صهيل الخيول الكنعانيــــــة رواية : وليد رباح تنشر على (4) اجزاء

صهيل الخيول الكنعانية ..

صهيل الخيول الكنعانيــــــة رواية : وليد رباح تنشر على (4) اجزاء
الرواية …الجزء الاول
الليل يلفظ انفاسه . و سمحون الذى يسوس بنى كنعان و يحميهم يطالع في النجم صورته ولا تغفل عينه عن الترقب لحظه .القصر كبير . والحراس تلفعوا بمعاطفهم و انفاسهم تعطى بعض الدفء للوجوه الذابلة ، والحراب تطل من باب القصر غادية رائحة بتثاقل وخيبة .فالخبر الذى تناقله الرعاة عن تهديم اريحا و قتل رجالها و سبى نسائها لم يزل طازجا بعد .قال الرعاة : جاء العبريون الى اريحا يقودهم يوشع بن نون . فاخترقوا حصونها واعملوا السيف فيها .وفى مساء ذات اليوم طاف (باورسالم) طائف يصرخ فى الناس ان استعدوا فجموع يوشع تزحف اليكم .وهكذا وقفت المدينة على رجليها و زحفت نحو قصر الملك سمحون تطلب الراى و المشورة .

جمع سمحون الملك خاصته و قال : بالسيف وحده يحيا الانسان .فما رآى كنعان ؟بعضهم هز رآسه موافقا والبعض الأخر فكر ان يهرع الى بيته لجمع جواهره ليخفيها فى التراب .قال سمحون مرة اخرى : بالسيف وحده نبنى الممالك فما رآى كنعان ؟ البعض وضع يده على مقبض سيفه وهزه بقوة . و البعض الآخر وضع يده على حزامه الذى يخيط فيه القطع الذهبية و الفضية و هزه بقوة ايضا .

صرخ سمحون باعلى صوته : من اراد السيف فالسيف يريده . فما راى (كنعان) البعض صاح باعلى صوته انه يريد السيف ، و البعض الآخر صاح بصوت ضعيف انه يريد ( الحيف) لآن دمه غال لآ يعوض .وقبل ان ينفض الجمع الى مساكنهم جاء ـ لآ احد يعرف من اين وكيف ـ اسماله تستر بعض جسمه ، يربط على وسطه جلد نمر تمزق بفعل الزمن فكشف بعضا من لحمه ، ثم انه القى بالتحية و نظر الى وجوه القوم فالفاها شمعية فقال : ايها الملك العظيم سمحون ، دع عنك هؤلاء و انظر من شرفة القصر الى قومك .اهتز جسد سمحون و لكنه كظم غيظه و قال : من انت و ماذا تريد كيف تجرآت على تخطى الحراس و اقتحام قصرى فى وقت نعقد فيه اجتماعا خطيرا سيقرر مصير البلآد .قال الشاب بآدب جم: سيدى العظيم سمحون . اننى من عامة بنى كنعان . و الحراس جلهم من العامة . و هكذا تخطيت الحرس اليك .قال الملك : ما اسمك ايها الشاب و ماذا تريد ؟قال الشاب :انا شكيم . فلاح من حبرون وارسالم ، يحب ارضه و يهوى الزرع و النبات و قنوات المياه . اما ما اريده فليس سوى ان تلقى نظرة على قومك من شرفة القصر

.مد احد الخاصة يده على مقبض سيفه وامتشقه حتى نصفه .وباشارة من سمحون اعاده الى غمده و الغضب يسرح فى عينيه . ابتسم شكيم و قال ليت هذا السيف يجرد فى وجه العدو كما جردته فى وجهى.. الحقيقة اننى فلاح ، تبتسم لى الارض كلما داعبتها بمنكاشى . و لكنى لا اجيد استعمال السيف . ان كنت ترغب فى مباراتى فلنتسابق اينا ينهى حصاد ارضه اولا .مد الخاص جدا والمقرب جدا من سمحون يدة ثانية الى سيفه و صرخ بحده : هذا الصعلوك يسخر منا ايها الملك العظيم دعنى اؤدبه .لكن سمحون اشار للخاص بان يجلس دون ان يفوه بكلمة ففعل .

قال سمحون : انتم تجلسون هنا و ليرافقنى شكيم الى الشرفة .نظروا الى وجوه بعضهم نظرات سريعة . اما شكيم فقد ركع على الارض اللامعة و قال : فى خدمتك ايها الملك العظيم ثم قفز و سار الى جانب الملك نحو الشرفة .

اطل سمحون من الشرفة فراى اورسالم قد زحفت كلها الى قصره.. كلهم يحملون أشياء فى ايديهم ، السيوف ، مناكيش الارض ، العصى ، و المناجل .ابتسم سمحون و اشار اليهم بيده ان يصمتوا لحظات فاطاعوا . قال سمحون : بالسيف وحده يحيا الانسان .فما راى (كنعان)اهتزت اورسالم كانما زلزلت الارض زلزالا شديدا ، ارتفعت السيوف و المناجل و العصى فى الهواء .وفى غضون ذلك حدثت اشياء كثيرة ، هرع بعض الخاصة الى منازلهم لاخفاء جواهرهم دون امرمن الملك.وتحسس بعض من الخا صة احزمتهم التى تحوى القطع الذهبية و الفضية ثم انصرفوا من القصر راكضين ،و عندما عاد الملك وشكيم الى القاعة ، لم يكن هناك الا منظم الزراعة الذى لم يكن يحمل سيفا .اتسعت ابتسامة سمحون وقال لشكيم: هل حقا لا تجيد استعمال السيف ايها الفلاح . ام انك كنت تمازح القائد او تهزآ به . قال شكيم : سيدى الملك العظيم سمحون ، حقا انا لا اجيد استعمال السيف . فانت تعلم او لا تعلم ان الخاصة سمحت لنا باقتناء السيوف دون ان نستخدمها . فقد علاها الصدأ .. ونحن بحاجة الى سيوف جديدة .

قال سمحون : منذ الليلة تطوف ازقة اورسالم و تنادى فى الناس كى يكون السيف خبزهم .
وهكذا غادر شكيم القصر و صوتة يصل الى مسامع سمحون : ايها الناس ، العبريون جاءوا من الصحراء اليكم غازين ، اعملوا السيف فى اريحا ، و غدا دوركم . يقول لكم الملك العظيم سمحون : بالسيف وحده يحيا الانسان .

وهكذا انصرف الليل و اورسالم تضىء منازلها ، و طرقات شحذ السيوف و صنعها تصل الى اذنى سمحون الذى يسوس بنى كنعان و يحميهم . فيبتسم و تتسع ابتسامتة و يتحسس سيفه بحنو .

نظر سمحون فلم يجد غير الحراس . كانت الشمس خارج القصر تبتسم لسهول القمح برقة ووداعة .
جمع اطراف ردائه ووضعها فى حزامه ثم خلع تاجه المرصع بالجواهر و القاه فى صندوق خشبى قديم
صفق مرات و مرات فلم يجبه احد . ثم اقتحم مخدع ابنته و هو يصرخ بجنون طالبا ان يعطيه احدهم عدة الحرب التى تنام فى مستودع القصر منذ زمن .. افاقت ابنته من نومها فهرعت اليه و احتمت بردائه فهدآ .نادت على وصيفتها فلم تسمع جوابا سوى طرقات شحذ السيوف التى كانت تتسرب عبر نوافذ القصر و ابوابه .
وهكذا تركت (حورا) اباها فى حيرته و هرعت الى مستودع القصر كى تنفض الغبار عن عدة الحرب وتحملها اليه .وهناك وقفت حائرة لا تدرى ماذا تصنع . كانت العدة تلمع فى عينيها كاشعة الشمس نظيفة لا غبار عليها .كسوة الصدر محلاة بنقوش كانما كتبت لساعتها .السيف يجرح من يحدق فيه ، زرد الحديد ملتف حول كسوة الصدر لحماية سمحون من ضربات الاعداء ،

وجدت حورا نفسها تقترب من عدة الحرب بتؤده ، و عندما لمستها سمعت ضحكة هامسة من خلفها فارتجفت .لكن شكيما طمآنها : انا شكيم ، فلاح من حبرون يحب ارضه و يهوى الزرع و النبات و قنوات المياه . لا تجزعى ايتها الاميرة . عدة الحرب جاهزة و سانقلها للملك .خافت حورا ووضعت كفها على صدرها . و اخذت تتراجع خطوة خطوة . قال شكيم : لا تجزعى ايتها الاميرة. انا الذى يطعمك القمح من ارضه وتجرى قنوات المياه في فيها كموج البحر.. .لكن حورا توجهت نحو الباب و اطلقت ساقيها للريح و هى تصرخ .. جاء الملك مسرعا عارى الصدر يرتدى لباس العامة تنقصه عدة الحرب ، فدفنت وجهها فى صدره . و نظر الى حيث تشير فرآى (شكيما) يحمل عدة الحرب الثقيلة مبتسما كشروق الشمس .

قال شكيم ..عذرا ايها الملك العظيم . لقد افزعت الاميرة . وجدت من الواجب ان اهيىء عدة الحرب بعد ان رحل الخاصة كلهم من حولك قال الملك : و لكنك تاتى دون استئذان ، فكيف تدخل دون ان يراك احد .

اننى من العامة يا مولاى . و حراسك ايضا من العامة .تركت حورا صدر الملك و نظرت اليه . قال الملك مبتسما ، هذا شكيم ايتها الاميرة فلا تخافى . قال شكيم : وهذا سمحون الملك العظيم الذى رمى بالرداء جانبا ليعتمر عدة الحرب ،فلا تخافى .
عادت البسمة الى وجه حورا النظيف ، و تقدمت نحو شكيم فضحك الملك و حمل عدته و انصرف .اقتربت من شكيم ووضعت كفها على شعر صدره الكث و ارتجفت .قال لها رآسها : طوله كنخيل اريحا ، اما جسده فكالبرج الذى بني فى بابل قبل عقود .لحيته مثل شجر الكافور اما ما يحمله جسمه من قوة فذلك علمه عند (سارح) اله الزراعة والرى .

قال لها شكيم من خلال بريق عينيها : ، انا شكيم الذى يحب ارضة و يهوى الزرع و النبات وقنوات المياه و يطعمك القمح من ارضه ، قالت له الاميرة مبتسمة : الا تهوى شيئا اخر يا شكيم . قال شكيم : لا اهوى شيئا اخر سوى عشقى لتعلم استعمال السيف . قالت حورا فقط . قال شكيم : الان فقط اما ما ياتى به الغد فلا ادريه . ابتعدت عنه الاميرة و اخذت تحدق فيه بنهم ، ثم جاء الملك يرتدى عدة الحرب و تمخطر فى مشيته و هو بكامل زينته فلفت اليه نظر شكيم الذى صاح من الدهشة
:الان فقط تزرع اورسالم ارضها و تسقى زيتونها و تزوج بناتها دون خوف . ثم استل من حزامه شبابه قصيرة و اخذت انامله تداعب شبابيكها الصغيرة بحنو و غنى .

الان تبتسم الاميرة : و يبنى الاطفال بيوتا من الرمل ، على شاطىء البحر ، الان يعتلون احصنتهم الخشبية ، و يقول المنجل للحصاد نعم ، وتقول القبرة ها قد جاء موسم القمح ، و تختفى بين غمارة ، الان تشرق شمس المدينة العظيمة ، و ترقص النجوم للفلاحات اثناء الحصاد .
ثم غادر شكيم فابتسمت الاميرة و ابتسم الملك . و صوته يصل الى مسامعها ، يا اهل اورسالم : يا اهل المدينة . العبريون يملآون جرارهم من نهر اريحا على ظهور الناجين من المذبحة . يقول لكم الملك العظيم سمحون . بالسيف وحده يحيا الانسان .

***
واورسالم نائمة بيوتها خلف السور لكن الحياة تمور فيها ، البيوت المقببة الفارهة تغرق فى الصمت و الوحشة، لا صوت و لا ضجيج . و كلما اقتربت خطوات سمحون من بيوت الطين ازداد سماعه لطرقات السيوف و صراخ المتسابقين ،استوقفه صوت لم يستطع تمييز صاحبه جيدا : فلنتبارى اينا يستطع صنع عدد من السيوف اكثر من الاخر .

لكنك فلاح لا تقوى على مباراتنا . ليكن ذلك . الخاصة منعتكم من ذكر السيوف حتى فى مجالسكم لكننى فلاح اسكن ارضا قليل سكانها لا يسمعنى احد عندما اغازل سيفى ، فهلا تبارينا

… وازدادت الطرقات عنفا و اتسعت خطوات الملك ، و كلما اوغل بين بيوت الطين لفحته حرارة النار التى تجعل كتلة الحديد مثل الجمر قبل ان تطرق و تصبح سيفا .
قالت فتاة بصوت رقيق : لن تملكنى قبل ان تنهى شحذ السيف كما ارغب

قال فتى بصوت متوحش لقد التصق لحم يدى بالمطرقة ، ضحكت الفتاة و قالت : بعض من ريقى يعيد الى راحتك نضارتها فهلا واصلت العمل .تافف الفتى وازدادت طرقاته عنفا و اتسعت خطوات الملك و عندما اجتاز شباكا صغيرا عاد ثانية ليصغى .

قالت امراة لزوجها : ما عساك ان تفعل . ان الحبال التى نلف بها مقابض السيوف قد فرغت . لم يعد لدينا شىء منها . قال الزوج : نؤجل العمل الى الغد فنشترى حبالا جديدة .
قالت الزوجة : لا تنسى اننا لا نملك القمح الذى نبادله بالحبال . قال الزوج : اذن نتوقف حتى نتدبر الامر.
قالت الزوجة : بل نواصل الا ترى جدائلى طويلة يمكن ان نستفيد منها .
و غادر سمحون مسرعا عندما سمع صوت المقرض و هو يقص الشعر بخشونة .
كانت دموع الملك تسيل فيترك لها العنان سابحة الى العنق ، و عندما شعر ان قدميه قد تقرحتا من المسير عاد من نفس طريقه .قال الفلاح : اترون . قد صنعت ثلاثة سيوف فى الوقت الذى لم تصنعوا فيه غير سيف واحد لكل منكم .سيكون الرهان غدا على صاع من القمح لمن يفوز .

قال راس الملك : هذا صوت شكيم . و قال فمه ايها الفلاح اين انت ، اخرج الى حالا .
هرع شكيم الى الملك و قال : اهذا انت يا مولاى ، وفى عدتك الحربية . الان فقط تزرع اورسالم ارضها و تسقى زيتونها و تزوج بناتها دون خوف .
ثم سار شكيم خلف الملك و هو يصيح . يا سكان اورسالم الخالدة .أيها الكنعانيون الغرباء .. هذا سمحون الملك العظيم يطوف الشوارع فى عدته الحربية ،

كانت الموجات تتدافع خلف الملك ، و عند وصولهم الى البيوت المقببة الفارهة . تسلم شكيم من يد الملك مشعلا و اضرم النار فى احد البيوت . فتبعته اورسالم كلها تحمل المشاعل . و هكذا تحول الحى الفاره الى اكوام سوداء تعاف العين رؤيته . أما ما حدث بعد ذلك ..
وقف أهل سكان اورسالم فى باحة القصر و رفعوا سيوفهم الجديدة نحو الفضاء ، قال راس الملك : ها قد اختفت العصى و مناكيش الزراعة . و قال راس شكيم الذى يغرق فى بحر اهالى اورسالم قد صنعت اليوم ثلاثة سيوف و غدا يوم اخر.
و قالت حورا : اين اجده بين هذا البحر المتلاطم . و قال اهالى اورسالم بصوت واحد : بالسيف وحده يحيا الانسان ، ورددوها مرات ثلاث .

***
و مضت ليال اخرى ، و سمحون الذى يسوس بنى كنعان و يحميهم يطالع فى النجم صورته و لا تغفل عينه عن الترقب لحظه ، اذا ما راى حارسا فى القصر ذبلت عيناه تسلم عنه الحراسة ، و ان جاء وقت الطعام رفس المائدة المزينة بالاطايب و شارك الحراس طعامهم ، و ان اشتكى احدهم سوء الحال و كثرة العيال نفحه بما يرضيه .

و مضت ليال وليال .. و سمحون يسرح نظره فى الغيم المتجه الى اريحا فيسمع خطوات خلفه فينهض و يده على مقبض سيفه . اهذا انت يا شكيم .. و منظم الزراعة ايضا .
قال المنظم نحن فى خدمة الملك .. شكيم يصنع السيوف و المنظم يوجه الناس الى بناء القنوات كى ياتى الموسم مربحا . قال شكيم : الذهب فى خزائن مولاى و هو مكدس لا يجدى ، لقد جاء الذهب من البيوت المقببة التى حرقناها ، فهلا تحول الذهب الى سيوف فى ايدى فقراء اورسالم .
قال سمحون مبتسما : ماذا ترى ايها الفلاح .قال شكيم : نذهت الى مصر فنستبدل النحاس بالذهب . و قال المنظم : و نذهب الى سورية فنستبدل القمح بالذهب .

ضحك سمحون و قال : اما ان تذهبوا الى سورية لجلب القمح فهو مفيد ، امامنا من السنوات العجاف ما لا يعلمه احد ، و لكن هل يستبدل العاقل ذهبه بالنحاس ايها الفلاح . قال شكيم : فلنطور سيوفنا يا مولاى . النحاس اصلب و اقوى ، و قال راس الملك .. هذا الفلاح يفكر .. والتفكير يقوده الى تمييز الخطآ من الصواب ، ثم نادى باعلى صوته فجاءت حورا .

قال الملك .. انت يمينى و سيفى . . انت مدبرة القصر و سيدته و مفاتيحه و شوؤنه بين يديك ، يقول هذا الفلاح ان النحاس خير من الذهب ، فما رايك ؟
قالت الاميرة : فى الحرب نعم .. اما فى السلم فلا .
قال الملك : بل فى الحالين نعم .
قالت الاميرة : سيوف النحاس اقوى و امضى .. الفلاح يقول الحق .. لقد سمعت مقالته و انى الى جانبه .
و تلاقت عينا شكيم بعينى حورا فتحركت اعمدة القصر طربا و دقت الاته الموسيقية دون ان يلمسها احد ، كل ملابسها المعلقة على المشاجب رقصت ، اخذ قلبها يغدو و يروح على ضفاف جداول الغابة ، ، و اخذ قلبه يقفز من مكانه كعصفور وليد يدور فى عشه .

قال الملك : اذن فلنستمع الى صوت النحاس و ليرحل شكيم الى مصر غدا .
رحل شكيم الى باب القصر بينما ظل منظم الزراعة بين يدى سمحون يحدثه عن تخزين الحبوب و تطوير قنوات الرى فى مملكة بنى كنعان ، و ما كاد شكيم يخطو نحو الباب حتى امتدت الى كتفه يد رقيقة ارغمته على التوقف .
قالت حورا :اترحل يا شكيم دون ان تودعنى ؟
قال : شلت يمينه ان فعلها شكيم .
قالت حورا : اتحب شيئا آخر غير عشقك للسيف ؟
قال شكيم : اصبح قلبى يركض خلف السيف و خلف حورا .
قالت حورا : واصبح قلبى يتحفز كى يسبق حبى الى مصر فيعانقه قبل ان يصل اليها .
ثم انها مدت يدها الى شعر صدره الكث فسرت الرعدة فى جسدة . ثم تنقلت راحتها الى لحيته فخللتها باصابعها و ابتسمت .

كان الليل يضحك ، و الحراس يضحكون ، حتى حجارة القصر كانت تبتسم .. سارا فى الليل و اوغلا فى العتمة.استمعا الى اهازيج صناع السيوف على اضواء شحوم البقر ، و عندما تعبا اعتليا ظهر تلة مشرفة على المدينة وجلسا هناك ينظران الى الاضواء الخافته التى تنبعث من الشبابيك الصغيرة ، قالت حورا الليل جميل ، و النبات يفرش بساطه خجلا على وجه اورسالم الندى . قال شكيم : الليل جميل ، فافرشى لى جسدك بدل النبات كى اشق طريقى فيه دون عناء . قالت حورا : جسدى قمحك الذى تزرعه على ارض حبرون ، قال شكيم و هو ينظر الى وجه القمر .. ابتعد يا هذا ولا تنظر الينا .. هلا اجلت طلوعك الى صباح الغد .. و جاءت غيمة رقيقة بيضاء فغطت وجه القمر.

***
و مضت ليال اخرى .. وضع سمحون راحته على خده و نظر الى السحب المتجهة نحو اريحا و قال :غدا تقترب اورسالم من اريحا .. فتلامسها كما يلامس السحاب المتجه اليها ، حاول ان يبتسم لكنه ظل حزينا ، ثم بكى وحدته و طفرت الدموع من عينيه فجاءت حورا على عجل .
.
ابتاه ايها الملك العظيم .. اتبكى و حورا الى جانبك .
ابكى فرحا و حزنا يا حورا.. اريحا تستنجد بى ولا استطيع الان لها شيئا ، كان الخاصة يكدسون الذهب و يكسرون السيوف و يضعون حاجزا بينى و بين بيوت اورسالم الطينية ، واليوم ارى تلك البيوت وقد وقفت الى جانبى متحفزة .قالت حورا ..اراك تنسى ذاك الذى حدق فى عينيك اول مرة .
شكيم ؟ لا انساه و لو نسيت نفسى ، غدا يحمل النحاس على ظهور الجمال و ياتى من الصحراء فاردا وجهه مثل شتاء الصيف . قالت حورا و غدا ياتى فيحصد القمح على ارض اورسالم ناضجا ممتلئا كحبات الكرز قال الملك …اما انا فقمحى ازرعه دون ان ينبت .
قفزت حورا واقفة و قالت : ابتاه ، البيوت الفارهة تحولت الى اكوام سوداء و لم تبق غير البيوت الطينية .
قال الملك سمحون : غدا اهرع الى بيوت الطين على قدمى فاختار عروسا ترضانى و عندها سوف ينبت القمح فى قصرى من جديد .

فرحت حورا فرحا طاغيا ، ثم وضعت يدها على كتف الملك و سقطت من عينيها دمعة تلألأت فى ضوء القمر و غابت فى ردهات القصر .

***

كانت العروس تميس فى غلائلها كقطعة من الخزف ، سيوف بنى كنعان تحميها .. و سمحون الملك يسير الى جانبها مزهوا . كانما امتلك الدنيا و استرجع اريحا ثانية ، و حورا تنثر الورد على وجه الارض كانما عادت امها الى الحياة .

و فى الصباح جمع سمحون الملك مهرة الصناع و طلب اليهم ان ينقشوا وثيقة على حجر كبير فى ساحة اورسالم الرئيسية .

( هذا ما قرره سمحون الملك بعد ان تزوج فتاة من عامة بنى كنعان ، يفتح سمحون قصره مشاعا لبنى كنعان يؤمونه متى يرغبون ، ينامون فيه و ياكلون ، يشاركون الملك سكنه و حياته .. يصبح الملك من عامة بنى كنعان يظل حيث يظلون و يقاتل حيث يقاتلون )

و عند مدخل البيوت الطينية التى ينسرب اليها الزقاق كافعى ضخمة توقف و ربط حصانه فى حلقة حديدية بارزة فى سور قديم .. ثم واصل سيره عبر البيوت .
كانت الشمس لما تزل فى حضن السماء و الندى يرقد بخجل على اكمام الزهر فى المدينة المتحفزة ،الحمير الواقفة على ابواب البيوت تمضغ التبن بتؤدة ثم تنفخ مناخرها لطرد ذبابة او ابعاد قشة حشرت نفسها بين الفم و المناخر.بعضهم افاق بعد ليل مرهق صنع فيه عددا من السيوف فاعتلى حماره و انسرب عبر الزقاق ليصل الى ارضه،البعض الاخر لم ينل جسمه بعد القسط الكافى من الراحة فظل يرقد فى فراشة يحلم ان لا ياتى النهار سريعا .

واصل سمحون سيره بتؤدة ، تحتضن عيناه البيوت بحب و شغف ، يخفق قلبه مع كل تنفس يصدر منها و ظل يمشى حتى سمع لغطا فاصبحت خطواته حذره ، و اقترب ، كانت ثلة من حراس الليل تجتمع الى نار قربت ان تخبو ، استرق الملك السمع فقال احدهم :

– اتدرون ، كان كرهى للملك يحفزنى فى كل يوم ان اغرس حربتى فى صدره كلما سار فى حاشيته الى حيث البيوت ،الفارهة.
وقال اخر : – لقد انتزعت خاصته فى السنة الماضية ثلث قمح ارض ابى فجعنا .
و قال ثالث: – هذا هين . لقد انتزع احد الخاصة زوجتى منى و ضمها الى جواريه فى قصر مغلق و لكنها عادت الى عندما عادت الروح الى بنى كنعان .
و تقدم الملك خطوات فظهر بجسمه الفارع الذى يختفى خلف الحديد و قال : احقا تبلغ بهم القحة الى اقتراف ما ذكرتم .

انتفضوا مذعورين و صاح احدهم برعب .
– مولاى الملك العظيم سمحون .. انى اريق دمى تكفيرا لما تحدثت به .
– و استل سيفه ووضعه على بطنه و هم بنفسه ، و لكن يد الملك القوية اوقفت السيف قبل ان يصل
– وقال : انتم تقولون الصدق فلماذا تكفرون عن صراحتكم .
قال ذلك و اقتعد حجرا و اخذ يصطلى ، جلسوا واجمين فقال الملك :- انتم زاد بنى كنعان وعدتها، فليكن حديث كل منكم كما يرغب ، ان رايتم سوءات سمحون فضعوا اصابعكم فى عينيه ، و ان رايتم محاسنه فغضوا الطرف عنها .

و ظل الملك بمازحهم فترة ثم انصرف ، نظر الى السماء فراى الشمس تمد اول خيط الى الجبل المقابل .ركع سمحون على الارض و ابتهل لسارح اله الزراعة و الرى ان يجعل موسم هذا العام خصبا ،و ان يعيد شكيما الى ارض كنعان محملا بالنحاس لكى يقهر اعداءه ، وان ترعى الاغنام فى السهول دون ان تطاردها الذئاب ، ثم نهض و سار بطيئا و توقف فجاة عندما جاءه صوت يقول :
– الى اين ايها الملك ، انت تسير فى الطرقات مزهوا بعدتك الحربية بينما ياكل العبريون من لحوم اولادنا فى اريحا ، الم تسمع بالنهر الذى اصطبغ لونه بالدم يوم هدموا اسوارها و ذبحوا اطفالها قربانا للعجل الذى استبدلوه بالاله الواحد .

تسمر سمحون فى مكانه ، حدق فى الرجل الذى يجلس الى حجر قرب سور بيت متهدم ، كانت لحيته طويلة بيضاء مثل سهول القمح الناضجة ، يقبع راسه الاشيب على جسد عار برزت فيه عظام الصدر كشبكة صيد النمور ، يحمل فى يمناه عصا شذبها من زيتونة فظهرت معوجة فى اكثر من موضع ،لكن بسمته مشرقة كوجه طفل حصل على الطعام بعد جوع طويل .

حدق سمحون فى عينيه فرآه ينظر الى ناحية اخرى فعلم انه اعمى لا يرى ، قال الملك:
– من انت ايها الصالح و كيف عرفتنى .
– قال العجوز: وهل تخفى خطوات الملك ، عندما يسير سمحون فى عدته الحربية فوق طرقات اورسالم تعلن الحجارة عن مقدمه .
قال الملك : من انت ايها الصالح .
– انا شاحور بن سرجون اقبع دوما خلف سارح اله الزراعة و الرى فيوحى الى بكلمات .
– قال الملك : لكنى ترددت كثيرا الى معبد سارح و لم ارك هناك .
– ضحك العجوز فظهرت اسنانه المهترئة .
– انا اراك و لكنك لا ترانى
– قال الملك متعجبا :و كيف ذلك ؟
قال العجوز :انا الذى يدور كل يوم على سهول القمح و يباركها فتعطى ثمرا كثيرا ، وأنا الذي يحتضن اطفال اورسالم فيعلمونه الحكمة والبراءة .. لست كاهنا خاملا كما ترى ، الخاملون هم الذين ينتظرون الحسنة التى تاتى لسارح من فقراء اورسالم .
اقترب منه الملك و قال له : افصح ايها الصالح عن ما فى نفسك .
قال العجوز : ما ساقوله لك خطير الى درجة الموت ، ان نفذته وقفت اورسالم معك الى النهاية، والا فلن تستطيع ان تواصل الا بمفردك ، عدوك قوى ايها الملك ، غادر و يبطش بكل ما يصادفه ،فان لم تكن اقوى منه قهرك .

قال سمحون باهتمام : قل ايها الصالح ما العمل ؟
-العمل فى ان تهدم معبد سارح .
فزغ الملك ؤ تراجع خطوات الى الوراء .
– معبد سارح ؟ هل تقودنى ايها الصالح الى خراب المملكة .
ابتسم العجوز و قال : الم اقل لك ان كلامى خطير الى درجة الموت ، انت و شانك ان اردت فافعلها و الا فانت حر كما اعطيت الحرية لشعبك
قال الملك بيأس : و لكن لماذا ؟
قال العجوز : اترى اهل اورسالم وهم يؤمون معبد سارح ، انهم يحملون الى الكهنة افضل ما فى بيوتهم ، يبيتون على الطوى كى يشبع سارح .. يطلبون منه العون و هو لا يستطيع لهم شيئا ،وان اصابتهم مصيبة استنجدوا به ، اذا انحبس المطر تدافعوا الى معبده ، ان هجم الاعداء على المدينة سوف يحتمون بالمعبد طالبين اليه الحماية و العون .
قال الملك بحماس : لكنك كاهنه الذى يوحى اليه بالكلمات .
قال العجوز : سارح يعطينى كلماته فى سهول القمح و ليس ضمن الجدران .
– و ماذا يقول الكنعانيون عنى ؟
– هم يحبونك الان اكثر من حبهم لاولادهم ، فتدبر امرك ايها الملك .
سرح العجوز وجهه شطر الفضاء و تابع هامسا .
– عندها فقط لن يبقى للكهنه اى سبيل لاذلال الفقراء سيختزن الفلاح قمحه فى بيته لا فى بيوت الكهنة ، و يطلب العون من نفسه لا من المعبد .
ترددت خطوات الملك و هو يهم بالمغادرة ثم توقف و قال : قل لى ايها الصالح ، ماذا تقول عن الحرب بينى و بين العبريين .

– العلم فى كبد الغيب يا ولدى ، لا تثق بالمنجمين فهم مثل الكهنة كاذبون ، لا تثق الا بسيفك فهو الذى ينبؤك بالقول الفصل .

عندما عاد الملك حطت على وجهه حزمة من شمس اورسالم ، و ملآت الازقة ، وزع بركاته و ابتسامته للجميع على حد سواء ، و عندما وصل الى حصانه اعتلاه و عاد الى قصره .

***

افاقت حورا من نومها مذعورة ، فقد داهمتها الاحلام و بكت طوال الليل ، رأت شكيما يذرع الصحراء وحيدا تنتظره الذئاب بين كثبان الرمال ، وفى كل مرة كان يمتشق سيفه و يهاجمها فتهرب امامه ، لكنها كانت تتجمع زرافات ثم تعود للهجوم عليه فيتلقاها بسيفه ، فتهرب ثانية امامه لتعود و تجمع نفسها من جديد .و عندما افاقت حورا من نومها كان وجه شكيم أخر ما لمحته مضمخا بالدم فى اكثر من موضع ،رداؤه يلتصق بجسده مبتلا بالدماء ، وعيناه ضارعتان الى وجهها تطلبان العون منها .
هرعت الى مشجب فى مقصورتها ووقفت مذهولة ، كانت بقع من الدماء تغطى رداء شكيم المعلق ، تماما كما راته فى الحلم ، ممزقا مهترئا كمن فيه جثته ، صرخت برعب ، و ردد القصر صدى صرخاتها فهرعت اليها الملكة تضمها بحنان الى صدرها و تهدؤها .

– حورا .. ما بك ايتها الحبيبة ؟
ربتت على خدها مرات و مرات ، كانت تصرخ و عيناها مفتوحتان على سعتهما تحدقان فى المشجب ، ثم دفنت وجهها فى صدر الملكة فسرى الخدر و السخونة الى وجهها النظيف المبلل بالدموع ، و احست يدا تخلل شعرها فنظرت ثانية الى المشجب ، كان رداء شكيم نظيفا مثل اشعة الشمس .
– ما بك يا حورا ؟ .. اجيبى ايتها الحبيبة .

ركعت حورا على ركبتيها و ابتهلت ..
– اعده الى ياسارح ممجدا كنخيل اريحا .. عظيما مثل قنوات الرى فى بلاد كنعان .
هرع سمحون الى مخدع ابنته ، كان عائدا لتوه من رحلته فى ازقة المدينة ، حدق فى وجه الملكة فغضت طرفها ثم تقدم الى ابنته :

– سارح لا يستطيع ان يعيده اليك اذا ما اصابه ضر او لحقت به منفعة .نهضت حورا فزغة،خلع سمحون عدته الحربية و هرع الى باحة القصر يحمل معولا و هو يصيح ، ايها الناس ،يا سكان اورسالم ، من يحب سمحون الملك فليات الى قصره الساعة ، و فى يمينه معولة .
و ترددت جنبات المدينة بالصراخ ، هرع البعض لاخبار من يعملون فى المزارع بالامر،
و قبل ان ينتصف النهار وقفت اورسالم لتستمع الى الملك :
( يا سكان اورسالم ، من احبنى ووقف الى جانبى فليذهب الى معبد سارح ، و ليعمل معولة فى هدم حجارته و تهديم أثاره ، سارح يأمرنى ان اهدم معبده هنا لاقيمه فى اريحا ، ولن يرضى عنا الا اذا بنينا معبده هناك ، عندما نطرد العبريين من بلادنا ).

سرت فى الناس ضجة كبيرة ، وفى مقدمة الجمع وقف احدهم و صاح بالناس : الم تسمعوا ما امر به الملك و اراده سارح ؟ فليهدم هذا المعبد ..
و تدافعت الجموع تخترق الازقة و الشوارع النظيفة حتى وصلت الى المعبد ، و هناك لاذ الكهنة بالاسوار ينظرون عن بعد ، و ارتفع الغبار الى السماء ، ولم تنم اورسالم ليلتها الا و المعبد انقاضا لا اثر له ولآعمدته .
***

ومضت ليال اخرى ، نامت اورسالم لاول مرة فى تاريخها دون ان تحمل قمحها الى معبد سارح اله الزراعة و الرى ، قال الناس فى مجالسهم نعم ما فعله الملك ، و اخرون قالوا نخشى ان يحبس سارح المطر عنا فيجف الزرع و تموت الحياة . لكن تنفس الصبح جاء اليهم بالخبر اليقين ، لم تشهد اورسالم من قبل مطرا غسل كل حجارة المدينة و ازقتها كالمطر الذى هطل ذاك اليوم ، الزروع التى كانت بحاجة للطل رويت و شبعت ، الابار التى جفت منذ زمن امتلات حتى حوافها ، الشجر الذى كاد يذوى عادت اليه نضرته ،و عندما انتصف النهار بزغت الشمس من وراء السحب ضاحكة لاهالى اورسالم الفقراء ،
وشهدت ساحة المدينة حفلا رائعا لم يحلم به الفقراء منذ زمن .

اصطفوا على جوانب الحلقة صفا واحدا فى البدء و بدأوا يرقصون ، جاءت النسوة يحملن جرار الزيت و دلقنها فى وسط الحلقة فتحول الرقص الى مشهد ممتع ، الراقصون ينزلقون فيقعون على الحجارة الملساء فترتفع الضحكات عالية حتى عنان السماء .

ثم ضاقت الحلقة قليلا بفعل قدوم جموع اخرى و اصطفافها على جوانب الحلقة . جاءت النسوة يحملن جرار اللبن و دلقنها فى وسط الساحة فعلت الضحكات حتى وصلت الى قصر سمحون الملك ، كان الراقصون ينزلقون فيقعون على وجوههم و جنوبهم فيجبرون على تذوق اللبن الذى حول ملابسهم الى لوحات جميلة .
ثم ضاقت الحلقة ، و ضاقت حتى لم يعد سوى مساحة صغيرة للرقص ، و جاءت النسوة يحملن جرار العسل و طفن بها على الناس يتذقونه بلذة و متعة ، وفى خضم الاحتفال صاح بالناس من اعلن قدوم الملك ، و شق سمحون طريقه الى الساحة الصغيرة .

فى البدء قدمت النساء اليه العسل فرفض ان يتذقه قبل ان يتذوق الزيت و اللبن ، و رقص الملك ،وقع اكثر من مرة فتذوق اللبن و الزيت و شاركه اهالى اورسالم رقصه و تذوقوا معه ، ثم امتدت يده الى جرة العسل فادخل اصابعه فى متنها و سأل العسل على لحيته وهو يمتص اصابعه بلذة عجيبة . . قال سمحون الملك فى غمرة نشوته :
– من احب سمحون فليذهب الى قصره ليحضر الاميرة و الملكة ، دعونا نرى رقصهما . و تدافع بعض الناس الى خارج الحلقة مولين وجوههم شطر القصر ، و بعد لاى جاءت حورا و الملكة على حصانين عربيين يقطران رقة و دلالا .

قال سمحون الملك :
– حورا ، قد تعودنا قبل ان ترجع الروح الى بنى كنعان ان يرينا الشعب رقصاته ، لكننا اليوم سنرقص للشعب
قفرت عن حصانها مثل حمامة اغتسلت فى بركة ماء نظيفة ، ثم تبعتها الملكة ، وما ان دارت قليلا حتى انزلقت قدمها فاجبرت على تذوق اللبن و الزيت، و ظل الرقص و الصخب عاليا حتى أذنت الشمس بالمغيب ، و عندها فقط مدت حورا يدها الى جرة العسل و تذوقته ، ثم تذكرت ان شكيما يسير الان وحيدا فى الصحراء فامتنعت عن تناول المزيد .

صاح الملك ضاحكا :
لماذا توقفت يا حورا ؟ .. الكنعانيون يشربون العسل عندما يجىء المطر ، فلتتذويه معهم و لترقصى.
وتذوقت حورا العسل ثانية ، ورقصت ، و رقصت ، و عندما اقبل الليل اعتلت و الملكة حصانيهما و سارتا ، اما الملك فقد مشى عبر الازقة وحيدا بعد انتهاء الحفل ، و ما كاد يصل الى نهاية الزقاق حتى استوقفه صوت يعرفه جيدا …
– ايها الملك العظيم سمحون ، ها انت تبنى مجدك من جديد … ها انت عرفت الطريق لطرد العبريين من اريحا و اعادتها ثانية الى بنى كنعان ، فليكن اسمك ممجدا على مدار الزمان، و ليكن الحب زادك الى الابد .
– شاحور ابن سرجون ، ايها الصالح الذى يدلنى على طريق الخير ، هلا صاحبتنى الى قصرى فتنال منى حسن الجزاء ؟ ..لقد جلبت الينا المطر ..
ضحك شاحور عن اسنان مهترئة و قال :
– ايها الملك العظيم سمحون ، ان صاحبت شاحور الى قصرك فسد و افسد ، ليس مثل لين العيش يجلب المصائب .
قال الملك :
– انصحنى ايها الحكيم الطيب
– وجه شاحور وجهه شطر السماء و قال :
– اياك و لين العيش ، فانه مدعاة للاستكانة .
قال :- زدنى ..
– اياك و اقتناء الذهب فى الخزائن دون الاستفادة منه
– قال الملك :
– لقد ارسلته الى مصر مع شكيم ليستبدله بالنحاس .
ساوصيك الاخيرة ايها الملك .
قال سمحون هاتها ..
– اياك و التفريط فى رمل بنى كنعان ، ان حبة منه تساوى كل ذهب الارض …
قال ذلك و حمل عصاه يتحسس وجه الطريق و اختفى فى الازقة ، لحقه سمحون يناديه، و لكنه كان قد ذاب فى العتمة .

***

و مضت ليال وليال ، و سمحون الذى يوسوس بنى كنعان ويحميهم يطالع فى النجم صورته ولا تغفل عينه عن الترقب لحظة .

وجاء موسم الحصاد و شكيم لم يعد ، المنازل الطينية امتلآت بالسيوف و الحراب ، ساحة المدينة الرئيسة تحولت الى ميدان للتدريب على استعمال ادوات الحرب ، و كانت الانباء ترد من اريحا تباعا ، لقد حولها العبريون الى مدينة خربه ، بنوا من الجماجم قصرا لسيدهم يوشع بن نون ، و اقاموا فيه بركة من الدماء كى تسبح فيها زوجته الجميلة ، الذين نجوا من المذبحة شدوا على ظهورهم البراذع و استخدموهم لنقل الماء و الحطب ، اقاموا للعجل معبدا ضخما و سوروه و كتبوا على مدخله تاريخ المذبحة ، كل شىء فى المدينة قد تحول الى خراب .

وكان سمحون يسمع الاخبار فيجلس فى فناء القصر ليلا و يستطلع وجه النجوم ، وفى ذات ليلة ارهقه الارق فاتجه نحو ساحة اورسالم ، و اثناء سيره فى زقاق سمع همسا فالصق اذنه بالجدار
قالت امرأة : لماذا نخزن الحراب و السيوف ، قد قرب الصدأ ان ياتي اليها …..
قال رجل : سوف تاتى المعركة ..
قال طفل صغير : ابتاه ، و هل تاتينا المعركة ، الحكمة فى ان نذهب اليها .
قال الاب : كيف يا ولدى ؟
قال الطفل : الحكمة ان نقاتل العبريين لا ان يقاتلونا هم ، لقد جاءونا غازين فهل ننتظرهم حتى ياتون الينا ؟ لماذا لا تقول هذا للملك ؟
ارتعد جسد سمحون كله و صرخ :
– انا هنا يا طفلى الحبيب ، و قرع سمحون الباب ففتح له على مصراعيه …
قال الطفل :
– سامحنى ايها الملك العظيم ، انما هو راى ابديته ..
ضحك سمحون وضم الطفل الى صدره وقال :
– الان فقط يصبح سمحون تلميذا لآطفال اورسالم الفقراء وما ان قدم العسل فى صحن للملك حتى لحس منه مقدارا ضئيلا و اتجه الى قصره مسرعا ، وما كاد يخطو حتى جاءه الصوت امرا .
– توقف ايها الملك
– وقف سمحون حائرا ، لكنه تذكر الصوت فانفرجت اساريره .
انت ايها الحكيم العاقل ، لماذا تركتنى كل هذا الوقت ؟
– قال شاحور بن سرجون
بل انت الذى تركتنى ايها الملك …
– قال سمحون مستغربا :
– انا تركتك ؟ اننى اسهر الليل و اتحدث الى النجوم بانتظار صوتك
قال شاحور :
– الم اقل لك انى لا ارتاد القصور .. هل يلزمك كل هذا الوقت للتعلم من اطفال اورسالم ما يجب ان تفعله ؟؟
قال الملك :
و لكنى بانتظار شكيم .. لقد طالت غيبته ..
قال الحكيم باسما :
ايها الملك العظيم ، رفقا بنفسك ، ماذا انت فاعل اذا مات شكيم قبل ان يصل اليك .
– فزع الملك و قال :
– ان مات ففى بنى كنعان ما يكفينى .
ضحك الحكيم و قال:
حاور نفسك ايها الملك .. و عندما تتأكد من قناعتك حارب ، عندها سوف تكسب الحرب .
اختفى شاحور فى الظلمة ، و اختفى الملك فى الازقة عائدا الى قصره ، ونامت اورسالم ليلتها هادئة مطمئنة .. فقد ذهب سمحون للنوم مطمئنا ..

***
عود على بدء
شكيـــــــــــــــــــــم

مدت حورا يدها الى شعر صدره الكث فسرت الرعدة الى جسده ، ثم تنقلت راحتها الى لحيته فخللتها باصابعها و ابتسمت .

كان الليل يضحك ، و الحراس يضحكون ، حتى حجارة القصر كانت تبتسم ، سارا فى الليل و اوغلا فى العتمة ، استمعا الى اهازيج صناع السيوف على اضواء شحوم البقر ، وعندما تعبا اعتليا ظهر تلة مشرفة على المدينة وجلسا هناك ينظران الى الاضواء الخافتة التى تنبعث من الشبابيك الصغيرة .
قالت حورا : الليل جميل ، و النبات يفرش بساطه خجلا على وجه اورسالم ، الندى .
قال شكيم ، الليل جميل ، فافرشى لى جسدك بدل النبات كى اشق طريقى فيه دون عناء .
قالت حورا : جسدى قمحك الذى تزرعه على ارض حبرون .
قال شكيم و هو ينظر الى وجه القمر : ابتعد يا هذا ولا تنظر الينا ! هلا اجلت طلوعك الى صباح الغد ؟!
و جاءت غيمة بيضاء رقيقة و غطت وجه القمر .

قال شكيم : غدا ارحل الى مصر ، فلتكن الليلة نهرا يسقينى و يكفينى رمضاء الصحراء حتى اصل .
قالت حورا : اتذكرنى يا شكيم ؟! ام تغريك قلائد الذهب المعلقة على صدور الصبايا فى طيبة؟
قال شكيم : اتذكرينى يا حورا ام يغريك الفرسان الذين يجولون حول القصر فى ليالى الصيف؟!
ضمها الى صدره فارتعشت ، ثم نام راسها على كتفه فملك ارض بنى كنعان وملكت جواهر وكنوز الارض .

قال شكيم : نذرع ازقة اورسالم ثانية حتى يتنفس صبح المدينة ،حملها فوق رموشة و مضى ،اوغلا ثانية فى الازقة ، حملت البيوت الطينية الى مسمعيهما همسات اهالى اورسالم الطرية،
و فجأة وجدا نفسيهما امام بيت طينى خرب ، تهدم جزء من سقفه ووقف الجزء الاخر صامدا امام الزمن ، دفع شكيم باب البيت الصدىء فأن كمن يتألم .

– اين نحن يا شكيم ؟
– انت فى صدرى يا حورا ،بيت من الطين و التبن يأوينى و ابى وامى ، قالت حورا مازحة:
– الان فقط امتزج مع تراب اورسالم النقى، وارى فيه نفسى ،

وفي البيت الطيني ..على ضوء سراج الشحم .كانت تفترش الارض وتلف الصوف حول مغزلها ، بدأب ونشاط ، بينما حدق كهل فى خشب السقف الاسود وبدا عليه الشرود . ومن خلال نظرة كليلة نحوهما جاهدت كى تقف على رجليها .
شكيم ، ايها الولد الطيب ، لم لم تخبرنى . ثم جثت على ركبتها بينما وقف الرجل الهرم على قدميه مذهولا .

– عفوك ايتها الاميرة، انه بيت لا يليق .
تلقتها حورا بكفيها : انت سيدتى و امى ، انت تراب اورسالم النقى الذى يعبق بالطهر والنقاء
قال الكهل و ابتسامته تشع حرارة و ضوءا : سيدتى ابنه سمحون العظيم ، انها ليلة تلد فيها النساء اطفالا بعدد القمح الذى ينبت فى حقول حبرون واورسالم .

اتجهت اليه حورا باسمه ، فحاول ان يركع على قدميه فانترعته قبل ان يصل الارض : انت سيدى وابى ، انت المعول الذى يشق تراب الارض و يطعمنا القمح ويعطينا الحياة .
قال شكيم باسما : وا فرحتاه ها قد اصبح ابى سارح الذى يعطينا القمح و النماء .
ضحكوا جميعا ،ثم اقتعدوا الارض وقامت امه فصبت اللبن فى صحن فخارى قدمته للاميرة ،شربت ثم دار الصحن عليهم جميعا فشربوا .

قال شكيم : غدا ارحل الى مصر محفوظا برعاية سمحون العظيم حامى ارض بنى كنعان و سيدها .
قالت الام : ان رأى سيدى سمحون ذلك ، فليكن …
وقالت حورا : قلبى يرحل مع خطواته عبر الصحراء .
وقال شكيم : فى عيون اريحا اموت واحيا الف مرة .
قامت الام فاحضرت صحنا من العسل ، دارت عليهم فتذوقوه بلذة .
قالت الام : اخشى ان لا يعجب العسل الاميرة ، انه من عسل حبرون النقى .
قالت حورا : اذا مر شكيم بيده فوق الماء تحول الى عسل نقى .
ضحك شكيم ملء فيه وقال سيدتى ابنه سمحون العظيم فليكن دمى ضمانا لمالكتى حورا ، ثم همس مضيفا ، حبيبتى حورا
نظر الكهلان الى العيون بلهفة و استغراب
قال شكيم : لا تفزعى يا اماه ، عندما اعود من مصر ساتزوج حورا و اصبح ولدا طيبا .
فغرت الام فاها : ايها الشقى ، ايها الحبيب الذى يمن على دوما بالسعادة و البسمة ، ايكون هذا صحيحا ؟!
قالت حورا ستكونين سيدتى و امى ..
قال الاب : ويحك يا شكيم ، اتفعل كل شىء دون ان ندرى كان الاجدر ان نفرح قبل الان .
قال شكيم ضاحكا : على بركة ارض بنى كنعان نزرع القمح ، وننجب الاطفال ، ونمجد سمحون العظيم. ثم غادرا فرحين

ضمها الى صدره فقالت النجوم أه ..و انتثرت على وجه ليل المدينة حبات العرق المتصفد من جبين الفقراء .
– اتحبنى يا شكيم ،
– احبك مثلما احب المطر الذى يهمس لحجارة اورسالم بعد صيف طويل .
غسلهما ليل المدينة فتاها بين الازقة ، ساعدا رجلا انزلقت رجل حماره على الارض المرصوفة بالحجارة الملساء ، شربا الماء من بئر ساحة المدينة ، استمعا الى مناجاة العشاق قرب الاسوارالخربة .
قالت فتاة : لكنه يأبى الا ان تصنع له عشرة سيوف صقيلة .
قال الفتى : لو طلب منى ان امضى بقية عمرى اصنع له السيوف مهرا لك ما قصرت .
قالت الفتاة : لو لم تكن الحرب قادمة لدفعت له عشر صاعات من القمح وباركنا ، أه من الحرب .
قال الفتى : الم تستمعى الى سمحون الملك وهو يقول بالسيف وحده يحيا الانسان ؟
ثم انقطع الحديث فجأة وقالت الفتاة : أه ..
نظر الى عينى حورا فى العتمة ، فالفى الدمع يسرح فيها دون ان يسقط .
– وانت ماذا دفعت مهرا لحورا ؟!
ادفعه شوقا مع كل خطوة الى ارض مصر ، وادفعه جمالا محملة بالنحاس كى يصبح سيوفا تجرح من ينظر اليها ابتسما ، قال شكيم : منذ الليلة يصبح مهر الصبايا سيوفا لامعة صقيلة ..لحس دمعة سقطت على خدها و غابا فى العتمة .

ما كاد يخطو عائدا الى بيته عبر الازقة حتى اتاه الصوت أمرا فتوقف ، قال شكيم : من؟! شاحور بن سرجون ؟! أما أن لك ان تستريح ايها الطيب الصالح ؟!
قال شاحور وهو يطرق بعصاه ارض الزقاق و يتجه نحو شكيم :
شكيم … ايها الصالح من اوحى لى بأن اطرق باب القصر .
-ولكنى لم اوح اليك بان تتجه الى حورا ، بل الى سمحون الملك .
-ايها الصالح الطيب ، ليس لنا على القلوب من سلطان .
– اخشى يا بنى ان يقودك العشق الى نسيان بنى كنعان .
-بل يقودنى العشق الى ان ارى فيهم جميعا نفسى .
ابتسم شاحور : حسن يا شكيم ، حورا فتاة بنى كنعان ، ولكن اياك ولين العيش ، فهو يقودك الى الاستكانة .

قال شكيم وهو يحدق فى وجهه : فلتطمئن بالا ايها الصالح ، بعد لآى تشق قافلتى صحراء فلسطين الى صحراء مصر ..
فتح شاحور فمه و تصنع الدهشة : احقا ايها الولد الطيب ؟؟
قال شكيم : وتعود جمال سمحون الملك محملة بالنحاس الذى يطرق سيوفا لامعة صقيلة .
قال شاحور والالم على وجهه لا تذهب يا شكيم .. لا تذهب يا ولدى .
قال شكيم : ولم هذا ايها الصالح الطيب ؟
– سوف لن تحصل على النحاس ، فهم يستخدمونه ايضا لصنع سيوفهم .
– لكنى وعدت الملك ولن اتراجع
– كما ترغب يا ولدى … ان حصلت عليه فذلك غاية ما أتمنى ، وان لم يكن فعد مسرعا .
قال شكيم باسما : عظنى ايها الصالح ..
قال الشيخ : فتات خبز بنى كنعان خير من موائد فرعون .
قال شكيم : اعلم هذا ايها الطيب ، سوف اعود فور حصولى على النحاس .
قال الشيخ : رمل اورسالم الذى تدوسه حورا مقدس ، مثل خبز الفقراء .
قال شكيم : و حورا ايضا مقدسة مثل رمل بنى كنعان .
قال الشيخ :سأقول لك الاخيرة ، سمحون يقول بالسيف وحده يحيا الانسان ، وأنا اقول لك ..انما بالسيف والعقل معا ..
غاص شاحور فى بطن الليل ، ووقف شكيم فى العتمة مفكرا حتى لسعته النسمة فانسرب الى بيته كى يودع ابويه .
***

جلست حورا ترقب الغيب فى شرفتها ، و اطل من بين الزيتون وجه شكيم الممرغ بالدفء والحياة
فسرت فى جسدها رعدة خفيفة كطيف مرمر السحاب ، و نهضت الى مقصورتها .
و شكيم لا يأتى من الابواب رغم فتحها على مصارعيها ، قفز اليها فاحتضنته بقوة ..

-أواه يا شكيم ، ما كنت احلم ان تغادرنى بهذة السرعة .
– لك نفسى يا حورا ، سأعود اليك مثل العاصفة محملا بما يعترض طريقى …
كان الظل قد نشر حبيباته على اوراق الشجر القريب من النافذة الواسعة ، وشقت الشمس طريقها عبر الاوراق لترسم فى المقصورة ظلالا جميلة .القصر كبير ، و النوم يأخذ السابحين فيه الى عوالم سحرية جميلة … وحورا تفرد ذراعها البضة مخدة يتكىء عليها رأس شكيم و لحيته الكثة .
– ما ان ترتفع الشمس قامة اخرى حتى تغادرنى .. أواه يا شكيم ..
– خففى عنك يا حبيبتى ، شكيم الذى تجرأ ونظر الى عينى حورا ابنة سمحون العظيم سوف يعود وفى يمينه سيف من النحاس .
نظر الى عينيها فالفاهما مثل فناجين العسل الذى يقدم فى اعراس اورسالم ، قبلها و تدرج فمه الى وجهها النظيف و عنقها البض ، و اختفى كل شيئ من ناظريه ، دار العالم دورات كثيرة و سريعة ثم اتكأ رأسه ثانية على مرفقها .

– أه لو انى اعيش العمر كله انظر الى عينيك ما مللت

سرت فى القصر ضجة مفاجئة هرع الى الشرفة فرأى الحراس يحملون قافلة الجمال بالذهب ، لحقته حورا كئيبة حزينة ، ومدت نظرها الى الافق الذى غسلته الشمس فغدا مثل الضباب الصيفى .
– حورا .. هى لحظة لن انساها ، اغادرها وقلبى يسرح ممتشقا حسامه ، ولكنه يلقى بسلاحه عند قدميك ليعلن انه ملك لك مهما قسا الزمان .
– شكيم … تذهب راشدا وتعود ممجدا ، قلبى يقفز من صدرى ، ولن يعود اليه الا عندما تعود .
قبلها ثم مسح دموعها بكفه و خطأ الى باحة القصر ، كانت القافلة قد جهزت بانتظار اشارة من سمحون كى ترحل .

ولم يطل الانتظار ، اطل سمحون من الشرفة ، اجال بنظره عبر القافلة فرأى الجنود فى عددهم الحربية يمتطون صهوات خيولهم يستعدون للتحرك لحماية القافلة اثناء سيرها فى مجاهل الصحراء .
نظر ناحية اخرى فرأى حورا وقد وقفت جامدة كانما هى قطعة من صخر ، صاح الملك باعلى صوته: على بركة ارض بنى كنعان تغادر القافلة الى مصر .
ورد شكيم بأعلى صوته : باسم سمحون العظيم ، حامى ارض بنى كنعان و سيدها ، تغادر القافلة الارض التى تدر اللبن و العسل .
وحانت منه التفاته اليها ، ثم همز حصانه فطار الى مقدمة القافلة ، رفع لها يده بالتحية وتحرك الركب.

***

ومضت ليال اخرى ، وشكيم الذى يشق طريقه فى الرمال يغادر ارض بنى كنعان وقلبه منسدل على رمالها يحلم ان يعود محملا بالنحاس كى تعود اريحا الى بنى كنعان اسوارا و حياة .

في طريقه الى الصحراء..وعندما اطلت حبرون عليه بمبانيها الجميلة .. هوى قلبه الى مرتع طفولته بقوة ، لكنه واصل السير متجها الى الصحراء،
وما ان جاء المساء حتى كانت رمال صحراء مصر تلمع فى عينيه ، وهناك نصبت الخيام وترجل الفرسان عن خيولهم للراحة بانتظار يوم أخر .

مضى شكيم الى خيمته حزينا بعد ان تفقد القافلة ، وانسابت فى نفسه ذكرى اليوم كخرير جدول تقف على ضفتيه احلامه الزاهية .
وما عتم ان جاء قائد فرسان القافلة ليوقظه من شروده العذب .
– سيدى شكيم ،رحلة الصحراء مجهولة وشاقة ، فهل لنا ان نرسل استطلاعا الى مجاهلها و يعودون الينا لنأمن غائلة الطريق ؟

– كما ترى ايها القائد ، انها امور لا افقه فيها .
-حسن ، سارسل استطلاعا فى النهار و نواصل السير فى الليل .
ساد الصمت لحظات ثم قال شكيم : غدا ندخل ارض الفراعنة ، فليكن زادنا خلق بنى كنعان و قوتهم .
قال القائد : باليمن نحمي القافلة ونصل الى مبتغانا بأمان .

تسامرا . وعندما انصرم جزء من الليل ذهب القائد الى خيمته واضطجع شكيم على رمل الصحراء .
كان الليل فى عينيه كتلة من الترقب والقلق ، وكانت الذكرى فى خياله ينبوعا من التصميم على ان يبزغ الفجر قبل موعده ليرتحل .

أه ايها الليل ، تنام وجديلتها فوق صدرها مثل سنبلة مكتنزة .
حملت اليه رياح الصحراء هبوبا تربا فاغمض عينيه ، ليلة اخرى لايزوره النوم ولكن شتان ما بينهما ،
كانت حورا فى ليلته الاولى طيفا ينقله الى ازقة اورسالم الحبيبة ،وفى الثانية هبوبا متصلا لرياح مخيفة سوف يمخر مجاهلها الى حيث يحقق ما يريد .
وعلى الجسد المرهق مرت نسمات تسربت اليه من شقوق الخيمة فقادته الى عالم فسيح من الدعة والامان، اخترق فيه ظل واقعه الى حيث تمنيه الاحلام بقرب العودة .

افاق على صوت القائد وهو يحث جنود القافلة على طى الخيام فقام من فوره الى حيث الضوء .
كان الصبح جميلا ينضح بالامل ، وكثبان الرمال الممتدة عبر النظر تقف بخيلاء كقباب مهندسة تعطى المحتمين بها امنا وسلاما .

ومضت القافلة ومضت معها الايام ، و ثقلت خطى شكيم فجأة ليجد نفسه فريسة حمى لايعهدها
مخرت الالام جسده فغدا مثل الشحم ينقص كلما لامسته النار ، لكنه رغم كل ذلك واصل رحلته، واخيرا قرر قائد القافلة ان يتوقف .

صرخ شكيم بكل مافيه من وهن وقوة : لماذا يتوقف الركب ايها القائد ؟ لم يبق لنا الا ايام ونصل .
اقترب منه القائد مشفقا : شكيم ، فلتهدا نفسا لن نواصل السير حتى تعود اليك نضارة وجهك .
– فليمت شكيم الف مرة ، و ليجلب النحاس دونه .
– سيدى لن نستطيع التفاهم معهم مثلما تفعل انت ، لن نسير خطوة واحدة قبل ان تبل من مرضك.
بكى شكيم ليلتها بعنف ، تعاونت على زيادة الامة بعده عن ارض بنى كنعان وحورا .
أه ايتها الارض التى امزجها بأحلامى فتثقل بى جراحاتى ، انى على بعد يسير منك ولا استطيع العودة قبل ان احقق ما اريد ، فليكن ترابك ممجدا كما هو ممجد سمحون وحورا .

وثقلت عيناه فتمدد فوق رمل الصحراء يصحو تارة ويغفو اخرى ، ثم تكاثف هبوب الرياح خارج الخيمة ، فرغت الابل واخفت الخيول رؤوسها بين قوائمها ، وسمع دقات الاوتاد عالية مثل الطبول، ومرت امامه طيوف عديدة .
رأى حورا تفرد له ذراعيها فامتلك العالم فى لحظات ، ولمح الملك يحثه على متابعة الرحلة رغم مابه من وهن ، وامه تشير اليه ان يتقدم .
صرخ بملء فيه : ايها القائد يا صاحب الرحلة ، انهم يحثوننى على متابعة الطريق ، فلنمض الى فرعون سريعا .

كانت العاصفة قد زمجرت فغدا صوته فحيحا ولم يسمعه احد .
ازداد تكاثف الغبار حول المخيم ، صرخ ثانية :يا صاحب الحرس : يا صاحب الرحلة .. الطريق امامنا امن ، فكوا عقال الابل و اسرجوا الخيول ، فرعون على بعد خطوات منا . وضاع صراخة فى مهب الريح ، تمالك نفسه ووقف وقد جحظت عيناه ثم اطل من باب الخيمة

كان الرجال يجاهدون لتثبيت الخيام و السيطرة على الابل والخيول حتى لاتتيه فى الصحراء
الواسعة .
-يا صاحب القافلة ، لنواصل مسيرتنا .
لكن صوته لم يتجاوز حنجرته ، ثم اندفع عبر الغبار يصرخ ويصرخ … سأواصل .. ايها القائد الذى يمنعنى من اتمام مهمتى ، فليمت شكيم ، ولتمت معه كل امانيه ، لكنه سيجلب النحاس .النحاس فقط سيواصل شكيم الرحلة ، سيواصل .بكى، واندفع وجهه داخل الرمل مثل نخلة قصف ساقها فهوت ، رفعه القائد على ظهره واتجه به نحو الخيمة ، ثم اندفع القائد يحث جنود القافلة على ان يثبتوا الخيام ، ويعقلوا الابل جيدا .

وازدادت العاصفة الرملية عنفا فامتلآت حلوق الجند بالرمال ، لكنهم ظلوا يواصلون عملهم بنشاط وهمة ، وما كاد الصبح ان ينبلج حتى تنفس الجميع اشتياقا لنسمه طرية هبت على وجوههم المتعبة فاعطتهم دفقا لحياة جديدة ، وجاءت الشمس لتمسح عن وجوههم الام الليل .

افاق شكيم من نومه فتراءت له الاشياء غائمة مضببة ، ثم وضحت رؤيته فطالعه وجه الجندى يبتسم له باستحياء .
– لا تجهد نفسك يا سيدى ، لقد مضت ليلتنا دون خسارة .
جاهد ان يتكلم ، لكن حلقة الممتلىء بالتراب لم يسمح له .
– لا تقل شيئا يا سيدى ، كانت ليلة رهيبة و قد اجتزناها بسلام ، اغمض عيناه ثانية ، تلمست يد الجندى وجهه بنعومة ، كانت الحمى قد فارقته وبدأ وجهه يعود الى التورد .
ومن خلال البسمة التى ارتسمت على ثغرة ، رأى قائد القافلة يركع الى جانبه ويشد على يده مشجعا .

***

ومضت ليلة اخرى ، يخب شكيم فى الرمل ، يشق طريقه عير عابئ بالعواصف وسكون الصحراء، تأتيه حورا على عجل فيبعد طيفها منحازا الى رجال القافلة ، وتأتيه اريحا طيفا مسكونا بالحزن والعذاب، فيحث رجال القافلة على ان يسرعوا ، ويقف امامه سمحون الملك فى عدته الحربية ، فيبتسم ، حتى ليكاد الركب يشك فى صحة عقله ،ويزحف اليه البيت الطينى الخرب فى ازقة اورسالم فيرى ابواه ينقلان القمح الى سارح ، يسألانه ان يعيد شكيما الى ارض بنى كنعان ممجدا كما رحل ،

وفى لحظة سكون ، صرخ احد الجنود بقوة ،وتتالت اصوات سحب السيوف من اغمادها ، ورسمت عشرات العجلات الحربية التى تجرها الجياد خطوطا متعرجة حول القافلة ، وتسمر الجميع فى اماكنهم .
تقدم رجل طرى العود بعربته نحو القافلة بينما وقف الباقون ، وعندما اقترب لمح شكيم رسوم الفراعنة على مقدمة العربة فاطمأن قلبه ، توقف فجأة ثم صرخ ، من انتم ؟ ولماذا تدخلون ارض الفراعنة دون اذن منهم ؟

اقترب شكيم حتى اصبح على بعد امتار منه وقال : نحن رسل الملك سمحون العظيم ، ملك فلسطين وحامى شعبها الى عظيم مصر .

– وهل تحملون رسالة تؤكد قولكم ؟
مد شكيم يده الى صدره واخرج لفافة مصنوعة من جلد الغزال ، هذه هى الرسالة ، وهذا خاتم سيدى سمحون عليها . اقترب الضابط الفتى و التقط الرسالة ، ثم نزل عن عربته وانحنى احتراما ، واعادها الى شكيم وقال : على الرحب والسعة ، انتم ضيوف مصر .

ثم لوى عنان فرسه فانطلقت العربة الى رفاقه ، وفى لحظات تجمعت العربات وانطلقت تاركة غبارها يشق الفضاء ، عاد الضابط مع احد مساعديه الى قافلة بنى كنعان ثانية ، وما ان وصل حتى نزل عن عربته وتقدم الى شكيم باسما : سنرافقكم حتى ابواب طيبة ، وهناك تخيمون حتى يأتى امر فرعون العظيم الينا .

***

ومضت ليلة اخرى ،وشكيم يستطلع وجه النجوم فى مخيمه يبحث عن وجه حورا بشوق وشغف ، كلما دنا منه فارس لاح الفرح على جبينه عله يحمل اليه انباء دخول طيبة و رؤية فرعون .

وطال الانتظار ، وما ان دنا منه الضابط مرة حتى ابتدره بالقول : قد طال الانتظار يا اخى ، والعدو على ابوابنا ، فان رأى فرعون ان نراه الساعة فالسعد لنا ، والا سنعود ادراجنا .
قال الضابط مبتسما : اراك كرهت الصبر واستعجلت الامر ، انما هى ايام من عمر الزمان وتحظى بالمثول امام الاله الطيب ابن الشمس .

قال شكيم : ولكنى سفير سمحون العظيم اليه ، وقد اوصانى بان اقضى مهمتى واعود على الفور .
– اننا نحتفل بعيد النيل الذى يعطينا الخير والنماء …
ولم يكمل عبارته ،ارتفع غبار عربة قادمة يجرها جوادان مطهمان وعلى ظهرها فارس ارتدى عدته الحربية النحاسية اللامعة ، وصرخ بأعلى صوته قبل ان تستقر العربة غلى ارض المخيم : سيدى ابن الشمس يطلب سفراء ملك فلسطين للمثول بين يديه .

واصابت شكيم فرحة طاغية ، ترك محدثه واسرع نحو حراسه يستحثهم الاسراع فى تجهيز انفسهم. ولم يمض بعض الوقت حتى كان شكيم يشق طريقه فى شوارع طيبة وازقتها متجها نحو قصر فرعون .

أخذته الدهشة وهو يرى ضخامة الابنية وفخامتها فى جانب من المدينة ، بينما تقع فى جانب الاخر بيوت تعاف العين رؤيتها ، وفى خضم أفكاره ضحك الضابط الفتى وقال :لا تعجب ، هذه بيوت الاشراف وتلك بيوت العبيد .

هز شكيم رأسه وابتسم .
توقفت القافلة فى باحة واسعة يحوطها حراس سمر الوجوه تبدوعلى وجوههم سيماء القسوة
نزل شكيم عن حصانه وتبعه قائد الحرس واتجها نحو درجات تصعد الى باب القصر ،بينما بقى الجنود لحراسة القافلة ، ودقت صناجات نحاسية دقات رتيبة ، ثم فتح باب على مصراعيه فرأى شكيم فرعون مصر يفرد جسده على عرش ذهبى لامع ، بينما ركع كل من فى القافلة اجلالا له. وعندما تقدم اليه ارتفعت كل الرؤوس واتجهت العيون اليه .
تفرس شكيم فى وجهه فاذا هو غض طرى العود اسمر الوجه تبدو الوداعة فى كل حركة من حركاته،
قال شكيم : سيدى فرعون مصر وابن الشمس وجارنا الطيب ، قد ارسلنى سمحون العظيم اليك فى قافلة محملة بنفيس الذهب لكى نستبدله بالنحاس .
ادرك شكيم من تقلب الوجوه انه يطلب شيئا عزيزا يصعب تلبيته ، فتابع حديثه : وهذه رسالة من سيدى سمحون يشرح فيها ما اعجز عن ذكره .

تناول احد القواد رسالة سمحون من يد شكيم وسلمها اليه ، فتحها فرعون فبدت على وجهه امارات الحزن وقال : ما اسمك ايها الرسول الطيب ؟
قال شكيم باسما : خادمك شكيم من ارض حبرون .

قال فرعون : حسن يا شكيم ، اقم فى ضيافتنا ، وفى الغد يأتيك الجواب .
رجع شكيم الى الخلف خطوات ثم انحنى بهامته قليلا واستدار ، وفى طريق العودة الى مخيمة داهمته الاف الخناجر الوهمية ، كما داهمته حورا وسمحون وشعب اورسالم بكامله وهو يهتف ضده. وما ان وصل الى الخيام حتى ارتمى منهكا .
سار الليل رتيبا مملا يحمل فى جعبته العذاب ، استوقفته طويلا نجوم السماء فحدثها عن الامة ، حاول ان يغفو مرات ولكن النوم ابى الا ان يشهر سيفه ويظل واقفا حتى يتنفس الصبح نسيما رطبا ينعش النفس ويسر الفؤاد ، وما ان حطت أولى اعمدة الشمس على وجهه حتى وقف متثائبا مستطلعا وجه الحقول المحيطة بالمخيم .

بدأت دواب الفلاحين تخترق الارض المحروثة بتكاسل واناة ، وقليلا قليلا دبت الحياة فى المروج،
وارتفعت الشمس قامة اخرى .

ارتدى شكيم عباءته وسار نحو الحراس على باب المخيم ، كانوا خليطا من بنى كنعان والفراعنة،
استقبلوه باسمين وتحدثوا اليه باستحياء ، انسوا اليه فافضى كل منهم بهمومه ، وبعد لآى جاء الضابط الفتى فاتجه نحو خيمة شكيم ، وعندما ضمهما المجلس قال شكيم : منذ البدء ارى مهمتى قد فشلت ، لقد رأيت تقلب الوجوه يوم ذكرت النحاس امام فرعون .

– لاتحكم على شىء قبل ظهور نتيجته ، ربما عارض بعض الاشراف ، ولكن النتيجة الى جانبك .
– ولماذا تعتقد هذا ؟
– ربما لانهم يجمعون الذهب الان فى قصر فرعون استعدادا لاثرائه فى العالم الاخر .
– نظر اليه شكيم مستطلعا ، فقال الضابط : عندما يموت فرعون يوضع الذهب تحت تصرفه فى قبر فسيح يسمونه الهرم ، وقد اوفد فرعون الى مناحى مصر جنودا كلفهم شراء الذهب ونقله الى قصره .
فرح شكيم وقال : هذا يعنى انكم بحاجة الى الذهب ؟
– لا … لسنا بحاجة اليه ، ان الاشراف يمتلكون منه الكثير، ولكن فرعون يضع مقادير عظيمة منه فى قبره ، عندما يدعوه اوزوريس الى عالمه هناك ، حيث يعيش حياة هادئة دون ازعاج .
– من اوزوريس هذا ؟
– انه اله الموت الذى يحب فرعون ويسعى دائما لان يكون الى جانبه .
ايقن شكيم ان مهمته سوف تنجح ، فدخل الامان الى قلبه ، مرت البسمة الى شفتيه ، فانشرح صدره واخذ يتحدث باسهاب عن حبه لاريحا واورسالم وارض بنى كنعان ، و الضابط يستمع اليه مأخوذا.
وعندما غادر الضابط مخيم بنى كنعان جاء قائد حرس القافلة فتحدثا طويلا عن اشياء جميلة وذكريات عزيزة ، وما ان انتصف النهار حتى جاءهما من يخبرهما ان فرعون قد اولم فى الليل للترفيه عن سفراء سمحون الملك .

وعندما ازف الموعد ، ارتدى شكيم ملابس بنى كنعان النظيفة ، بينما ارتدى قائد حرس القافلة عدته الحربية الكنعانية ، وامتطيا حصانيهما وحفت بهما كراديس الجنود وسارا الى المأدبة .

كانت المأدبة حافلة باطايب مصر ، اصطف الاشراف على جوانب القاعة ، بينما خلت قاعة صغيرة فى صدر المكان لفرعون وخاصته . جلس فيها شكيم مع قائد الحرس يتحادثان ، وما هو الا بعض الوقت حتى وقف الجميع ،ثم ركعوا، واعلن عن قدوم فرعون ، تقدم اليه شكيم ونفحه بكلمات الشكر والامتنان على اكرام سفراء سمحون اليه، ورد عليه فرعون بكلمات ترحيبية جميلة ، ثم بدأوا يأكلون .
اهتزت اعمدة القاعة طربا على انغام موسيقى جميلة مرحة ، وجامل فرعون ضيفه فحدثه باسهاب، ورد عليه شكيم بأدب جم وكلمات قليلة . وعندما انتهى الطعام جاءت سمراوات مصر فانثنت اجسادهن مع الموسيقى بدلال وخفة ، واخذ شكيم بجمالهن فأخذ يقيسهن بنظراته طولا وعرضا وارتفاعا . ولما مضى من الليل جزءا سكنت الموسيقى ، واعلن ان فرعون سوف يغادر القاعة ، فانتبه شكيم الى نفسه وهمس الى قائد حرس القافلة : انه كرم لم نعهده ، ولكنهم وعدونا بالامس ان يردوا بما عرضناه عليهم !!
– صبرا يا شكيم ، ربما لم يتوصلوا الى قرار بعد ،
و تحرك فرعون وهمس الى شكيم ان رسله سيأتون اليه فى هذه الليلة لزيارته فى مخيمه ، فانفجرت اسارير شكيم وانحنى لفرعون احتراما .

***
هش لهم واستقبلهم فى صدر خيمته ، ولكنه اكتشف من نظراتهم خيبة الامل فاستعجلهم القول فرد احدهم باقتضاب :

سيدى رسول سمحون العظيم الملك جارنا الطيب ، لقد جئتنا فى وقت نحتاج فيه للنحاس لتسليح جيشنا واعداده ، ولذا فان فرعون العظيم لا يمانع فى نقل النحاس اليكم ، ولكنه يشترط ان يوزن النحاس بالذهب.
ذهل شكيم وقال : ماذا تعنى ايها الرسول ؟
– اعنى قطعة النحاس تساوى قطعة الذهب وزنا وقيمة .
وضع شكيم كفه على عينيه واعتصرهما بقوة وقال : شكرا لفرعون العظيم ، سوف انقل هذا لسيدى سمحون الملك فيرى فيه رأيه .

قام الرسل وغادروا ، وشيعهم شكيم بنظراته ، وعندما ابتعدوا عن المخيم ، ارتمى شكيم على الارض بوهن وقال لقائد حرس القافلة :انها معجزة القاها فرعون لنرحل دون النحاس
قال القائد : سوف نعد القافلة للعودة ،فاستأذن لنا فى الرحيل الليلة .
الى اللقاء في الجزء الثاني