كتابات ومواد دينية ….
يَا عَـيْنَ فَــيْضِ اللهِ وَالْعـِرْفَان
يَسْعَى إِلَيْكَ الْخَلْقُ كَالظَّمْآنِ
لقد أدرك مرزا غلام أحمد عليه السلام منذ صباه عظمة مقام سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، فحرص على التأسي به في كل أمر من أمور حياته، وكان يلتزم إتباع سنته تماما كما يتبع الظل صاحبه فلا ينفصل برهة عنه ولا يبتعد عنه قيد أنملة. فكان خير من ينطبق عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: “لا يُؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحبّ إليه من نفسه وأهله وماله”. ولذلك لم يكن من حب لأحد في قلب سيدنا أحمد عليه السلام بعد حب الله تبارك وتعالى سوى حب رسوله صلى الله عليه وسلم. لقد قرأ عنه منذ صغره، وتعلم صفات وشمائل ذلك الإنسان الأكرم، وأدرك عظمة ذلك النبي الذي كان رحمة للعالمين، فتعلق به قلبه، واستهام به حبا، حتى لكأنه قد أسكره ذلك الحب فصار نشوانا يفيض قلبه بالمحبة، وتنساب أحاسيسه ومشاعره على لسانه في كلمات رقيقة يُناجي بها محبوبه، فلا يهتم لانتقاد المعارضين، ولا يكترث لمطاعن المخالفين، ولا يأبه لفتاوى التكفير، ولا يتأثر بحمم اللعنات التي صبوها عليه صبا، ومن إحدى قصائده باللغة الفارسية ترجم له الأستاذ نادر الحصني.. وهو أحد الأخوة الأدباء الكرام من سوريا، بيتين من الشعر، وصاغهما شعرا رقيقا باللغة العربية فقال:
إِنِّي لَنَشْـوَانٌ بعِـشْقِ مُحَمَّدٍ
مِنْ بَعْـدِ حُبِّ اللهِ جَـلَّ جَلاَلُهُ
رَبِّي شَهِيـدٌ قَـدْ سَبَانِي جَمَالُهُ
ويذكر حضرة ميرزا بشير أحمد رضي الله عنه مظاهر هذا الحب الذي رآه بنفسه، وهو أحد أنجال سيدنا أحمد، حيث قال:
“لقد وُلدتُ في بيته، وهذه نعمة كبرى من الله تعالى لا يمكن لي أن أشكره عليها حق الشكر. ولا بد لي أن أُسَلّم نفسي إلى الله يوما ما، فأقول مستحلفا بالله: إنه لم يحدث، ولا مرة واحدة، أن ذكر حضرته رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حتى اسم محمد صلى الله عليه وسلم إلاّ واغرورقت عيناه بالدموع. فإن قلبه.. وعقله.. وكل ذرة من ذرات كيانه.. كانت عامرة بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم نابضة بغرامه”.
وفي مناسبة أخرى كان سيدنا أحمد يجوب صحن المسجد المبارك، وهو مسجد صغير يتصل بداره، وكان يذهب ويجيء وحده وهو يُتمتم بكلمات، بينما تنسكب الدموع من عينيه جارية على خديه. وحدث أن دخل المسجد أحد صحابته، فانزعج لمّا رآه يبكي بهذه الصورة وهو وحده، فظن أن أمرا خطيرا قد ألمّ به، فسأله مضطربا: “ماذا جرى يا سيدي؟” فرد عليه قائلا: ”
كنتُ أردد بيتين من شعر سيدنا حسّان، وتمنيت لو كنت أنا قائلهما”.
كان البيتان اللذان يرددهما سيدنا أحمد عليه السلام هما قول حسان بن ثابت في رثاء رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كُنْتَ السـَّوَادَ لِنَاظِرِي
فَـعَمَى عَلَيْـكَ النَّاظِرُ
مَن شَـاءَ بَعْدَكَ فَلْيَمُتْ
فَعَـلَيْكَ كُنْتُ أُحَـاذِرُ
ما أعظمك يا حبيب رسول الله وما أعظم حبك ووفاءك لسيد خلق الله! وما أشقى هؤلاء الذين اتهموك بالكفر والضلال، فهم لم يعرفوك ولم يتعلموا منك أشرف وأطهر مشاعر الحب، ولم يروا منك أجمل وأحلى ألوان الوداد والغرام!
لقد كان عليه السلام يحب الرسول صلى الله عليه وسلم حبا جما، كما كان يحب أيضا كل ما يتعلّق بمحبوبه.. فكان يحب العرب، ويحب اللغة العربية، ويحب أرض الحجاز التي شرفتها أقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان يحب تراب تلك الأرض ويتمنى أن يزورها، ويجعل من ذلك التراب كحلا تكتحل به عيناه. وقد عبّر عليه السلام عن هذه المحبة في الجزء الذي كتبه باللغة العربية من كتاب “مرآة كمالات الإسلام”، فاستهل قائلا في فصل منه وجّه فيه الخطاب إلى مشايخ العرب وصلحائهم:
“السلام عليكم أيها الأتقياء الأصفياء، من العرب العُرَباء. السلام عليكم يا أهلَ أرضِ النبوّةِ وجيرانِ بيتِ اللهِ العُظمَى. أنتم خيرُ أممِ الإسلامِ وخيرُ حزبِ اللهِ الأعلَى. ما كان لقومٍ أن يَبلًغَ شأنكم.. قد زِدتم شرَفًا ومجدًا ومنْزلاً. وكافيكم من فخرٍ أنَّ اللهَ افْتَتحَ وحْيَه من آدمَ وخَتَم على نبيٍّ كانَ منكم ومِن أرضِكم وطنا ومأوى ومَوْلدًا. وما أدراكم مَن ذلك النبيُّ! محمدٌ المصطفى، سَيِّد الأصفياء، وفخرُ الأنبياء، وخاتَمُ الرسلِ وإمامُ الوَرَى. قد ثبت إحسانُه على كلِّ مَن دَبَّ على رجْلَين ومَشَى. وقد أدْركَ وَحيُه كُلَّ فائتٍ مِن رموزٍٍ وَمَعانٍٍ ونِِكاتٍٍ عُلَى. وأحيَا دينُه كلَّ من كان ميْتًا من معارفِ الحقّ وسُننِ الهدَى. اللهُمّ فصَلِّ وسَلم وبارِكْ علَيه بعَدَدِ كل ما في الأرضِ مِنَ القطراتِ والذرّاتِ، والأحْياءِ والأمْواتِ، وبعدَدِ كلِّ ما في السماواتِ، وبعدَدِ كلِّ ما ظهَرَ وما اختَفَى، وبلّغْه منّا سَلامًا يملأُ أرجاءَ السماءِ. طُوبَى لقومٍ يحملُ نيرَ محمَّدٍ على رقَبَتِهِ، وطُوبى لقَلبٍ أفْضَى إليهِ وخَالَطَهُ وفي حُبه فَنَى.
يا سُكانَ أرضٍ أوطأته قَدَمُ المصطفى.. رحمَكُم اللهُ ورَضِيَ عنكم وأرْضَى! إنَّ ظَني فيكُم جَليلٌ، وفي رُوحِي لِلقائكُم غليلٌ، يا عبادَ الله. وإني أحِنُّ إلى عِِيَان بلادِكُم، وبَرَكاتِ سَوَادِكُم، لأَزُورَ مَوْطِئَ أقْدامِ خَيرِ الوَرَى، وأجْعَلَ كُحْلَ عَيْني تلك الثرَى…”.
(الخزائن الروحانية ج5- مرآة كمالات الإسلام ص419-421)
وفي مكان آخر كتب يقول:
“… ومن آياتِ رَحمته العَظيمةِ.. البَدرُ الذِي طَلَعَ مِن أمِّ القُرَى، في ليلةٍ اسْوَدّت ذَوَائِبُها العُظمَى، فرفَعَ الظلمَاتِ كُلَّها، وَوَضع سِراجًا منيرًا أمامَ كلِّ عينٍ تَرَى.
ما عندَنا لفظٌ نشكُر به على مِنَنِه الكبرَى. أيْقظَ العالمينَ كلَّهم ونَفَى عن النّائمينَ الكَرَى. تلقّى كلَّ هَمٍّ وغَمٍّ للدينِ بطيبِ النفْسِ لما انبَرَى، وسَنَّ بَذْلَ النفْسِ للهِ لكل مَن يطلب الموْلى. فَنَى في الله.. وسَعَى لله.. ودعا إلى الله.. وطهّر الأرضَ حقَّ طَهارتها، فَيَا عجبًا للفَتى! رَبِّ.. اجْزِ منَّا هذا الرسولَ الكريمَ خَيرَ ما تجزِي أحدًا مِنَ الوَرَى. وَتَوَفَّنا في زُمْرتِه، واحشُرْنا في أُمَّتِهِ، واسْقِِنا مِنْ عَيْنه، واجعَلهَا لنَا السُقيا. واجْعله لنا الشَّفيعَ المشَفَّع في الأُولى والأُخْرَى. ربِّ.. فتَقَبَّلْ منّا هذا الدُّعاءَ، وآوِِنا هذا الذُّرَى. ربِّ.. يا ربِّ.. صَلِّ وسلِّمْ وبَارِكْ على ذلكَ النَّبيِّ الرؤوف الرَّحيمِ، وعَلى كلِّ مَن أحبَّه وأطاعَ أمْرَه واتَّبَع الهدَى.”
إن أول قصيدة كتبها عليه السلام باللغة العربية كانت في مدح حبيبه سيد الأنبياء، ومنها نقتطف هذه الأبيات
يَا عَـيْنَ فَــيْضِ اللهِ وَالْعـِرْفَان ِ
يَسْعَى إِلَيْكَ الْخَلْقُ كَالظَّمْآنِ
يَا بَـحْـرَ فَـضْـلِ الْمُنْعِمِ الْمَنَّـان ِ
تَهْوِي إِلَيْكَ الزُّمـرُ بِالْكِيزَانِ
يَا شَمْسَ مُلْكِ الْحُسْنِ وَالإِحْسَانِ
نَوَّرْتَ وَجْــهَ الْبَرِّ وَالْعُمْرَانِ
لاَ شَـكَّ أَنَّ مُحَمَّدًا خَيْرُ الْوَرَى
رَيْقُ الْكِرَامِ وَنُخْـبَةُ الأَعْيَانِ
تَـمّـَتْ عَلَيْهِ صِفَاتُ كُــلِّ مَزِيَّة ٍ
خُـتِمَتْ بِــهِ نَعْمَاءُ كُلِّ زَمَانِ
هذه بعض الأمثلة.. نثرا وشعرا.. مما كتبه سيدنا أحمد عليه السلام في اللغة العربية فقط، لا ليمدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يقول إنه لأرفع من مدحي وأعلى وأكبر، وإنما ليُعبر به عن مدى سمو مقام رسول الله العظيم، وعن قدْر محبته له، فتجيش نفسه حبا، ويفيض قلبه غراما، ويذوب فؤاده هياما، وتنساب الكلمات الصادقة معبرة عن الاحترام والتقدير، ويخط قلمه أبياتا تنبئ عن الود والتوقير. وحقا لقد صدق حين قال: “وَإِنَّ بَيَاني عَنْ جَنَاني يُخْبرُ