فن وثقافة …..
في خبايا الروح يختبئ السؤال.. وهو كمحارة تسأل التائهين في اليباب، وفي جوفها ينتفض البوح في وجه الغناء المتصاعد من بين تكوينات اللوحة وأطياف الضوء المغموسة بهموم الإنسان كي توضح الظلال معنى قوس قزح.. .. أسئلة تتصاعد من بين تكوينات الوجود منذ الانفجار الكوني الكبير حتى لحظة اللقاء مع قوس الدهشة الملون وهو يسند كقنطرة كونية سقف السماء كي لا تنهار الأحلام.. فتنشر ظلها المهموس على رقعة قماش توثق للقاء المتلقي مع المجهول.. مع بوح المحارة بخبايا الروح….
هي دموع يحاصرها الشفق بألوان الحياة فيلمع على بحيرة الحزن قمر يأبى الأفول، وتتأمل أعماقه الداكنة طيور السنونو كي تحصد الحكايات وترويها للجدات….
فتبوح العورات بما يواري سوءة الصمت فيوقد النهار ويعيد لزهرة النور عطرها المسلوب..
كأن اللوحة تعبر عن انفجار كوني للحقيقة، فتأخذ قوةُ السؤال التكوينات والكتل إلى أبعد من مدى الدهشة، فتترنح العقول في غيبوبة التأمل والسفر في مجاهل الحيرة؛ كي يتنسم زعترها المورق في قلب الفنان، فيحتسى القهوة مع السنونو وهو يقلب محارة السندباد، كأنه عرافة تمتلك أسرار عناة الكنعانية وهي نحرض سنابل بعلٍ على المطر.. فيشرق قمحها بالأمل المزروع في ابتسامات عذارى الحي وفتيانه.. فتخرج من فم العرافة أسرار ريح كونية عتقها الترحال.. ولونتها عيون الدهشة بأحلام الرعاة.. وكأن السندباد ما عاد بحاراً، بل عاشقاً يهذي باسم حبيبته عبر بوادي الحنين ووديان الشوق ليلتقط من يباب الهجر صدفة اللقاء مع روحها الملوعة بحبه الكوني..
سأخرج قليلاً من سكرة البوح وقد أترعت بنبيذ عالم لوحة عدت مزاحماً المتأملين كمتلقٍ يهتف للدهشة في فم السؤال منقباً عن كهرمانة الروح المتحجرة في صخور سال عليها لعاب الديناصورات في الأزمان البائدة.. أقتفي أثر عشتار التي راوغتها عناة بسمرتها الكنعانية.. لتحظى بقمح بعل وهو يلوح بيد الغيم للمطر..
وها قد خرجت.. متأملاً ما قاله أحد الشعراء عن هذه اللوحة.. تيسير حرب الذي عايش تفاصيل اللوحة وارتحل في أعماقها المبهمة ليخرج ببعض أسرارها.. فماذا قال:
“واخْضَوضَرَ الشعاع في عينها الشمس، فأخْجلَت ضوء القمر ، وأمسى شعاعي دخان ذبالةٍ بين أضراس الواقعة…
رقعة شطرنج قِلاعُها تبكِ الخيول ، يوم أفَـلَتْ بيادقُ المسألة
بيارق ذبيحة يسيل أحمَرُها في منعرجِ الريح المرسلة
وألمح في أفْقِها قصيدةً لم تَـتُه نقاطها عن الحروف
سارِدةً نبضَ المجرّة ، لحظة ميلاد الغيوم
ولم تَزُغْ سيقان العُريِ عن كأس الرذيلة ذات سهرة ، إذ ترنَّحتْ أضواء المواخير
أرى تابوتاً يضج بأوجاع ذُبِحتْ ، على شفا الشمس ، ولم تنبُس أهِلَّتُنا بدمعه
وتُصلَبُ النجمات التي انفرطَ العقد في خيطها ، تُداس بأظلاف السنين
والمسرح بات جمهوره ممثلين ، وعَلِق المخرج بين أسمال الستائر ، والتفّت القضية بأثواب من حِياكتنا ، فتُهنا بين أضراس وتُروس …
وصرنا فجيعة السنابل ، ومناجلَ ثكْـلى ، والحصّادُ يكرع الكأس على طاولات البغايا، ولسان حاله يقول ” اليوم خمر وغداً ” قهر…والنادل يسكب عرقاً في جيب السيد ، ومسافات الجوع ضاقت بها حدود الرغيف …
ولكنَّ البحر يعلم اتجاه البوص له ولو غرِقت مراكبُه ؛ فالربّان ، والزناد ، والذخيرة ناجون…
أيتها الحيتان لا تُحلّق الأسماك في بحرٍ رسمتُموه في عَرض الفضاء
وإن صببتم ونظمتم لها قصيدة ماء
فإنها لا ترضع أكسِجيناً مذاباً في هواء
فطبعُها يسبح في مـاءٍ ، ولا يعوم في دماء”
إلى أن قال:
“وأرانيْ دفين الزوايا ، فإن عَـثرتْ ألوانُـك على شواهِد قبري فانقُـش عليها :
(هذا مقام ريشةٍ ، منتوفة الأهداب ، دلقتْ طلاء الكلام ، ومكتوفة المحبره )
ايها الرسام : كل الاوجاع تغلي في قدر لوحةٍ ، أبى منشدُها إلا صرخةً مغموسةً في وضح اللون ، وشكوىً بطلاء ريشه”
وأقول لشاعرنا الجميل: للفنان أن يخرج من بوحه كي يتواصل مع اكتساق جديد.. وله أن يعود غريباً يتعلق بأسئلة ما فتئت تطرق المحارة التي يفلبها السنونو في اليباب وقد اختبأت في جوفها أغنية الحياة .
شكراً لهذه اللوحة التي جمعت الأرواح الجميلة حول لؤلؤة البوح المغموسة بالخيال.
*******
لوحة للروائي والتشكيلي بكر السباتين من القماش بعنوان” لؤلؤة البوح على صدر عشتار ” قياس( طول 1متر و20سم، عرض 1م)