فلسطين …
بقلم : فؤاد عبد النور – المانيا
معذر قرية صغيرة تبعد حوالي 6 كلم. عن جبل طابور، وقريبة من مستوطنة ” كفار كيش ” التي بنيت على جزء من أراضيها. كانت تغذيها بضعة ينابيع تصب في وادي البيرة القادم من أم الغنم. عدد سكانها كان حوالي 500 نسمة وقت الهجرة، وهم من المغاربة، كنت أظنهم من أتباع الأمير عبد القادر الجزائري، إلى أن صحّحت معلوماتي الشاعرة والكاتبة الفلسطينية من أصل جزائري، ” فاطمة الطيب ” والتي أسعدني الحظ بأن يكون أهلها من معذر نفسها، بينما ولدت هي في مخيم اليرموك، في حارة المغاربة المشهورة، فحصلت منها على معلومات كثيرة ومفيدة عن إخواننا المجاهدين الجزائريين، وعن ثورة ” محمد المقراني ” ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر، والثورات المتتابعة لأتباعه.
بدأت ثورة المقراني في السنة 1818، ولم يرفض أتباعه الاحتلال فقط، ولكنهم رفضوا كذلك التبعية الفرنسية، فاضطروا للهجرة عن طريق تونس، وركبوا البحر إلى سوريا وفلسطين في حماية السلطنة العثمانية التي رحّبت بهم. ويقال إن أعدادهم بلغت حوالي ال 800 ألف نسمة، وهو عدد كبير ليس باستطاعتي التأكد منه هنا.
حياتهم في فلسطين كانت مغلقةً نوعاً ما. فهم محافظون للغاية، يختلفون عن الفلسطينيين، وهكذا لم يصاهروهم، إلا في حالات محدودة. وكتبت فاطمة في كتابها الذي أطلعتني على مسودته:
” إلا أن المشكلة التي واجهتها العائلات المقرانية وظلت قائمة حتى عام 1948، تاريخ التهجير القسري، الأول للشعب الفلسطيني، والثاني للجزائريين، المشكلة كانت في العادات والتقاليد، وعلى وجه التحديد المتعلقة بشؤون المرأة. فالفلسطينيون عموماً سواء أكانوا بدواً أم فلاحين، كانوا أقل تشدداً تجاه المرأة. فالمرأة لا تعمل عندهم في الحقل فقط، أو تخرج للحصاد والقطاف ولكنها تشارك الرجال في سهراتهم في البيوت، وتناقش وتدلي بآرائها، بل إنها تشاركهم في بعض أنواع الدبكة، مثل دبكة ” حبل مودع “، حيث يتشكل هذا الصف أو هذا الحبل من الرجال والنساء، ويتم ذلك دون خدشٍ للحياء، سواء في الملبس أو في الكلام أو الحركة، ولا يجد الفلسطينيون في ذلك ضيراً. فكل القبيلة أو القرية هم أبناء عمٍ، ومن نسل رجلٍ واحد، لذلك فحصول اعتداءٍ على المرأة يكاد يكون مستحيلاً. والمرأة في هذه القرى الفلسطينية تغطي رأسها جيداً، ولا يظهر منه سوى صفحة الوجه، واليدين والقدمين، ولا يرون في ذلك مخالفةً للشريعة. بينما العائلات المقرانية على وجه الخصوص، والتي جاءت من منطقة القبائل، فإنها ترى ذلك مخالفةً صريحةً للدين. فالمرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا للقبر، وإن خرجت لسببٍ من الأسباب، فلا يرى منها لا الوجه، ولا الكفين، ولا القدمين.”
ويقول ” أحمد الشقيري ” الزعيم والمجاهد الفلسطيني الكبير، والذي عرف الجزائريين في فلسطين حين ساكنهم خلال منفاه إلى بلدة سمخ خلال الانتداب، ويحكي حكايته مع جاره الجزائري العجوز، الذي يغلق بمفتاحٍ ضخمٍ باب بيته على امرأته العجوز، والتي لم تخرج من بيتها طوال عمرها.
يقول أحمد الشقيري في ” أربعون عاماً في الحياة العربية والدولية ” بيروت 2006, ط 1 , ص 185 ما يلي:
(الواقع أن المغاربة، وقد عرفتهم فيما بعد في قراهم، محافظون أشداء. وقد كنت وكيلاً عن أهالي قريتي معذر وعولم في قضاء طبريا، وفي قضايا صفد ضد اليهود، فرأيت فيهم المحافظة على التقاليد الجزائرية للنهاية، حتى أنهم يتكلمون اللهجة الجزائرية إلى جانب اللهجة الفلسطينية.
” وجاءت تصاريف الأقدار أن اجتمع بأهل معذر وعولم في الأردن بعد النكبة. فقد هاجروا من ضمن من هاجر من فلسطين، وأصبحوا في عداد الفلاحين، فكانت تلك هجرتهم الثانية. الأولى من الجزائر والثانية من فلسطين “.
ونكمل من كتاب فاطمة الطيب:
” أخذ الفلسطينيون الكثير من عادات الطعام الجزائري. أشهر ما أخذوا كان ” الكسكس ” وهو يصنع من السميد والبرغل، وسمّاه الفلسطينيين ” المفتول “. وهي أكلة شائعة وشهيرة في فلسطين.”
وتصف فاطمة موسم عمل ” الكسكس ” في البيوت الجزائرية:
” كان لموسم فتل الكسكس طقسٌ مميّز، حيث تجتمع كل نساء الحي، الكبيرات والخبيرات في فتل الكسكس (المفتول الفلسطيني)، ويعدون المكان المناسب والواسع، وينتشرن سعيدات بفرصة الاجتماع هذه، كل سيدة تجلب غربالها معها، ويبدأون بالفتل والحديث، ويرنمن أهازيج جزائرية جميلة حزينة، وكثيرا ما كنا نراهنّ يبكين وهم يغنين.
وإن كانت هذه الأكلات قد ضعفت في الهجرة الثانية للجزائريين بسبب عدم توفر الحيوانات والخضار التي كانت متوفرة لهم في فلسطين. إلى أن استقرت بهم الأحوال، ومن قدر على الزراعة انغمس بها، خاصةً في أغوار الأردن وسهول سوريا.
أما ما أخذه الجزائريون من الفلسطينيين فكان عادة شرب القهوة.
” أما اللباس فكان الطراز الفلسطيني سائداً بالنسبة للرجال والنساء، وأغلب الأقمشة كانت تردهم من سوريا “.فؤاد عبد النور – المانيا