة، أيضاً. (لم ينتبه لهذا الأمر المشترك مع صوفيا إلا متأخرا، فأصابه الذهول).
حين أطل على حياتها فيما بعد، أدرك أنها تبلغ حدا بعيدا من السذاجة والثقة بالغرباء ولا تفهم دوافع المحيطين بها (أو ربما تفهمها غريزيا، لكنها لا ترفضها). وربما أوهم نفسه بتميّزه في سلوكه معها، لأنه كان الأقوى، وكانت تظهر كافة مؤشرات الإتباع علنا. طريقها المحتمل في الحياة كان يشبه طريق صوفيا التي أثّرت فيه بشدّة. مع توطد العلاقة شعر بمسؤولية نحوها.
مجرد اللهو كانت غاية المحيطين بها، ومن دون احترام أو التزام -أو مسؤولية- بعلاقة جدّية. لكن لا أحد يريدها فعلا في حياته. كانت يائسة محبطة. وتطورت علاقته وأحسّت هي باختلافه عنهم، أو ضعفه، فتمسّكت به بشدّة. سرّه ذلك وأزعجه. هل كانت واثقة به أم مستقوية؟
ربما انعقدت صفقة بين اللا وعيين.
العلاقات معقّدة والتقلّب الداخلي لا شيء يضبطه. العرب مجددا: (القلب من التقلب). المرجعية الوحيدة الثابتة هي الدين، لكنه لا هو ولا هي يعرفان الكثير عنه أو يلتزمان به. الكنيسة يزورها في أوقات محددة وغالبا لمقابلة الأب في حجرة الاعتراف، مع أنه لا يقول شيئا.. فقط يجلس ويصمت إلى أن يقول له الآخر وقد يئس من كلامه: مغفورة ذنوبك باسم الرب. العجوز إدوارد حذّره بشده.. أما صوفيا أو فتاتاه فلا يأبهن بالكنيسة. بل هناك ما هو أكثر من اللامبالاة: هناك الخوف الشائع بين أوساط الناس، وهذا ليس من فراغ. بمجرد أن يطلع الأب على سرّ، حتى لو غفره باسم الرب، فإنه يؤثر في نظرته التي لا يمكن ضبطها تماما، ولا بد أن يُستغل في لحظة أو أخرى.
لا أحد يعلم نظرته الداخلية للنساء، لكنه شديد التعاطف معهن. أو هذا ما يقوله لنفسه مبررا موقفه. أدرك منذ اللحظة الأولى أن كاثرين لم تبن علاقة حقيقية مع رجل، وأنها عذراء نفسا وجسدا واعتقادا، وكان هذا يجذبه بقوّة، على نحو يجهل أبعاده ويخيفه، في آن. فيما بعد اكتشف أن التنمية البشرية والإثراء مرهقان جدا، خاصة لمن ليس طفلا أو طفلة.
مع الوقت تغيّرت الأشياء. بعد زواجها منه وحصولها على التقدير الاجتماعي من حيّها الذي زادت روابطها به (فيما هو كان يتجنّبه باحتقار)، نمت شخصيتها وربما بعيدا عنه. صار لها منزل وبيئة وأنهت الكلّية وحصلت على وظيفة جدّية وصارت أكثر حرية واختلاطا وخروجا، إضافة إلى تحقيق نفسها كأم وامرأة وتعرفها على المسلكيات المهذبة والثقافات.
لقد فهم أنها لم تكن، كغالبية النساء أيضاً، تشعر بالتوازن في منزل والديها وكانت تبحث، دون وعي بينما كان يعي هو (ولهذا لم يكن يصدقها) عن مدخل لطموحها العام أكثر من اقتناعها بشخص معيّن تمتلك عاطفة نحوه لتشاركه حياته واهتماماته.
ظل طوال الوقت يدرك أنها تجهل العاطفة الحقيقية. ولعله كان يجهل بدوره أنه يخدع نفسه.
وصار تصريحها الجنسي يزعجه منذ فترة لأن الفراش لا ينطوي على متعة مشتركة. ألسبب فيها أم فيه هو؟؟
كان هناك شيء يؤذيه بشدّة. التعرّض للتجارب يولّد خبرات، هذا صحيح، لكنه أيضاً، كما ينهى الإنجيل، يترك آثارا سلبية.
ربما تأنيب داخلي أو عقدة تمكّنت منه أو عقاب قدريّ، أو خبرة وحدس في محلهما. لا يعرف على نحو حاسم. إنّه يكثر من تأمل التفاصيل الصغيرة ليعرف وجهتها الكبيرة، ولا يخرج إلا بقلقلة النفس، حتى لو أصاب. ولا وقت لديه أو رغبة في مراقبة سلوك أحد وماذا يفعل. هذه هي مصيدة مؤسسة الزواج، وهي منح صلاحيات وهمية لا تمنع شيئا على شاكلة حقوق، من أجل الإيهام بالفاعلية والتفوق والإبقاء ضمن نطاق الالتزام، أي تقديم الواجبات.
لو عرف الإنسان ما أبعاد المسؤولية حقا، الواجبات، لفعل فعل الجبال والسماوات والأرض حين رفضت عرض الرب.
من ناحيتها، لم تثق به إطلاقا في النساء. نظرة عينيها كانت قاسية ولصوصية تتحرك يمنة ويسارا إذا ما ذُكرت امرأة ما، لأنها رأته في الحفلات التي تراجعت مشاركته فيها حتى انعدمت، وورثت هي علاقاته مع الآخرين، كيف يتصرّف، وسلكت كل ما تستطيعه من الرقابة والضغوط. ظل يسكنه طموح سرّي في المرأة، وتشعر هي بطموحه وأنه يتناقض مع كل تفاصيلها.
لسبب مجهول، من ناحيته، ظلَّ يتذكر العجوز إدوارد.
لمّا رفع جوزيف رأسه ليقرأ وجه كاثرين زوجته التي انحنت نصف انحناءة غير بريئة أمامه على السجّادة وهو يتوسّط الأريكة، رأي في نظرتها الجنسية الموجهة المستهينة المهينة، كأنها مدروسة وليست عفوية، مجونا وتلاعبا وثقة -مشاعا- بالنفس واستهتارا بل واحتقارا، بالضبط كنظرة صوفيا الحقيقية تجاه الرجال. لقد لمس روحها.
إنه واثق تماما أن نظرتها لم تكن متعلّقة، هكذا شعر شعورا يقينيا، بشخصه هو.. ثمة شيء متغير فيها منذ فترة، ولا يجهل احتمالاته.