سنابل – قصة : وليد رباح

القصة …..
قصة : وليد رباح – الولايات المتحدة الامريكية
ما بين ثنيات الأصابع في القدمين حناء يلوثها الحفاء.. يختلط النجيع بالشوك والسنابل محدثاً شروخاً في الكاحلين… يبيت في أخاديدها الحصى..ينسرب في الليل إلى أخمص القدمين حيث اللحم الحي مختلطا بالآهات والألم…يقول أبي بانفعال متورم يا امرأة .. لنجع يوماً أو يومين… اشتر لك حذاء يقيك الشوك ولسعات الهوام.تهمي دمعة ساخنة على خدها.. تخترق الأخاديد لتقف أسفل الذقن باردة كثلوج الصيف.. وعندما ينحسر الغطاء عن الصغار تزحف على ركبتيها متأنية لتعيده إلى الأجساد الناعمة.. تغني ودمعات أبي تنفلت من عينيه كظل لم يلامسه الهواء:يا نايمين ع الوسايد ما تعلموا باللي جرى طير زعق بالفراق يا ريت أنا شفته بايدي كسرت القلم والحبر أنا اشربته طير زعق بالفراق يا ريت أنا اريته بايدي كسرت القلم والحبر كبيته …آه أيها الغضب.. عظمي كمنشار يخترق راحتي إلى حيث السنابل يجمعها بشوق.. يضمّها إلى الحزمة التي تحضنها بمحبة.. كلما أضيف لها سنبلة قالت: وتلك لقمة أخرى يشبع بها فم الصغير
.الخيمة تلعب بها الريح كورقة يابسة تعلقت عند أهداب شجرة لوز أيام الخريف..تتشبّث بالغصن تقاوم كي لا يلوثها رذاذ الطين والماء الآسن .. يسرع أبي .. نتبعه وكل من يحمل حجراً ثقيلاً نُثبت به أطراف الخيمة … ندقّ الأوتاد .. نشد الحبال.. نعود لنكوم أجسادنا حول الدخان الذي يأكل عيوننا المتعبة .. أما هي .. تجلس ترتق ثوباً أو .. تغني..
عندما كنا نخبّ في الطين على أرض المخيم كانت تقف تحت المطر يستر جسمها الثوب المطرّز ..تصرخ بالنساء أن يحافظن على الصف والانتظام كي يتسلمن الملابس الأمريكية التي كانت تجود بها هيئة الأمم .. يلتصق الثوب بالثديين…يخرمنهما الرذاذ المائي ليزحف إلى قدميها .. يختلط بالطين والوحول.. تموت على شفتيها كلمات السخط فاسمع الصرير

آه يا زمن. .. يختبئون الآن خلف الثريات الضوئية بينما أخبّ في الوحل حتى الركبتين .. كان لي حذاء جميل مصنوع من القش أزهو به كلما خرجت إلى الحقل أيام الشتاء.. أما اليوم. يا حسرتي ليس لنا غير الحفاء.يا حسرتي ع الطير قصوا جناحووخلوه ما بين الطيور حزين ..ينظرون إليها.. يبتسمون.. تتحول البسمات إلى قهقهات ساخرة يا امرأة دعي شجون الأمس فكلنا كان له حذاء.. وكلنا كان يأكل من قمح أرضه ولا نقف في الطابور نستجدي طحين وكالة الغوث المملوءة بالدود والدرع.التصق في ذيل ثوبها كذبابة… تجرني حيث شاءت .. تدخل الأزقة وقد نسيتني فلا تذكرني إلا عندما أصرخ أنني جائع أو أحتاج إلى قطعة حلوى . .أعرف سلفاً ماذا تجيب، ولكن التنوع في أسلوب الإجابة يدفعني للطلب ..مرة تضربني على فمي بظاهر كفها ليعتورني الخرس ساعة او دون ذلك. . أخرى ترق لي وتقبلني وتعدني . .ثالثة تبكي وتحاول أن تُفهمني أننا لا نملك رغيف الخبز فكيف لنا بشراء الحلوى .. غير أنني كنت ألحف دائماً. ولم يحدث مرة أن لبت طلبي إلا مرة واحدة عندما ذهبت إلى المدينة وباعت كل سنابل القمح التي جمعتها خلف الحصادين لأيام ثلاثة.. اذكر يومهاً أننا تعشينا لحماً لم تستطع النار اختراق اليافه ولكنه لحم على أية حال…

عادت إلى الخيمة .. تحلقنا حول النار وانفرجت أسارير أبي.. أخذت تفك عقد (البقجة) فرحت إذ رأت معطفاً من فراء.. دفئ ظهرك يا رجل لئلا تصاب بالعصبي.. إسأل مجرب ولا تسأل طبيب .. كل منا حصل على شيء ما.. كان نصيبي سروالاً كبيراً تمتلئ حوافه بالطين كلما لبسته.. وفي جيبه وجدت ورقة مخطوط عليها كلمات أشبه بالعربية كمن كتب بالخط الكوفي تقول: أيها الطفل.. أهديك سروالي أيا كنت وحيث تكون . .حافظ عليه فهو من قماش جيد.. لقد اشتراه لي أبي في عيد ميلادي قبل سنتين، وأرجو أن يصادف استلامك له عيد ميلادك .. مع تحياتي.. هارولد الصغير.

تخطت عجلي بعض الأشواك على جانبي الطريق.. لهثت طويلاً تستحثني السير كي تلحق بالحصادين قبل البدء في جمع السنابل.. كنت أرى حبيبات الرمل تخترق شقوق كاحليها فتجلس لحظات تنكثها بعود قمح أو ما تيسر ثم تواصل المسير.. سرحت في تأمل قامتها المديدة.. كنخلة جذرها يمتص من لحم الأرض كانت.. تلف حول خصرها شالاً غليظاً مطرزاً بخيوط حمراء.. وقد برز من فوق معصمها سوار احتفظت به مذ انطلقت في بيتها أول زغرودة تعلن تزويجها من ذلك المنكوب (هكذا كانت تسميه). تآكلت حواف ثوبها من الأسفل بفعل ارتطامه بالطين والتراب فغدا كأنبوبة مطاط متفجرة.. تجرجره باعتزاز خلفها وترفض أن تلبس غيره وحجتها أنه من (ريحة الأرض) آه يا ولدي لوكنت تعرف رائحة الأرض..إنها أحسن من كل عطور الدنيا .. أنها تشبه.. لا أستطيع وصفها.. أنها تشبه رائحة الشتاء في أول يوم يسقط فيه المطر بعد طول انحباس.. أما أبي فقد كان يقول بخبث عندما ترفض تغيير ثوبها.. لا تصدقوها إنها تشم فيه رائحة الليالي العذبة .. تضربه بدلال على صدره يا خايب يا منكوب. ليس لأولادك غير الأذان والأفواه

.لهثت طويلاً ثم مدت بصراً كليلاً نحو الأفق.. كانت الشمس قد بدأت تتسرب في غلالتها الحمراء من خلف الجبال.. أجالت نظرها باحثة عن مكان ترى فيه وفرة سنابل القمح خلف الحصادين .. كانت تختار حصّاداً غراّ ليس له كبير خبرة في عمله ثم تسير خلفه تجمع السنابل، تحصنها في حزمة كأنها الوليد.. وكثيراً ما كانت تبتسم للحصاد عندما ترين منه التفاتة خلفه. . تحثني أن أسرع في جمع السنابل، تمنيني إذا ما جمعت ألفاً منها أن تعطيني قرشاً أزهو به على أترابي ولا أصرفه إلا فيما ينفع..تمضي الساعات وهي محنية الظهر مركزة نظراتها في التربة تنكثها علّها تجد سنبلة قد دفنتها الرمال تحت أرجل الحصادين.. جمعت قدراً كبيراً أثار حفيظة الآخرين.. ولأول مرة أراها تبتسم بجذل لتقول: يجب أن نثابر كي نحافظ على مستوى الجمع..وأخوك .. يا ولدي، ذهب إلى المدرسة صباح اليوم وهو يهمس في أذني أن بقية الأولاد في الصف يأكلون (السندويش) وهو ينظر إليهم بحرقة.. غداً سأعطيه قرشين حتى لا (يصاب في عينه).جلست تفحّ ونفثات صدرها تخترق الفضاء الواسع .. أضافت حزمة أخرى وغطتها بحزامها الذي فردته كي لا تضيع السنابل في التراب.. نهضت مرة أخرى تستحثني أن أساعدها .. كانت قواي قد خارت فارتطم جسمي بالأرض. نظرت إليّ باشفاق وقالت، خذ غفوة إلى جانب حزم السنابل .. اضطجعت على جنبي ورحت في سبات عميق…عندما أفقت كان صوتها يئز كالمطر ..أيها الناس لقد سرقت.. السنابل.. سرقوا ما جمعته طيلة يومي..تحلق حولها الناس تشي عيونهم بالأسى.. بصعوبة استطعت متابعة كلماتها التي كانت ترشها كرذاذ الماء.. يومها جلست كأنما قد فقد لها طفل أو تمزق سروال أبي.. وضعت يدها اليمنى على خدها وأخذت تغني والدموع تسحّ على خديها تختلط بالطين والغبار منسربة إلى أسفل النحر لتمتصها الملابس المشبعة بالوحول الجافة وأنا لا بكي وأبكي كل جيلي على اللي صابني من دون جيلي سرقونا يا ولدي.. كل تعب النهار سيسري في بطون الآخرين.. فوجئت بأحد الحصادين يحمل حزمة قمح يحتضنها منجله ويضعها أمامها.. خذي يا امرأة. قد عوضناك عما فقدت.. نظرت إليّ بدهشة .. مسحت دموعها بطرف كمها الأيمن لا.. عرق جبيني هو الذي ينبت القمح دوماً نهضت تجمع من جديد. وعندما انقضى النهار كانت قد جمعت قدراً كبيراً في حزم تلقيها في حجرها وتربطها بخيوط القنب كي لا تسرق.. ويومها سمعت النساء يتغامزن قائلات: إن الحصادين كانوا يتركون لها السنابل خلفهم كي تعوض عما فقدت.

عند سوق المواشي افترشت رمل الطريق. .عرضت بضاعتها للبيع فلم يأبه أحد ..من يشتري قمحا خالياً من الزوان والحصى.. جمعته بيدي سنبلة إثر أخرى.. صلب كحبات العيون.. ذهب يا قمح تغضن الحلق فيها مرتعشاً من العطش.. عبت من ريقها حتى جفّ ونضب، وضعت حصاة حول لسانها أخذت تمتصها لتدر إلى فمها الماء.. كنت أسمع صرير ارتطامها بالأسنان كنقرشة الرذاذ على سطح الخيمة.. ذهب يا قمح امتلأ فكها العلوي بالأسنان الذهبية خضبت بها فمها أيام كان القرش في يدها يسيل كرقرقة الماء متجهاً نحو المرئ خال من الزوان يا قمح. كشجرة قصت عروقها الخضراء نامت فوق التراب.. تحتضن البيض في جلستها تدفئة كي يخرج يوماً وعروقه مبتلة بالحياة.. والهالة التي تظلل عينيها سوادء محتقنة كأنما تعرضت لطعنة حربة أولكمة من يد جندي نزق… طلب إليّ شراء أوقية من الدخان الأحمر يلف سجائره متمهلاً وينفث الدخان في الهواء ثم ينكث الأرض بعود صغير. يمتص الدخان بشغف . .أتعرفين .. يوم زرعت شجيرات التفاح في ساحة البيت خلتُ أني سأموت قبل أن آكل من ثمرها.. لكنها بعد عام أينعت وبلغ حجم الثمر فيها بيضة نعام مكتنزة .. تجلسين في المساء قرب البلكون الشمالي وتضعين في فمي قضمة تحترق تحت لساني وتذوب كالسكر سائلة نحو المعدة.. آه يا أيام زمان….قمح يا قمح منذ الغد سألحق الحصادين كي أجمع سنابل الشعير.. يبدو أن الناس قد شبعوا أو اتجهوا إلى طحين وكالة الغوث .. أو إنهم لا يفرقون بين القمح والشعير.نفثت أنفاسها بحرارة ..سال العرق من أعلى الجبين إلى أسفل النحر مسرعاً كسهم طائش..بدأت تضيق بالجو الخانق والحرارة الملتهبة .. أمسك أحدهم قبضة قمح وعاينها بيده…. قمح ردئ..أجابته بانفعال.. في بيتك أيها السيد تأكل البسكويت والزبدة .. ولهذا فأنت ترى نعمة الله رديئة. نظر إليها شزراً .. حتى لو كان القمح ذهباً كما تدّعين فلن يجرؤ أحد على شرائه منك وأنت تتلفعين بهذا الكفن القذر.. قالت بعد أن تفحصته جيداً (الله يجيبك يا طولة الروح).تفحصت وجوه المارة طويلاً.. تركزت نظرتها نحو شرطي يركل كل ما يعترض طريقه.. وضع طبقاً من الكعك على رأس صاحبة مقلوباً فبكى .. استعطفه كي يسمح له بالبيع فركله بحذائه ومضى نحو آخر.. دلق إبريقاً من ماء الليمون على الأرض فشتم صاحبه الحكومة.. كبلوه ورموا به إلى سيارة كانت تقف غير بعيد..هذا العالم غادر.. يوم كان الانكليز يطوّقون القرية أقف أمام دباباتهم وأُعفر وجوههم بالتراب.. يسألونني عن المطلوبين فاقول لهم لو كنتم رجالاً لما سألتم النساء.. كونوا مرة واحدة كما تدّعون واقبضوا عليهم في معركة مكشوفة .. كنا نقف أمامهم كشجر الكينا عندما يهزأ بالرياح.. لا أعرف ما الذي تغير.. لقمة العيش … والجوع..ترين بام عينك ما يحدث للآخرين وأنت تفردين على قارعة الطريق .. تعلمين إنه ممنوع على الشحاذين أن يشوهوا منظر الشارع، ومع كل هذا فأنتم تتحدّون القانون وتستخفّون برجال الأمن.. إرفعي قمحك وإلا حولته إلى مسحوق يختلط مع الحصى والتراب…. يا ولدي هذه نعمة الله.. كيف تجرؤ على أن تدوسها بقدميك …ألا تخاف أن يحدث لك مكروه أو تصاب بالعمى.أيتها البلهاء ..هيا ..لمعت في عينيها أشعة الشمس عكسها حزامة الفضي المتوهج.. سالت نظرتها من عند الصدر واخترقت إزرة معطفه وتركزت عند حذائه هيا .. ألا تسمعين لو كنت هناك لما تجرأ أحد على أن يقف أمامي ..أما اليوم .. فالجوع كافر.. في الخيمة يجلس الآن متكئاً على مخدة القش وقد بلغ شوقه للدخان حداً يجعله يثور عند أول حادث تافه.. والصغيرة يا عيني.. تتعلق باذيالي فأمد يدي إلى صدري وألقمها قطعة حلوى ملفوفة بالورق الأحمر يقطر منها العسل والسكر…لا تتظاهري بأنك مسكينة ذهب يا قمح أنت تتّحدّين القانون والشرطة خال من الزوان يا قمح بلهاء والله.. لا يجرؤ أحد على مواجهتي إلا البلهاء… أبدل الرطل بوقية دخان فقط.خدّرتها أصوات آتية عن بعد.. سرّحت نظرها بعيداً.. عادت وركزته إلى حذائه.. رأت وجهها المتعب في بسطارة اللامع.. ابتسمت بمرارة .. تابعت الحذاء وهو يسحق حبيبات القمح ويخلطها بالتراب..بقيت جامدة لا تتحرك .. وعندما لامست هراوته أعلى كتفها، تنهدت وقالت ..الله يجيبك يا طولة الروح