دراسات ……
بقلم : عبد الوهاب القرش – مصر …..
تعد مسألة الحكومة والدولة والحاكم من المسائل المهمة في حياة الإنسان والمجتمعات، ومن المسائل الأساسية التي واجهها الفكر البشري منذ نشوء المجتمعات، وقد طُرحت في هذا المجال نظرياتٌ وآراء كثيرةٌ ومختلفةٌ من قبل مفكرين وأديانٍ ومدارسَ فلسفيةٍ على طول التاريخ..
لكن سجل لنا القرآن الكريم أروع النماذج لعدل الحكام ، ومنها موقف سليمان الصلاة والسلام مع وادي النمل.. قال تعالى:{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ . فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}(النمل: 18-19).
لقد كان الجيش الذي يقوده سليمان عليه الصلاة والسلام كثيفاً عظيماً مهيباً مكونًا من عدة فرق متناسقة، أخبر الله تعالى عن ثلاث منها : فرقة الإنس، وفرقة الجن، وفرقة الطير، الطير تظلل عليهم فتكون مثل السحابة التي تمنع وهج الحر من الشمس يقول تعالى:{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}(النمل: 17).
استنفر الجيش بقيادة سليمان عليه السلام الذي سخر له الله تعالى جنوداً من الجن والإنس والطير، وركب في تلك الأبهة ليس رياء وفخرًا وتعاليًا على الخلق، وإنما جهادًا في سبيل الله، ودعوة إلى الله وإخضاعًا للجبابرة، ونشرًا للإسلام، وهكذا أقام التوحيد في العالم، وبلغ ملك سليمان أقاصي الأرض، وأطراف الأرض، ولم يملك أحد مثله إطلاقًا، لا قبله ولا بعده، {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}(ص: 35).
لما دخل جيش سليمان الكبير وادي النمل يجتازونه ، وفي نظرة تواضع من سليمان عليه الصلاة والسلام إلى الأرض أبصر نملة، فأشخصَ النظر صوبها، وأصاخَ السمع إليها، وبما عُلِّم من منطق الطير والحيوان حاول تفهم أمرها لقد علم أنها تتخوف من بطش أقدام جنوده، لقد سمعها وفهم قولها: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} نعم إنها كائن صغير في مملكة ضخمة عظيمة، تسعى كأخواتها للرزق، وتنصح لهم أن يفسحوا الطريق أمام ركب الملك، حتى لا تقع مَظْلَمة غير مقصودة من أحد منهم، قال القرطبي رحمه الله: التفاتة مؤمن: أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنده لا يحطمون نملة، فما فوقها إلاّ بألا يشعروا.
إنَّ هذه النملة لم تكن إلاّ واحدةً من رعايا سليمان عليه الصلاة والسلام في مملكته التي ضمت إلى جانب الإنس والجن أنواعاً وألواناً من الحيوان والطير والهوام، لقد سمع كلامها، وتفهّم شكواها، فتبسم من قولها، فرق قلبه الكبير رفقاً لجِرمها الصغير، فرحمها وأخواتها، وشكر ربه إذ علمه منطق هذه المخلوقات، حتى يتمكنَ من إنصافها وإيصال العدل إليها، وسُرَّ بأن عدالته وعدالة جنوده قد عرفها كل مخلوق، حتى مثل هذه النملة التي اعتذرت عنهم مقدماً، بأنهم إن أصابوا نملةً بأقدامهم، فإن ذلك من غير قصد منهم ولا شعور {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}(النمل: 19) لقد أدرك سليمان عليه الصلاة والسلام أنه في جنب الله في حاجة إلى الرحمة والعطف واللطف أشد من حاجة هذه النملة إلى ذلك منه، ولهذا قال: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}(النمل: 19).
إن الله إذا مكن عبداً في الأرض، كان هذا العبد مطالباً بالتمكين لدين الله عزوجل وشريعته وقد ضرب الله مثلاً لعبده الصالح سليمان وكيف مكنه كنبي وملك في الأرض فقال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ . وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}(النمل : 15 ـ 16) .
ولقد بدأ التمكين بتلك الإشارة {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا…}، وقبل أن تنتهي الآية يجيء شكر داود وسليمان على هذه النعمة، وإعلان قيمتها وقدرها العظيم، فتبرز قيمة العلم، وعظمة المنة به من الله على العباد، وتفضيل من يؤتاه على كثير من عباد الله المؤمنين، ولا يذكر هنا نوع العلم وموضوعه
ومن لطائف القرآن الكريم في خطاب النملة لقومها أنه قد احتوى على إشارات حضارية رائعة على إيجابية النملة وتفهمها لموقف جيش سليمان عليه الصلاة والسلام وقيامها بواجبها القيادي للملكة النمل.. يقول تعالى :{حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِى ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} (النمل:18).
فهي قد وقفت تخاطب الجموع يإيجابية، ولم تهرب مع أنها عرضت نفسها لخطر الموت تحت أقدام الجنود، وكان حرصها وغيرتها على قومها أولى عندها من حياتها. وليس هذا فحسب، بل إن خطابها احتوى على إشارات رائعة في فن القيادة والإدارة، فهي قد:
– وجهت التصرف الصحيح قبل التحذير وبيان الخطر حتى لا تتخبط الجموع ببعضها {ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ}.
– ثم عرضت المشكلة وبينت الخطر {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ وَجُنُودُهُ} والناس في ساعات الخطر يتصرفون بغير تفكير، مما قد يؤدي إلى المزيد من الأضرار. فكان لا بد للقائد الناجح من إعطاء الحل والمخرج قبل بيان المشكلة، حتى يسمع الناس توجيهاته وهم في حالة نفسية تسمح لهم بتلقي الأوامر وتنفيذها..
– حذرتهم من خطورة التراخي بأن يأمنوا على أنفسهم من سليمان، لأنهم يعرفون صفاته، ولأن سمعته عند النمل حسنة. لذلك أكدت على أن المؤمنين لا يمكن أن يظلموا أو يعتدوا عن قصد، وهذا ما نراه في قولها {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}.
ليست أخلاق جيش سليمان، فجيش الحق والخير لا يقتل حتى النمل، والمؤمن لا يؤذي حتى النمل.
ولهذا تبسم سليمان من قولها؛ لأنه تضمن إيجابية، والاعتذار عن الجيش. ثم شكر الله على أن وهبه القدرة على سماع ذبذبات صوت النمل.. ولهذا كانت هذه النملة الصغيرة مثلاً يحتذى في فن القيادة عند الأزمات، فأنقذت أمتها، وتركت بصمتها الإيجابية في الحياة، ولهذا سجل القرآن الكريم قصتها بحروف ذهبية ربانية تتلى إلى قيام الساعة، وسميت سورة كاملة باسمها.
للأسف الشديد تحافظ الأوطان الإسلامية اليوم على جسد القرآن الكريم؛ من حيث الضبط والرسم والحفظ في الصدور والسطورمعًا، وهذا جيد في حد ذاته، أما روحه؛ من عدل ورحمة ومحبة، وصدق وأمانة وإخلاص، ووفاء وإتقان وإبداع، وتدبر وتفكر، واحترام الإنسان من حيث هو إنسان، فقد طردت هذه الروح الشريفة من أوطاننا الإسلامية، واستقبلتها الدول الغربية بروح رياضية؛ هنا يكمن سر تقدمهم، كما يكمن في نفس الوقت سر تخلفنا نحن أهل الإسلام، والله المستعان.
عبدالوهاب القرش