دراسات …..
د.علي كرزازي/ المغرب العربي
جاء في ترجمته: هو عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد سادرة بن يزيد بن جشم بن الخزرج، الأنصاري السلمي، أحد النقباء ليلة العقبة. بدخوله للإسلام باع عبد الله بن عمرو نفسه وماله وأهله لله سبحانه وتعالى نظير الحصول على مرضاته، ونِعْمَ البيع من هذا الصحابي الأنصاري الذي لازم الرسول (ص) في المدينة المنورة في حلّه وترحاله، وجعل نفسه طوع بنانه، آملا أن يفي بما عاهد الله ورسوله من نصرة وذود عن حمى هذا الدين الجديد، الذي نقل البشرية من غياهب الظلمات إلى نور الحق والهداية.
لقد أبان عمرو بن حرام عن معدنه الحقيق حينما هبّ مدافعا عن شرف الإسلام، فقاتل في غزوة بدر قتال الأبطال الذين وضعوا أرواحهم على أكفهم، واستعذبوا العذاب في سبيل ربهم ورسولهم غير خائفين ولا متخلفين، امتثالا وطاعة لله الذي أمرهم قائلا “انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ “[سورة التوبة، الآية: 41].
وتأتي غزوة أحد، فيُجدّد عمرو بن حرام عزمه على الجهاد طمعا في أن ينال إحدى الحسنين، فإما النصر أو الشهادة، تلك هي عقيدة كل مؤمن نذر نفسه لله ولرسوله، بل إن عمرو ليخامرُه إحساس من نوع آخر، إنه يتشوّف إلى الدار الأخرى، وكأن ذلك الحنين الجارف الذي يسكن جوانحه يدفعه دفعا إلى استعجال تذوق لذة القرب والاتصال بالذات الالهية، شأنه في ذلك شأن الصوفي الذي يرجو الموت رغبة في اللقاء، ولعل هذا ما يفصح عنه حديثه ووصيته لابنه الصحابي الجليل جابر بن عبد الله قبل الخروج إلى هذه الغزوة، يقول “إني لا أراني إلا مقتولا في هذه الغزوة…، بل لعلي سأكون أول شهدائها من
المسلمين […] وإني والله، لا أدع أحدا بعدي أحبَّ إلي منك بعد رسول الله (ص) […] وإن عليَّ ديْنا، فاقض عني دَيْني واستوصي بإخوتك خيرا”.
كثيرة هي المعاني الدينية واللطائف الأخلاقية التي يمكن أن نستخلصها من هذه الوصية الصادرة عن رجل ملأ الإيمان قلبهُ وملك عليه روحه، أولها هذا التحول العجيب الذي أحدثه الإسلام في وقت قياسي في نفوس أتباعه/المؤمنين، وهذا الحبّ الجارف الذي يكنه هؤلاء لله ولرسوله وانصياعهم لأمرهما. فلنتمعن في قول عمرو:
“وإني والله لا أدع أحدا بعدي أحبّ إلي منك بعد رسول الله (ص) “، ولنتذكر قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: “لا يكون أحدكم مومنا حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين” (صحيح البخاري)، كما نستنتج أيضا من قول عمرو، أن حدس المؤمن لا يخطئ، فكأنما اطلع على مصيره وتوقّع رحيله عن هذه الدنيا، ولذلك أحب أن يوصي ابنه، ولا ننسى أيضا أن من مكارم الأخلاق التي زكاها الإسلام عند المؤمنين قضاء الدين وأداء الأمانات، إضافة إلى البر بالأهل والإحسان إليهم “وإن علي دينا فاقض عني ديني واستوصي بإخوتك خيرا”.
ذلك هو الإسلام: عقيدة دين ومنهج حياة يرسمان للعبد طريق السعادة في الدنيا والآخرة، لكن شهيدا مثل عمرو بن حرام لم يكن بالُه مشغولا بالحياة الدنيا لأنه كان موقنا بأن نعيمها زائل، وهو إنما يبْغي دار القرار، دار الخُلد، مصداقا لقوله عز وجل:” وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ” [سورة العنكبوت، الآية: 64]. لكل ما سبق جعل عمرو حياته حياة بذل وتضحية وأيقن أن خلاصه إنما يمكن في طاعة مولاه ابتغاء نيل رضاه، ويصدُق حدس مناضلِنا المغوار وتتحقق نبوءته ويسقط في ميدان الشرف كأول قتيل من جانب المسلمين، ولم يكتف المشركون بقتله بل مثّلوا بجثته، إذا أورد الإمام الطبري بإسناد صحيح عن محمد بن المنكدر عن جابر، أن أباه قُتل يوم أحد، فجدعوا أنفه وأذنيه… (فتح الباري)، وجاء في كتب الحديث أن أم جابر –
رضي الله عنهما- قامت بحمل زوجها عبد الله وأخيها على ناقة، فنادى مناد “ادفنوا القتلى في مصارعهم” فرُدّا حتى دفنا في مصارعهم (أخرجه ابن ماجة وآخرون).
أما جابر فاخترمه الحزن على أبيه فبكاه وعمته فاطمة بنت عبد الله بن حرام بكاء شديدا، لكن نبي الرحمة المهداة بثّ في قلبيهما الطمأنينة وعزّاهما أحسن تعزية حينما أعلمهما أن الملائكة ما زالت تظلّلُه بأجنحتها حتى ‘رفع، ورد في” كتاب الجنائز” للبخاري أن جابرا قال:” لما قُتل أبي يوم أحد، جعلت أكشف عن وجهه وأبكي وجعل أصحاب رسول الله (ص) ينهوني وهو لا ينهاني، وجعلت عمتي تبكيه فقال النبي (ص): “تبكيه أولا تبكيه، ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه” ( الدرر السنية)
لم يقف تكريم الله من فوق سبع سماوات للشهيد عبد الله عند هذا الحد، بل إنّه خصه بمكرمة استثنائية تمثلت في أنّه كلمة كفاحا أي مواجهة، ليس بينهما حجاب – كما ورد في الحديث- وذلك تقديرا من العزيز الجليل لمجاهد شُغف بالشهادة أيما شغف، فعن جابر رضي الله عنه قال، قال لي رسول الله (ص): “ألا أخبرك أن الله كلم أباك كفاحا، فقال، يا عبدي سلني أعطك، قال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانيا، فقال: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله: ” وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ، بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ “[سورة آل عمران الآية: 169]. رحم الله هذا الشهيد الفذ وأدخله فسيح جناته مع سيد الورى وإمام المرسلين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام