القصة …..
بقلم د: علي كرزازي – المغرب
حطت من غير استئذان على نافذة غرفتي في أولى أيام الربيع ، اختارت لها ركنا ركينا فيها وبنت عشّها. نبّهتني زوجتي للأمر قالت:
” إنها ضيفةٌ مباركةٌ، حاذر أن تزعجها كي لا ترحل على الفور” .
ابتسمت موافقا، قررت أن لا أفتح شباك النافذة مخافة أن تطير فلا تعود، لكني بقيت أتجسّس عليها من خلال فتحات الشباك الخشبي، جمعت قشّا وأوراق أشجار يابسة وبعضا من بقايا قماش رقيق. في كلّ يوم تحمل بمنقارها عودا صغيرا أو ما شابه. ها قد استوى عشُّها الصغير. أدركت ساعتها أنها ستبيض قريبا. وبالفعل وضعت بيضتين صغيرتين. حينما كنت أرقب حركاتها وسكناتها قفزت الى ذاكرتي صور من الطفولة الهاربة ، تلك الطفولة التي قال عنها بروست:” الطفولة هي الجنان الحقيقية التي فقدناها”. تجلّت لي أمّي في صورة الحمامة وادعةً ووديعة. هيّ مثلها كانت تستفيق باكرا وتدندن بأغنيات جميلة كان ذلك سجعها وعلى ايقاعه كانت تُدير شؤون البيت، تذهب الى الغابة كي تجمع الحطب وتضع الحمولة الثقيلة على ظهرها بصبر الناسكات. بذلك الحطب كانت تطبخ لنا الطعام وتهيئ المدفئة، ثمّ تقضي بعد ذلك سحابة يومها في الكنس والنسج على المنول وخياطة الملابس المهلهلة….
بعد مرور أيام فقصت الحمامة بيضتيها فخرج منهما فرخان صغيران، بالكاد يفتحان منقاريهما، ينتظران من أمّهما أن تطعمهما. فكّرت في سرّي:” ماذا لو حدث لها مكروه لا قدّر الله؟ حتما كانا سيموتان من الجوع. أنا هذا الرجل الخمسينيُّ كذلك كنتُ ذات يوم ضعيفا لا حول لي ولا قوّة محتاجا لحليب أمّي لحنانها وحدبها. وأنا أتأمل، أفكّر، وأكتب ما تني
الذاكرة تشتغل…تذكّرت الشاعر الحطيئة حينما نفاه الفاروق عمر رضي الله عنه عن المدينة بسبب هجائه المقذع فجاءه مستعطفا متوسلا وهو يقول:
ماذا تَقولُ لِأَفراخٍ بِذي مَرَخٍ
حُمرِ الحَواصِلِ لا ماءٌ وَلا شَجَرُ
ألقَيتَ كاسِبَهُم في قَعرِ مُظلِمَةٍ
فَاِغفِر عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ يا عُمَرُ.
أنا لم أكذب ، فالحمامة أمّي والفرخ أنا، لاوجود لي بدونها ولولاها لَمَا كان لي أن أكون. يقول الله سبحانه وتعالى:” وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ” ( الانعام:38)
ظلت المسكينة تواظب على إطعامهما فينة بعد أخرى، في منقارها تحملُ ما تيسر لها من قوت، قد يكون حشرة، نبتة صغيرة، حبّة قمح، دودة…الخ، بدأ اللون البني يختفي والزغب يكبر ليصبح ريشا.
تبّا لك أيها الانسان المغفل الجاحد، الناكر للمعروف ! أبعد كل هذا تقول لأمك:” أُفٍ ” وتتبرم من كلامها قائلا:” شكون اللّي قال ليك تولديني”.
الحق والحق أقول وبه أشهد: ما رأيت ولا سمعت فرخ الحمام يخاطب أمّه بمثل هذا الكلام الساقط.
انشغلتُ طيلة تلك الأيام كمراسل لفائدة زوجتي، أُطلعها على كل التفاصيل الخاصة بنشاط الحمامة. قالت لي ذات صبيحة: لِمَ لا نسهل مأمورية هذه الحمامة فنضع بعضا من بقايا الطعام وقليلا من الماء بمحاذاة عشّها أثناء غيابها ؟”. استحسنت الفكرة وكذلك فعلنا، لاحظت بعدها أن الحمامة وإن أكلت من طعامنا ظلت محافظة على نسق عملها اليومي، ترحل في أول الصباح وتعود على فترات خلال النهار وما إن يُرخي الليل سدوله حتى تعود أدراجها إلى عشّها كي تطعم صغيريها وتحضنهما…
قلت لزوجتي :” لقد بدأ يكبُران بسرعة قياسية ، وما إن يشتدّ عودهما حتى يفارقا أُمّهُما “. صمتت لبرهة بعد سماعها لكلامي، علت وجهها مسحة من الحزن. أردفتُ قائلا:” كذلك أبناؤك حين يكبرون سيغادرون الى بيوت أخرى”. لم يعجبها قولي فشرحت لها:
” إنها سُنّة الحياة، أمامك حالتُنا، ألم نفارق والدينا بمجرد أن تزوّجنا ؟”
أجابت على الفور:” أنا لن أفارق أبنائي، سأذهب معهم أينما ذهبوا ”
قلت لها هازئا:” وهل الحمامة ستفعل مثلك ؟”.
لم ننتظر كثيرا ليأتينا الجواب، لم يمر أسبوع بالكامل حتى أصبحت أستفيق باكرا على حركة اصطفاق أجنحة الفرخين الصغيرين، إنهما يُحاكيان عبّاس بن فرناس، يريدان تعلّم الطيران، هسيس أجنحتهما المتواصل جعلني أُكْبِرُ فيهما روح الاصرار والتحدي…
و أخيرا طارا…
أدركت ذلك بمجرد رؤيتي للعش المهجور، أُمّهما كذلك رحلت وكأن مهمتها انتهت في الزمان والمكان. أصابني نوع من السأم والضجر. فرخُ الحمام جاحدٌ هو الآخر مثله مثل ابن آدم للأسف!.
لم أُرد أن أُصدّر حزني وألمي إلى نفسية زوجتي، وإن كنت أعلم يقينا أن الكآبة تسللت إلى قلبها هي الأخرى. أنا الآن أُنصت لأغنية المطرب الوديع وديع الصافي:” دار يا داري يا دار…يا دار قولي لي يا دار: فين فين حبايب الدار”.
حدّثتني نفسي بأن أكنس العشّ المهجور الذي أصبح مصدر ألم وتعاسة لي. لكني لم أقو على فعل ذلك، قلت في نفسي: ستتكفل الرياح ببعثرته بعد حين.
مرّت أيام ثلاثة على رحيل الحمامة وفرخيها، عفوا ! هُما لم يعودا فرخين، لقد كبُرا واشتدّ عودهما أو لنقل وصلا سن الرشد فاختارا مسارهما في الحياة . بالكاد تململت في فراشي كي أنهض فإذا بموسيقى جميلة تداعب طبلة أذني…إنه سجع الحمامة. هل تكون قد عادت ؟
أسرعت نحو النافدة واسترقت النظر عبر فُرجات الشباك، رأيتها وقد افترشت العش. هل هي حمامتي ؟ حدّقت فيها مليّا، إنها ليست هي ! إنها حمامة أخرى بلون مغاير ولون عيون أحمر.
أفقت زوجتي على التوّ و أعلمتها بالخبر، تهلّل وجهها فرحا وسرورا: هل هي حمامتُنا ؟
قلت : لا ، إنها حمامة أخرى جاءت لتضع بيضها.
تطلّعت فيّ والدهشة ترتسم على محياها ثمّ قالت: مرحبا بها !
استعدنا أدوارنا السابقة في السقاية والإطعام والفرحةُ تغمر قلبينا، في فجر كل يوم نسبح لله على ايقاع سجع الحمامة الجديدة ، يقول ربّ العزة: “تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ” ( الاسراء:44) .
دعونا الله أن يهبها فرخين كذلك فاستجاب لنا ربّنا. ها قد وضعت بيضتين وها نحن ننتظر أن تفقصهما ليخرج منهما المولودان الصغيران.
قلت لزوجتي:” لن تكون هذه الحمامة هي الأخيرة، في كلّ ربيع ستأتي حمامة أخرى لتبيض وتفقص وتخرّج حمامتين جديدتين”
ردّت عليّ بقولها:” وقد تعود إحدى هاتين الحمامتين أو واحدة من فراخهما”
طأطأت رأسي موافقا فيما سافرت بخيالي على صهوة الحنين الى شرق المملكة ، هناك حيث توجد أُمّي، الحمامة الوادعة والوديعة التي ولدتني وربّتنِي ، ولقّنتني وهي الاُميَّةُ كل دروس الحبّ والتسامح وبذل الخير.
حفظك الله أُمّي وكلّ الحمائم / الحرائر التي تسهر على تربية أجيالنا من محيط القلب الى خليج الروح.