رسالة عبر المجرات : نصوص قصصية في الخيال العلمي – بقلم : مهند النابلسي

القصة …
بقلم : مهند النابلسي – الاردن  ….
“السفينة المهجورة”
بعد أن خدمت السفينة الفضائية لسنوات طوال وخاضت تجارب رائدة واجتازت مخاطر جسيمة، قام مركز المراقبة الأرضي بإبلاغ رائد الفضاء الأخير على المركبة الكولونيل سعيد بأنه سيتم التخلي عن المركبة بعد أن استنفذت مهامها وقام قائدها بإجراء آخر تجربة فضائية. ثم طلب منه أن يحاول النزول بها بسلام على الأرض وأن لا يتركها تصطدم تائهة بعمران أرضي وتتسبب في دمار كبير بعد أن تتحطم بدل أن تدخل متحف الفضاء الكوني كأول مركبة فضائية قضت عقدين من الزمان وهي تعمل كمحطة للتجارب الفضائية الرائدة.
انزعج الكولونيل سعيد كثيراً وكأنه مقبل على فقدان كائن عزير، وقد أُبلغ أن هذه هي مهمته الأخيرة التي سيتقاعد بعدها، والتي  ستتوج بطولاته الفضائية وتمنحه فرصة الحصول على ميدالية البطولة الفضائية التي تمنح للرواد المميزين.. “وفي أسوأ الظروف سأقوم بتوجيهها نحو أرض قاحلة.. صحراء ربما. ثم أقوم بالقفز منها بسلام..” حادث نفسه.
وأكثر ما أزعجه حصوله في الشهر الأخير على معلومات هامة جداً، وانقطاع اتصاله مع المحطة الأرضية بواسطة “انترنت الفضاء”: فالنجم الذي عاد للتوازن كالبركان والذي تم رصده لأول مرة منذ مئة وخمسين عاماً، عاد للمعان مجدداً وكأنه يتوهج مبشراً بألعاب فضائية نارية مثيرة. ورصد منظاره الفضائي سحابة فضائية من الغاز والغبار تدور كالدوامة ملتفة حول كتلة صغيرة، وهي تنبئ بأنها ستبرد وتتكثف لتتحول يوماً ما إلى كوكب جديد. وفي مختبره الفضائي لاحظ نمو سريع لبكتيريا غريبة في التربة “المريخية” التي أحضرها أحد الرواد من كوكب المريخ، مما يعزز الاعتقاد بوجود نوع من الحياة على الكوكب الآخر. وتنهد بحسرة وهو يفكر أن معلومات كهذه لن تصل ربما للأرض، ومنها ما توصل إليه مؤخراً بواسطة تقنية جديدة مستحدثة تعتمد على “القانون الذهبي” والتي يمكن بواسطتها قياس المسافات الكونية بدقة كبيرة، مما قد يحدث انقلاب معرفي في مفهومنا التقليدي حول العمر المفترض للكون ودرجة تجدده.
لقد قرر أخيراً أن يهبط من المركبة قبل اصطدامها المريع بالأرض وتخلى عن يأسه ورغبته الخفية بالانتحار، فقد كان يشعر أن مصيره مرتبط بمصير مركبته المنبوذة!
وبذل محاولة يائسة لتسجيل المعلومات القيمة على قرص مدمج بعد أن فشل سابقاً لمرات عدة، واستعان بقوة التركيز النفسي حيث قام بالإيحاء مغمضاً عينيه، وتمتم بعبارات هامة: “هيا.. يا رب.. ساعدني.. يجب أن أنجح في تسجيل هذه المعلومات.. هيا.. سجلي.. سجلي.. هيا” ولم يصدق نفسه عندما رأى لمعان زر التسجيل يعمل مجدداً بعد أن يأس من إصلاحه.. وعاد لتفاؤله وثقته بنفسه وإيمانه.. وشعر أن الله معه في مهمته الكونية.
أخيراً سالت من عينيه دمعتان حارتان قبل أن يكبس على زر الهبوط وينطلق مقذوفاً من مركبته.. ونظر بحسرة ومرارة وهو يبتعد عن مركبته العتيقة التي خدمت العلم الفضائي لسنوات طوال، وبدا وكأنه يترحم عليها! ولكنه عاد لتفاؤله عندما تذكر أنه يملك في جيب بزته الفضائية قرصاً مدمجاً يحتوي على معلومات قيمة جداً، فالحياة يجب أن تستمر!.. وأشرقت فكرة منيرة في تلافيف دماغه وجاءت نفسه قائلاً: “لن أتقاعد.. سأعود للعمل مجدداً. سأقوم بإلقاء المحاضرات حول تجاربي الفضائية”.
كبسولة القرن العشرين!
طلبت معلمة الانجليزي من طلابها تحديد عشرة بنود صغيرة لوضعها في كبسولة مغلقة، حتى إذا ما مر الزمان وجاء أحفادنا واكتشفوها، استطاعوا من خلالها تحديد طبيعة الحياة في العقد الأخير من القرن العشرين. وفكر تلميذ نابه واختار أن يضع ما يلي داخل كبسولة الزمان:
– صورة فوتوغرافية ملونة لمحطة الفضاء الروسية مير وهي تمخر عباب الفضاء.
– صورة فوتوغرافية صغيرة لطائرة الستيلت الأمريكية وهي تلقي بقنابلها الموجهة بالليزر نحو يوغوسلافيا أو العراق أو افغانستان لا فرق.
– رقاقة كمبيوتر صغيرة.
– تلفون خلوي متطور.
– كاميرا رقمية صغيرة.
– كاسيت لفلم كرتون جديد من إنتاج والت ديزني.
– صورة ملون معبرة لصفحة الانترنت لمحطة التلفزة الشهيرة سي إن إن.
– وحدة النقد الاوروبية الجديدة “اليورو”.
– عينة صغيرة من الاسمنت الفائق القوة.
– صورة فوتوغرافية معبرة لمأساة لاجئ كوسوفو في الجزء الأعلى، ومنظر لمجزرة اسرائيلية تقتلع شجر زيتون في قرية فلسطينية في الجزء الأسفل من الصورة وذلك أمام رأي أصحاب الأرض المحتجين!
وبالفعل فقد دفنت الكبسولة في بئر مهجور، ومر عليها قرن من الزمان، وعثر عليها تلميذ نبيه آخر، ففتحها بدهشة وفضول واطلع على محتوياتها، وكتب موضوع إنشاء مدرسي واصفاً محتوياتها على الشكل التالي:
لقد كان هناك تعاون عالمي منظور في مجال استكشاف الفضاء الخارجي، وبقيت هناك قوة عالمية أحادية مهيمنة على مقدرات العالم ترسم خرائط الدول وتعاقب من تشاء بالقنابل والدمار، ولهذه القوة الكونية مصالح متناقضة فهي مرة تعاقب دولة ما لطغيان قادتها ونزعتهم الإجرامية في التطهير العرقي ومرة أخرى تدعم دولة ظالمة اسمها “اسرائيل” وتساعدها على الاستيطان وقتل الفلسطينيين (أصحاب الأرض) وهدم البيوت وقلع الأشجار. واستنتج التلميذ النبيه أن عالم العقد الأخير من القرن العشرين كان عالماً غير متوازناً تحكمه المعايير المزدوجة وشريعة الغاب بالرغم من التطور الحضاري المذهل نسبياً. وعزا التطورات المذهلة لتقدم تقنيات الحاسوب وظهور الانترنت وانتشار وسائل الاتصال، حيث أصبح انتقال المعلومات بسرعة سمة العصر.. واستنتج ذاك التلميذ المجهول الذي سيأتي بعد مئة عام بأن هناك ثقافة أحادية التوجه تسيطر على العالم وتصهر الأفكار والعقائد في بوتقة واحدة، وأن حيز الثقافة البصرية – السمعية يحتل نفس الحيز الذي كانت تحتله ثقافة الكتاب المطبوع.. هكذا كتب في موضوعه الإنشائي: لقد كادت إمكانات طفل في العاشرة أن تفوق قدرات شيخ في الستين من ناحية القدرة على تطوير مهارات التعامل مع الحاسوب والانترنت.. واستمر في استنتاجاته الذكية فلاحظ أن وحدة اليورو تشير لتشكل اقتصاديات إقليمية ضخمة جديدة تسعى لمواجهة المنافسة الدولية وربما الأمريكية، وهذا مؤشر على دخول عصر العولمة والتكتلات الاقتصادية الضخمة.. ثم انبهر لمرأى عينة الاسمنت ففهم أن الاسمنت بقي محافظاً على أهميته القصوى كمادة بناء أرضية قادرة على اجتياز تحديات الزمان. سره جداً اكتشافه للكبسولة ولم يخبر أحداً، فقرر أن يبقى موضوعه الإنشائي طي الكتمان، ونام وهو ملئ بالدهشة والحماس وحلم بالمكافأة التي سيجنيها بعد أن يقدم الكبسولة لقائد مركبة الفضاء عندما ينطلق مع والديه في رحلة المريخ الموعود بها في إجازته الصيفية القادمة!

هجوم الحشرات
عندما أطل اليوم الحادي عشر من آب 1999، لم يسقط نيزك ناري على مدينة النور باريس، والتقط العالم أنفاسه، فهذا اليوم تحديداً هو اليوم الذي يبدأ فيه تعرض العالم للكوارث حسب توقعات المنجم نوسترداموس الذي عاش في القرن السادس عشر، وسبق وتنبأ بحروب وكوارث حدثت كلها في المواعيد التي تنبأ بها!
الذي حدث كان خارج التوقعات تماماً، فقد فوجئ سكان مدينة نيويورك بحشرة عنكبوتية هائلة بحجم الديناصور تتجول صباحاً في شوارع المدينة المكتظة بالسيارات والمارة، وتثير الهلع والدمار في نفوس السكان المذعورين.. وتم استنفار قيادة الجيش، وأرسلت مدافع تحمل قنابل نووية تكتيكية صغيرة للفضاء على الحشرة الماردة، التي أصابها الذعر وأصبحت تركض بقفزات هائلة في شوارع المدينة المنكوبة، وحيث قادتها وحدات آلية لمنطقة نائية خارج المدينة ونجحت مروحية ضخمة في إصابتها بقذيفة نووية حولتها لأشلاء ممزقة..
وقامت فرق الدفاع المدني بإنقاذ الجرحى وإخلاء جثث الموتى.. وتحدثت وكالات الأنباء المتلفزة عن أخبار مماثلة تفيد بتعرض مدن كبرى مثل ريودي جانيرو، موسكو، لندن القاهرة وكلكتا لكوارث مشابهة ناتجة عن هجوم حشرات عنكبوتية ضخمة كاسرة تعيث دماراً وقتلاً، وأفادت قيادات الجيش في هذه الدول بعدم جدوى استخدام الأسلحة النارية العادية بل إنها تستفز عدوانية هذه الحشرات الذئبية وتزيد من شراستها!!
وطلبت معونة “نووية” عاجلة لاستخدامها في الفضاء على العناكب الكاسرة!..
وأفاد عالم الحشرات الشهير البرفسور رامز بأن هذه الحشرات مخلوقة من خلايا معدنية تشبه السبائك المعدنية المقواة لذا يصعب مواجهتها بالأسلحة النارية التقليدية، والذرة هي السلاح الوحيد القادر على تخليق حرارة فائقة تؤدي لصهر مكونات الحشرات وتدميرها.. ولاحظ العالم الشهير وجود أجهزة إرسال متطورة مركبة على قرون الاستشعار مما يعني أن هذه الحشرات الهائلة ما هي إلا طلائع كشافة وظيفتها الاستطلاع والتخريب والتجسس، وهي مقدمة لهجوم حشري كاسح يهدف احتلال الأرض وإبادة الجنس البشري!
واكتشف علماء النازا سر الهجوم الحشري، حيث تم رصد نيزك يقترب مسرعاً من الأرض، وهو يقترب بسرعة هائلة، ورصد المنظار “هابل” تشكيلات حشرية، ولوحظ أن مراكب فضائية خاصة تقوم بقذف الحشرات العنكبوتية على المدن الكبرى كطلائع لهجوم قريب كاسح، وأكد المارشال هنري وجود نية تدميرية عندما قال:
ليس هذا هجوماً تخريبياً مجرداً، بل تنفيذاً لخطة مدروسة، فالهجوم لا يقتصر إلا على المدن والعواصم الكبرى، والعناكب الذئبية تبدو بالرغم من وحشيتها الهائلة وكأنها تعرف ما تريد! أجل إنها تعي تماماً هدفها.. إن هجومها ليس عملاً انتحارياً بطولياً!! وإنما عملاً مخططاً ذو مقاصد عدة.. وضحك الحاضرون في المؤتمر الصحفي وعلق أحدهم: لقد قضت البشرية على مفهوم البطولة كلياً في دخولها القرن الحادي والعشرين وتعميقها لمفاهيم “العولمة”.. وبقي أن تستخدم هذا التعبير الفذ في وصف “الحشرات الغازية”!!
هكذا استنفر العالم كافة قدراته وإمكاناته وسخر طاقات شعوبه وتم تجنيد أعداد غفيرة من الجيوش بعد أن تم تدريبها على استخدام الأسلحة التكتيكية، وركزت الدول الكبرى جهودها لصنع مركبات فضائية لإرسال الجيوش الأرضية العالمية لمواجهة النيزك الحشري قبل وصول الحشرات للأرض..
واستمتع عالمنا الأرضي بسلام دولي مؤقت نادر، حيث ذابت مشاعر الكراهية والتمييز العرقي، وصوب الجميع وجوههم للسماء، وارتفعت الأكف بالدعاء.. وتمنى الجميع التوفيق لجنود الأرض في معركتهم المصيرية القادمة، والتي حددت بعد شهرين من انطلاق المركبات الفضائية.. وكثرت الصلوات في المساجد والكنائس والمعابد البوذية والهندوسية حتى الوثنيون أقاموا طقوس خاصة قاموا خلالها بحرق عدد هائل من العناكب الأرضية الصغيرة، وكان القتل يتم بطريقة شعائر به بطيئة مصحوباً بترانيم سحرية.. ووصف كبير الكهنة ما حدث قائلاً “لقد نجحنا.. لقد حدث وميض هائل في النيزك الحشري!!”.
وعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي، حيث تم تجميد كافة الصراعات والخلافات، وتم الاتفاق على العودة إلى الله، وأفاد رئيس دولة عظمى: لو نجونا هذه المرة فسيكون هذا بفعل قدرة إلهية، فهناك رغبة كونية في استمرار الحضارة البشرية.. وإذا ما نجحنا في اجتياز هذه التجربة القاسية فأول ما يجب أن نقوم به كبشر متحدين هو أن نصلي لله شاكرين.

الروبوت العاطفي
– 1 –
قضى أسامة ساعاة طوال وهو يبرمج الروبوت الجديد الذي صنعه، ولم تكن مشاعر الغضب والحزن والفرح والارتياح والألم هي الأصعب في عمليات البرمجة، وإنما كان الجزء الخاص بربط هذه الانفعالات بحركات متطابقة: مثل أن يترافق الغضب مع حركة معبرة لليدين تعني الدفاع والصد أو المعاناة. ونجح بعد محاولات عدة في ربط حركات الحاجبين والعينين والفم مع حركات اليدين. كما أنه نجح في تطوير حركة جديدة تعد اختراقاً في مجال برمجة الحاسوب، وتتلخص هذه الحركة في تطوير حركات مماثلة للقدمين، فعندما يثور الروبوت بالفرح والارتياح يتحرك مقبلاً ببطء، وبالعكس فعندما يشعر بالغضب أو الألم يتحرك للأمام بشكل عدواني أو يتراجع بشكل دفاعي أو بطريقة تدل على الألم والإحباط!
هكذا أرهق أسامة نفسه تماماً في العمل البحثي الذي يمارسه في مختبره بسرية بعد الظهر، وهو وإن كان يطمح في الحصول على جائزة رفيعة في مجال تطوير لغة تفاهم مع الروبوت وجعله قادراً على التعبير إنسانياً عن مشاعره فهو يمارس هذا العمل كهواية. ويحلم باليوم الذي يقف فيه محاضراً في مؤتمر “الروبوتات” المقرر عقده في استراليا في بداية الشتاء المقبل.
شيء واحد قرر أن لا يدخله في “مشاعر” روبوته، شيء لا يؤمن هو شخصياً به ألا وهو الشعور بالحب ونقيضه الشعور بالكره.. لقد عاش حياته وهو يقنع نفسه بأن هذه المشاعر “مضيعة للوقت” ويجب على العالم الموضوعي أن يتخلى عنها، وهي وإن كانت ضرورية لتركيبه النسيج الاجتماعي ولديمومة الحياة، إلا أنها ليست ضرورية للعالم المتوحد مع ذاته.

– 2 –
لقد برمج منزله الذكي على النحو التالي:
المطبخ: تجاوبت غلاية القهوة مع برنامج أسامة اليومي، وبدأت بالغليان في الساعة السادسة صباحاً مجهزة قهوته الصباحية. لاحظت ثلاجته أن صلاحية كرتونة الحليب قد انتهت وطلبت أن يفتح كرتونة جديدة. أحس فرن الميكروويف بطراوة عجين الفطيرة وبدأ بتجهيزها للفطور.. كل هذا وأسامة ما زال نائماً؟ ثم لاحظت غسالة الصحون أن الكمية المتبقية من صابون غسيل الصحون قد نفذت فطلبت عبوات جديدة بواسطة البريد الالكتروني الموجود في المكتب.
الحمام: أظهرت المرآة الأخبار الرئيسية وأهم الأحداث خلال أربع وعشرين ساعة، ثم أظهرت برنامج عمله اليومي ولقاءاته المتوقعة.. كل هذا وهو يحلق ذقنه ويفرشي أسنانه.. وعندما جلس في المرحاض، بدأت تفاعلات كيماوية-بيولوجية تحلل برازه وبوله لتخبره عن وضعه الصحي في دقائق، وارتاح للنتائج التي ظهرت على لوحة مركبة على الخزانة الطبية.. وبينت له هذه فوراً حاجاته اليومية من الفيتامينات والمقويات اليومية بناء على نتائج التحليل الطبي، وتناول أدويته مع كأن من الماء المعقم الصحي، ثم أغلقت الخزانة اتوماتيكياً بشكك محكم لا يسمح بفتحها. خلع أسامة ملابسه وتمدد في الغسالة الاتوماتيكية حيث أراد للمرة الأولى تجربتها، فقد كانت آخر جهاز اشتراه، كانت الآلة بطول 2.3 متر وتزن مئة وخمسة وسبعين كيلوغراماً ومجهزة بأربعة عشر موزعاً للمياه وذات قدرة على توليد هواء ساخن. عندما اندس داخلها شعر وكأنه صحن في جلاية صحون.. للوهلة الأولى شعر بالارتياح وقال رائع.. رائع.. لن أضطر لدعك جسمي بالاسفنجة مراراً.. وخاصة لمنطقة الظهر التي يصعب الوصول إليها.. ولكنه كاد يختنق بفعل الهواء الساخن الذي يبدو أنه غُير بطريقة خاطئة، وخرج بصعوبة لاعناً الآلات ومخترعيها!
المكتب: تتم طباعة التقارير المطلوبة بينما يقوم أسامة يتصفح الجرائد بواسطة الانترنت، ويحدث اتصال أتوماتيكي ما بين الملفات المتماثلة.. لا حاجة للورق على مكتبه.. لقد تخلص مؤخراً من الورق وغباره!! راجع برنامج عمله اليومي، تفقد بريده الالكتروني.. أدخل مواعيده اليومية الضرورية، حدث توافق بين برنامج تدريبه الرياضي اليومي مع الحاسوب الصغير المزروع في زر جاكيتته الرياضية ليذكره بموعد التمرين بعد الظهر.. ثم لاحظت كمرة الفيديو المركبة فوق شاشة حاسوبه، أنه قد بدأ يشعر بالملل فتدخلت وبدأت بإعادة بث برنامج رياضي محبب لديه!
غرفة الجلوس:
استخدم أسامة جهاز تحكم عن بعد يعمل ببرنامج مسبق، ويتنقل بين المحطات المفضلة دون تدخل شخصي، كل هذا  وهو مستلقي باسترخاء على الأريكة المريحة.. أما في حوض السمك فالحرارة تتم مراقبتها اتوماتيكياً مع قيمة “الأس الهيدروجيني” حتى يبقى السمك في وضع صحي جيد، ويتم ضخ الأوكسجين بتوازن مع التلقيم الغذائي المناسب. وبالرغم من كل هذه الترتيبات فقد انزعج عندما لاحظ أن ثلاث سمكات فوسفورية صغيرة قد ماتت!
السيارة:
عندما ذهب أسامة لموعد تدريباته الرياضية اليومية، قام حاسوب السيارة بحساب المسافة بناء على المعلومات المخزنة في زر جاكيتته الرياضية، وتفحص حاسوب السيارة الخيارات على شاشة الانترنت، ودل أسامة على أقصر الطرق وأقلها ازدحاماً. وظهرت على لوحة التحكم إشارات تفصيلية توضح الوضع العام للسيارة ونحذر من أية مخاطر محتملة، وهو مطمئن من أن حاسوب السيارة متصل مباشرة بكراج التصليح، وهو كفيل بإخباره عن أية أعطال محتملة.
وبالرغم من الائتمتة الكاملة التي يتمتع بها في منزله الفريد، والتي تجعله محسوداً من جيرانه، فلن ينسى ذلك اليوم الذي تعطلت فيه الكهرباء، وفقد حينئذ كل اتصال ببرامج صيانة المعتادة، وكم كان سروره كبيراً عندما قرع شخص باب منزله، واكتشف أنه راعي غنم يبيع الحليب الطازج، وتذوق منذ فترة طويلة طعم الحليب الطبيعي مقابل دينار، ثم أشّر لبائع الكعك بالسمسم واشترى كعكة طازجة وبيضتين وشعر بمتعة أن يكون عادياً بسطاً.. وفوجئ عندما تعطلت سيارته في نفس ذاك الصباح، فاضطر أن يسير على قدميه باحثاً عن تاكسي، وتأمل ربما للمرة الأولى جارته الحسناء وهي تسير مقبلة في اتجاهه، وشعر بوميض في عينين جميلتين وسرت كهرباء خفية في جسده عزاها لفتنة اللقاء البشري، وشعر بالأسى لأن تخلى ربما كلياً عن متعة الشعور بالعواطف الإنسانية بحجة أنه مشغول دائماً ولأنه أوهم نفسه أن الباحث والعالم يجب أن يكون موضوعياً لأقصى الدرجات لدرجة التحكم الكامل بالأحاسيس الإنسانية السوية!!
– 3 –
بعد أن أنهكه التعب، ذهب أسامة لغرفة نومه باكراً، واستخدم لأول مرة جهاز التحكم المركزي، فشغل جهاز التلفزيون عن بعد وأطفأ الإنارة في غرف المنزل بعد أن شعر بالنعاس وعجز عن الذهاب بنفسه لإطفاء الأنوار وتفقد الأبواب التي تغلق اتوماتيكياً كذلك.. وبرامج الستلايت لنصف ساعة وشاهد برنامجاً مسلياً ثم نام نوماً عميقاً واستيقظ في الثالثة صباحاً وقد تهيأ له وجود لص في الصالون، فشغل عن بعد لأول مرة الروبوت الجديد الذي يطابق حجمه حجم الإنسان، وضغط على زر “الغضب” وسمع الروبوت يحادث اللص بصوت قوي غاضب: أخرج من هنا أيها اللص. وكانت فرصة لأسامة لتجربة “الحركات المتطابقة” فضغط على زر الحركات معززاً الحركة التلقائية لدى الروبوت، وهئ له وكأن الحاسوب يقدم على دفع اللص وضربه بحركة غاضبة!! وسمع اللص وهو يهرب مذعوراً من النافذة، واستغرب من قدرة اللص على اختراق كل أجهزة الأمن والرقابة التي زود بها منزله.. لابد أنه خبير بالالكترونيات وليس لصاً عادياً وربما كان يسعى لسرقة الروبوت!! وشعر بالسرور لأن هذه التجربة كانت امتحاناً عملياً لإمكاناته العلمية فقد فاجأ الروبوت اللص بالصراخ الغاضب والحركات المعبرة المتطابقة التي ظهرت في الحاجبين والعينين والفم، والأهم من ذلك مبادرة الروبوت بدفع وضرب اللص بيديه. شعر أسامة بالنجاح وبأن رهانه كان موفقاً. فالتكنولوجيا الالكترونية هي عشقه الأكبر وبها يعوض حرمانه من العشق البشري!
في الصباح استيقظ مرهقاً، وتناول دوشاً سريعاً، ولم يشعر بالرغبة في الذهاب لغرفة مكتبه، وغادر لعمله في شركة المقاولات بعد أن أبلغه الحاسوب بأهمية الالتزام ببرنامج العمل في ذلك اليوم.
وبالفعل، فقد زاره صديق ثقيل الظل، وطلب منه مصاحبته لمتابعة متطلبات المبنى الذي تشرف عليه شركته، والذي يعمل فيه كمهندس مدني، كانت الحرارة مرتفعة تجاوزت الخمسة وأربعين درجة، وعليه أن يعاين الأعمال الهندسية لمدة ساعتين على الأقل “أنت تعتني بنفسك كثيراً يا أسامة، ولا ترهق نفسك أبداً!” وعلق أسامة وهو يركب المكيف المتنقل حول عنقه: سأقول لك بصراحة “أنت تحسدني وتشعر بالغيرة! يا أخي لماذا تكنز نقودك الكثيرة؛ تمتع بالحياة واشتري الأجهزة الحديثة المريحة.. أو كف عن ملاحظاتك المزعجة!!”.
فرد صديقه:
– أنت جدي أكثر من اللزوم، أنا فقط فضولي أريد أن أعرف كيف يعمل هذا الجهاز المدهش؟ أجاب أسامة:
إذا كان الأمر كذلك، فسوف أشرح لك: يحتوي هذا الجهاز على نظام تبريد وتبخير داخلي، وما على الشخص الذي يستخدمه إلا أن يملأه بكمية قليلة من الماء ومن ثم يضغط على زر التشغيل، وعندئذ سيقوم محرك صغير بالتعامل مع الماء محدثاً تبريداً رائعاً.. هكذا لن أعاني من الحر والعرق كما ستعاني أنت، وسأرافقك كما تريد ولمدة ساعتين أو أكثر، وسنعاين كل كبيرة وصغيرة.. أيرضيك هذا؟
– أجل.. أجل! أجاب صديقه وهو أيضاً صاحب المشروع، ولاحظ السخرية التي ظهرت صارخة في عيون العمال والمراقبين، فقال لأسامة:
– يبدو منظرك كرواد الفضاء، وهو غير مألوف بالنسبة لهؤلاء العمال على الأقل ألا تلاحظ ذلك؟!
واكتفى بهذه الملاحظة عندما رمقه أسامة باستياء واضح.
عندما جاءت شاحنة الخرسانة الجاهزة وبدأ الخلاط يصب المارة الخرسانية الطرية في إحدى زوايا المبنى الشاهق، قفزت سيارة بيك اب فوق الرمل والحص مثيرة الغبار، شغل أسامة جهازه الثاني ووضع كمامة فوق أنفه، لقد شغل جهاز الاستنشاق الشخصي، ولم ينتظر سؤال صديقه بل بادر بالشرح:
– أنا أعاني كما تعرف من الحساسية ولا أتحمل التلوث، والجهاز لا يزعجني إطلاقاً، وزنه لا يزيد عن مئة وعشرين غراماً وهو يعمل ببطارية طاقتها 9 فولت.. دع عمالك يستغربون أكثر ويسخرون أكثر.. فهذا لا يثيرني!!
وشعر صديقه بالتعب والإرهاق وقال له: لنعود للمكتب، أنا مقتنع بوجهة نظرك.. لا .. لا .. أجاب أسامة:
– يجب أن نصعد للطوابق العليا ونتابع بعض المشاكل.. يجب أن أريك أننا نتابع ونقوم بعملنا كاملاً!
– 4 –
بعد حوالي ساعتين وصلا للمكتب، وكاد صديقه أن يسقط من الإعياء، بينما أسامة ينعم براحة وكأنه كان في نزهة..
– هل ما زلت تكره التكنولوجيا والاختراعات وتصر على البساطة؟! سأل صديقه بسخرية واضحة، ولم يجب هذا الأخير فقد كان مشغولاً بشرب كؤوس من الماء البارد.
وفجأة طرأ خاطر مفاجئ على ذهن أسامة، فاتصل بمنزله وطلب الرقم السري وهو 833 وسأل بالبريد الصوتي:
– هل الروبوت ما زال في مكانه.. ارجو التوضيح فوراً! فقد شعر أن شيئاً قد حدث.. وانتظر لحظات بدت له طويلة قبل أن يأتي الجواب عبر الفاكس.. حيث قرأ: “.. شخص ما خرج مع الروبوت ومن باب المنزل، وكان الروبوت يبدو مرتاحاً سعيداً.. الشخص طويل بنظارة طبية أنيقة، يبدو ذكياً.. كان يقود سيارة باص صغيرة فتحها “بالروموت كونترول” ودخل الروبوت من تلقاء نفسه.. الرجل كان يضحك بشماتة واضحة!!”.
انزعج أسامة كثيراً.. وسأله صديقه:
وهل تستطيع أجهزتك الاستدلال على حالة الروبوت أثناء خطفه؟ وهل هي قادرة على دراسة ملامح اللص بمثل هذه الدقة؟ وكيف لاحظت أن يملك باصاً؟ وكيف لاحظت أنه يضحك بشماتة!!… الخ.
أجاب أسامة:
أجل.. إنها مبرمجة بشكل كامل، فهناك كاميرا فيديو تراقب حركات الحاجبين والعينين والفم وتحكم على شعورك من التعبيرات الظاهرة.. وهناك كاميرا فيديو خارجية تصور الأحداث.. وكل هذا يحول إلى لغة مكتوبة مربوطة بالهاتف والفاكس والحاسوب.. هكذا فالأمر بسيط.. ولكنه ليس مسراً كما تلاحظ، فرغم كل التقنيات وكل إجراءات الحماية والرقابة، فقد استطاع هذا اللص الذكي “سرقة الروبوت” وبموافقته دون اعتراض!!
وتساءل أسامة بصوت خفيض وكأنه يحادث ذاته:
إنها المحاولة الثانية، لقد حاول بالأمس ليلاً وفشل.. ولكن ما الشيء الذي فعله وجعل الروبوت يقتنع بأن اللص صديق ودود وجعله يخرج معه دون اعتراض؟!
ودع صديقه وقد شعر بالاكتئاب والفشل بعد أن كان في أوج ثقته بالنفس، وعندما وصل منزله مستعجلاً وجد ورقة مطبوع عليها:
أنت لست ذكياً بما فيه الكفاية، لقد تلاعبت بروبوتك وأدخلت فيه مشاعر إنسانية جديدة، ولقد استفدت من نقطة الضعف هذه فقلت له: “هناك فتاة جميلة تود رؤيتك والتعرف عليك!” فما كان منه إلا أن تحرك باتجاهي مبتسماً.. كذلك فقد أدخلت لتركيبته العصبية شعوراً بالكره تجاهك، فاحذر أن تبحث عنه فربما يضربك ويؤذيك.. فلا تحاول يا عزيزي استعادته!! وأنصحك بالبدء بصناعة “روبوت جديد”.
إلى اللقاء!!
–       انتهى –

شامخ
– 1 –
تم تسريع الأحداث حاسوبياً، هكذا عرفت مصائر الناس وتواريخ الأحداث، هناك في المركز السري للأبحاث، اطلع رئيس العلماء على كل ما يجري وسيجري بناء على معطيات دقيقة، وبيانات واضحة، وبعث ببرقيات إلى مجلس الأمن الدولي، وأفادهم بما سيحدث خلال المئة عام القادمة وبدقة كبيرة وحيود لا يتجاوز العشرة بالمئة، فأصيب عدد كبيرة منهم بالإحباط، وقرر بعضهم التنحي بعد أن عرفوا مصائرهم ومصائر قومهم وبلادهم.. بينما قرر آخرون الاستمرار في مناصبهم مع مزيد من الملل الناتج عن معرفة القدر.
فقدت الاتصالات الشخصية مغزاها، فالكل يشاهد الكل الكترونياً، واختفت الخصوصية، فالانترنت قادرة على معرفة أحاسيسك عندما تكتب رسالتك وهي ترسل أحاسيسك مشفرة للمرسل إذا اراد.. فلا مجال للخديعة، هكذا قلت مجالات استخدام الذكاء البشري، وضعف التواصل الإنساني.
– 2 –
ندم سكان البلد “الفلاني” عندما طبقوا أنظمة التماثل البيولوجي، فالنساء كلهن شقراوات أو حنطيات جميلات وطويلات وفاتنات، والرجال كلهم وسيمون، طوال، عراض المنكبين، أذكياء، لماحون.. وعلامات التلاميذ في المدارس كلها مرتفعة متميزة، والكل يمارس الإبداع والاختراع، ولا أحد يعاني من مشاكل مالية أو اجتماعية، والناس يمارسون حياتهم بحرية وسعادة، والصحة تتجلى في الوجوه والسحنات، فقد اختفت معظم الأمراض، وارتفع مستوى الأعمار إلى تسعين عاماً، واختفت أمراض الشيخوخة.. وأصبح هناك نواد خاصة للشيوخ يمارسون فيها حياتهم وهواياتهم، وارتفعت سن التقاعد إلى سبعين عاماً وأحياناً إلى ثمانين عاماً، ومعظم الشركات تسعى للاستفادة من خبرات الشيوخ ومهاراتهم المتراكمة عبر السنين.. اجتمع مجلس الوزراء، وقرر فجأة فتح باب الهجرة لبعض سكان العالم الثالث ضمن نسبة محددة تزداد سنة بعد سنة، فقد شعر السكان بالملل الشديد من التماثل والتطابق، وقرروا أن نسبة محددة من المشاكل تزيد من عنصر الإثارة وتشعر السكان بالتميز وتجعلهم يقدرون المنجزات، فمن شأن هذا التفاوت أن يخلق نمطاً تنافسياً يزيد من متعة الحياة.
– 3 –
توقد الذكاء الإلكتروني، فإذا أردت أدباً رفيعاً فما عليك إلا أن تكبس على زر في الانترنت، فتفاجئ بالخيارات: أدب تاريخي – أدب كلاسيكي – أدب تقليدي – أدب خيال علمي – أدب بوليسي – أدب إباحي.. كل شيء كما تريد، وإن أردت صور أو رسومات تعزز من تأثير الحالة القصصية، فعليك أن تكبس على زر آخر فتظهر صورة أو رسمة معبرة.. ونمت أنواع متعددة من الذكاء الصناعي القادرة دوماً على الإبداع، فتراجع الإبداع الذاتي الشخصي للأدباء والفنانين، وانزوى إلى الظل والنسيان، واختفت الجوائز الأدبية المحفزة.. وسخر الحاسوب فجأة من الجميع، فأصدر ضحكة الكترونية هائلة، ذات صوت معدني رنان: ها ها ها ها … هههههههها ها!!
اختفى الفنانون كذلك، فأصبح بإمكان أي شخص يفتقد لموهبة الرسم والإبداع أن يدخل على برنامج الفنون ويكبس زراً ويرسم أي لوحة يريدها بعد أن يضع المواصفات التي يريدها.. فتظهر لوحة تعبر عن فن كلاسيكي أو تعبيري.. أو تشكيلي.. أو تكعيبي.. سريالي.. حتى النحت لم ينجو من طغيان الآلة الذكية، فهناك أجهزة روبوتية تعطيها جبلة الطين فتشكلها كما تريد أنت، مصدرة أشكال نحتية فائقة الدقة والجمال والغرابة وحسبما تريد، فقط بكبسة زر!
– 4 –
عبث الطفل الجميل “شامخ” بالجهاز السري الجديد، حيث دخل خلسة للغرفة السرية، وما هي إلا لحظات فإذا به يختفي بعد أن انبثقت أشعة خاطفة أضاءت الغرفة، وبحث عنه والداه طويلاً دون جدوى، وأخيراً تبين لوالده العالم المرموق أن ابنه قد أصبح ضحية اكتشافه السري، فالجهاز قادر على تحليل جزيئات الجسم البشري وتفتيتها إلى أصغر المكونات ثم تجميعها في مكان آخر. واكتشف العالم ملابس الطفل الجميل ملقاة في مكان الاختفاء، وكانت عبارة عن شورت أحمر وقميص أحمر يشبه قمصان البحارة بكمة محفورة وياقة بيضاء أنيقة، وفسر ذلك على أنه “الانتقال الخماسي”.. وكان هم العالم الكبير يتركز في معرفة شيئين:
– مكان انتقال طفلة شامخ
– التأكد من استمرار الاتصال أثناء الانتقال، فانقطاع الاتصال ولو لثواني معناه تعرض الطفل للجروح الخطيرة، أو ضياع جزء هام من جسمه!
– 5 –
في منطقة جبلية نائية في البيرو، وعند الغروب، ومع لمعان برق خاطف في السماء، لاحظ المزارع الطيب ظهور طفل جميل عاري، وأصابه الذهول، وبدا الطفل كملاك سماوي من ملائكة الجنة، أو كهدية من السماء، ولم يصدق ما شاهده، فارتعب أول الأمر، ثم تبين له أن الموضوع حقيقي، فالطفل يبكي بفزع ظاهر، فالتقطه بحنان بالغ، وذهب به لزوجته.. فألبسته ملابس دافئة واسقته حليباً وهدأت من روعه.. “يا لكرم السماء.. لقد تمنيت أن أرزق بطفل طوال حياتي.. وكنت أصلي دائماً لتحقيق هذا الهدف.. وها هي السماء المباركة تمنحني طفلاً جميلاً كالملاك” وبكت زوجته من التأثر.. فالطفل جميل.. حنطي البشرة.. مشرق الوجه.. عذب الابتسامة.. يتمتع بعينين سوداويين ذكيتين.. وهو مرح كذلك.. يرقص عند سماعه الأنغام.. عاطفي.. وبدأ يزحف في أرجاء المنزل الريفي ويعبث في الأشياء.. ويبدو أنه في بداية حبوه وربما يزيد عمره عن العام قليلاً.. لم تصدق الزوجة هذه المنحة الربانية وعزتها لطيبتها وطيبة زوجها ولكثرة الصلاة والدعاء، وما أمتعها أكثر في هذا الطفل الجميل قوة شخصيته فهو عندما يريد شيئاً ما يحرك يده باتجاهه ويتحدث بلغة طفولية فيها تصميم نانا نانا نانا حيث لا يستطيع أحد أن يتجاهل طلبه!
– 6 –
بعد جهود مضنية تدخل فيها البوليس الدولي (الانتربول) تمكن الأب العالم من معرفة مكان اختفاء ابنه، فذهب بنفسه إلى المزرعة الريفية النائية في البيرو، وعرف بنفسه مع وجود مترجم محلي، فرفض الزوجان بطريق “قصة الاختفاء” وأكدا أن الطفل هو ابنهما بالرغم من معرفة الطفل لأبيه واحتضانه له باسترخاء حيث بدا بالمسحور وهو يمص سبابة يده اليُسرى وينظر بسعادة غامرة، ثم اعترفا فيما بعد بأنه هبة السماء لهما، ولم يصدقا قصة “الانتقال الشعاعي” إلا عندما قام العالم بإرسال اللعبة المفضلة للطفل وهي عبارة عن “دب أبيض كبير” لنفس المكان.. وانبهرا عندما صرخ الطفل بفرح عندما شاهد لعبته المفضلة.. “نانا نانا..” وهجم عليها محتضناً إياها بغبطة طفولية ولاحظ العالم التأثر الشديد على زوجة المزارع، فتحدث مع زوجته وأخبرها برغبته في استئجار منزل ريفي لهما في المكان النائي على جبال البيرو وبجانب بيت المزارع البسيط.
– 7 –
هكذا تعرفت زوجة العالم على زوجة المزارع، وقرر العالم وزوجته أن يقضياً شهراً من كل عام في هذه المنطقة وبصحبة المزارع البسيط وزوجته، واصطحبا شافع في زيارتهما السنوية، وأسعد هذا الحل الجميع.. وأصبح المزارع يتفاءل عند مشاهدته لوميض البرق عند الغروب، فهذا الوميض منحه وزوجته ذات يوم سعادة لا تقدر بثمن، وكذلك استفاد العالم من هذه التجربة فقد تذوق طعم البساطة والسعادة وتخلص ولو لشهر واحد من ذكاء الأجهزة وتماثل المخلوقات، وأبقى مكان تواجده سراً فهو لا يريد أن يزعجه أحد في عزلته الجميلة.. وسعادته كانت تتضاعف عندما يسمع “شامخ” وهو يلاعب حيوانات المزرعة “نانا نانا”!

” راكانا و ماكانا ”
– 1 –
أعلنت دولة ماكانا العظمى الحرب على دولة راكانا الصغرى، وأمر رئيس ماكانا جزالاته باستخدام أحدث الأسلحة في ترسانتهم الحربية بغرض تركيع دولة راكانا، وجمعهم في اجتماع طارئ قائلاً:
– لا مجال لإطالة هذه الحرب، فالرأي العام يتحالف ضدنا، وهناك نقد كبير موجه نحونا، فنحن قوة كبيرة وهم قوة صغيرة، هم يملكون الإرادة والشجاعة والرغبة في الحرية والاستقلال ونحن نملك القوة الطاغية والجبروت والرغبة في الهيمنة والاستبداد. لا أريد أن أحول اجتماعي معكم إلى محاضرة سياسية مملة.. أنت أذكياء بما فيه الكفاية حتى تلاحظوا أن العالم يتعاطف مع الضعفاء.. لذا علينا أن ننتهي من هذه الحرب في ثلاثة أشهر فقط كحد أقصى.. استخدموا كل أسلحتكم ومهاراتكم التقنية.. وأبعدوا الصحافة والإعلام.. انقلوا أخباراً عادية من اشتباكات يومية بسيطة دفاعاً عن النفس، فيما تقومون في حقيقة الأمر بتدمير البنية التحتية العسكرية والمدنية لهذه الدولة المتمردة.. لا تسمحوا بتصوير الدمار والموت.. ولاحظ التململ والاستياء على وجه قائد الأركان، فأشار له بأن يعبر عن رأيه:
– ولكن سيدي الرئيس، الأمر ليس منوطاً بنا وحدنا، فنحن نعيش في عالم متعدد الأهواء، فكيف نمنع التغطية الصحفية الأجنبية؟ كيف نمنع خصمنا من استضافته للصحفيين الأجانب؟ كيف نمنع تجوالهم بحرية هنا وهناك؟ أجاب الرئيس مخالفاً:
– كلا.. ستقومون بما هو مطلوب منكم وسوف تنتهون من هذه الحرب المملة التي طالت أكثر من اللازم.. سنزودكم بفرقة كوماندو خاصة.. لا أريد دراما ودموع وتباكي.. استخدموا كل ما في حوزتكم نا بالم.. قنابل انشطارية.. قنابل اختراقية.. قنابل يورانيوم منشطر.. أطعموهم بلوتونيوم بدلاً من الخبز.. واستمر متبجحاً.. حتى قاطعه جنرال آخر:
– سيدي.. كل هذا رائع.. نخوض حرباً مدروسة بعناية.. حرباً تلفزيونية متطورة.. نوجه قنابلنا للأهداف الأرضية ونصور الأهداف مدمرة وتعاد الكرة.. ويفرح مواطنينا من مهارة طيارينا وتقنيتنا المتطورة.. ولكن كيف سنقضي على القيادة؟؟ قاطعه الرئيس مبتسماً بخبث:
– اترك الأمر لي ولوزارة الدفاع والمخابرات.. افعل ما تؤمر به واترك الباقي علينا.
– 2 –
في مختبر أبحاث الأسلحة السرية المطل على المحيط الهادي، ساد سكوت غريب في ذلك المساء، حيث بدا وكأن تجربة خطيرة ستتم في ذلك المساء الربيعي.. حيث وقف جنود ضخام غامضون في صف مكون من مئة شخص.. وبدأ كل منهم يدخل بانضباط لقاعة ضخمة تشبه غرفة العمليات في مستشفى كبير.. وبدا وكأنه يتم اقتياده بشكل آلي.. يسير كل واحد لوسط القاعة.. ثم يجلس على كرسي خاص.. فيما يقوم ضابط في غرفة التحكم المنفصلة بالضغط على زر خاص، فيهبط فجأة من السقف جهاز ليزري متطور.. ويتوجه الجهاز لرأس الجندي ثم تبدأ أشعة مركزة صادرة عن الجهاز بقرص طاسة الرأس بشكل دائري.. بعد ذلك تدخل يد ميكانيكية آلية أخرى وتزرع في جزء محدد من الدماغ قرص معدني صغير.. ثم يُعاد لحام طاسة الرأس.. وتنتهي العملية في لحظات.. يقوم بعدها الجندي ويسير بخطى عسكرية خارجاً إلى قاعة أخرى.. وهكذا دواليك.. وهناك يُسلم نظارة خاصة تشبه نظارة “اللحامين”.. وينتقل إلى موقع آخر حيث يتسلم البازوكا.. وبعد أن تم تجميع الجنود جرى نقلهم لموقع مجهول بواسطة طائرات الهيليوكبتر..
– 3 –
في غرفة الاجتماعات، دار الحديث التالي بين قائد مركز الأبحاث البروفسور ديمنغ وبين الجنرال شواكوف مدير مشروع “كمبناس”
– لا داعي لأن أعيد وأكرر بأن الموضوع غاية في السرية، ولا أحد يعلم به سوى خمسة أشخاص فقط، ثلاثة يعلمون التفاصيل كاملة، واثنان من العلماء لا يعرفان إلا الجانب البيولوجي – التقني.. المقصود هنا المحافظة على السرية والكتمان وإلا فشل المشروع بطريقة ما. فأجاب ديمنغ:
– هل تعتقد أن أحداً لن ينتبه لحركة الجنود الآليين وطريقة مشيهم؟! فقاطعه شواكوف:
– أجل سيدي.. لقد وظفنا “تيوساً مطيعة”، واخترناهم بشكل خاص، أناس تعرف كيف تطيع الأوامر وتنفذ التعليمات.. أناس غير فضولية إطلاقاً وأخضعناهم لتجارب قاسية، ولن أقول أكثر من هذا…
وشعر دينغ بالملل من فوقية الجنرال، فاستعجل إنهاء الحديث قائلاً:
– آذن ما المطلوب بالتحديد؟ فأجاب الجنرال وبشكل تقريري وكأنه يقرأ:
– المطلوب تحديداً هو ما يلي:
* أن لا يعرف أحداً ماهية هؤلاء الجنود.
* أن لا يعرف أحداً إلى أين يتجهون؟
* وهذا هو الأخطر: أن تفكر منذ الآن سيدي العالم العبقري بالطريقة الأنسب للتخلص من هؤلاء الجنود الأشداء المخلصين بعد إتمام مهمتهم بنجاح.. فهم خطر كبير علينا وعلى وجودنا.. انهم كالقنبلة الموقوتة.. وعليك أن تفكر بأنجح الطرق للتخلص منهم.. ويفضل وجود أكثر من سيناريو حتى نضمن نجاح ذلك ونحتاط للمفاجآت.. فلا مجال للمخاطرة! فاستاء د. ديمنغ من أسلوب التلقين وفجاجة الطرح، فقال في سره:
– هذا غبي مغرور يشعر بتفوقه ويصدر الأوامر ولا يريد نقاشاً!! سأكتفي بأن أنظر إليه بقرف وأخترقه بعيوني.. وهكذا فعل، ولكن الأخير تجاهل نظراته، وعاد ليؤكد ما سبق وقاله:
– معك وجماعتك مهلة شهر للتفكير فيما قلته لك، لوضع السيناريوهات العملية، والوقت يمر بسرعة كما تعلم..
وقام مغادراً المركز بسيارة مرسيدس فاخرة.

– 4 –
في مدينة “واتاكسي” ذهبت صحفية حسناء تدعى هبة للبحث عن عالم معتوه يدعى البرفسور “كريسانس”، يعيش منعزلاً منذ سنوات. واستطاعت بعد جهد مضني أن تعثر على منزله، وقرعت الباب وفوجئت من سرعة التجاوب، فقد شاهدت شخصاً طويلاً أشقر الشعر عريض المنكبين لا تبدو عليه علامات العته أو الجنون.
–         بماذا أستطيع أن أخدمك يا سيدتي؟ أجاب
–         أريد أن أقابل البرفسور كريسانس إن كان ذلك ممكناً أجاب
–   نعم، تفضلي سيدتي .. فأنت تتحدثين اليه وتأملته مستغربة، فهو يبدو مطابقاً للصورة الفوتوغرافية التي بحوزتها، ولكنه بالمقابل يبدو شخصاً متوازناً وماكراً بل وربما مجرماً واستمر
–   ماذا تريدين؟ فأصابتها قشعريرة خوف وهي تسمع صوت أنين مكتوم بدا صادراً من الغرفة الداخلية المجاورة.. واستمر بالحديث:
–   تعلمين يا سيدتي أنني قد تخليت عن كافة أبحاثي لوزارة الدفاع وقبضت الثمن، ومنذ ذلك الحين وأنا أعيش وحيداً في عزلة اختيارية، ولا أعلم ماذا تريدين مني، ولمعلوماتك فقد نسيت أبحاثي.. فأجابت هبة وقد وجهت له نظرات جميلة مليئة بالشك ولكنها آسرة، وربما قصدت ذلك:
–   وهل يعقل هذا.. كيف يدعي عالم مرموق أنه قد نسي أبحاثه ودراساته؛ ربما تناسيتها بقصد! وحتى تهدأ من شكوكه تابعت بدون تردد:
–   لا أريد سوى صورة لك والإجابة على سؤال أو سؤالين، وإذا أردت سأحتفظ بسرية المقابلة ولن أصرح لأحد بشيء عنها فأجابها
–   لا تكوني سخيفة، فأنت تعرفين أني لا أحتاج لنقود منك، كما أنك ذكية بما فيه الكفاية لكي تعلمي بأنهم سيقتلوني فوراً لو علموا بمكاني؛ فأجابته:
–   ستخدمني سيدي لأن الأمر شخصي وانساني يتعلق ببحثي عن أبي كذلك ستخدمني سيدي لأنك ارتحت لي.. لأني سحرتك بفتنتي.. لأني غزوت روحك.. لأني منحتك وصالاً بشرياً كنت في أمس الحاجة له.. لأنني سأذكر معروفك ما حييت.. لأنك تتمتع بأصالة نادرة.. وبادرها..
–   كفى.. كفى.. لك ما تريدين.. صورتين أو أكثر.. فصورته وهو سارح يفكر ثم صورته وهو يتحدث محركاً يديه بشكل معبر، ثم سمعت للمرة الثانية صوت أنين مخنوق.. صوت يعبر عن معاناة وكبت وبؤس.. فتجاهلت هذه الأصوات، وتوجهت اليه بحواسها.. فقال:
– 5 –
سار كل شيء حسب المخطط المعد، وبعد مضي شهرين من القصف “السجادي” المركز للبنى التحتية لدولة راكانا، شعرت قيادة ماكانا بأن الوقت قد حان لتنفيذ الجزء الثالث من الحرب المدمرة، فأوعزت للجنرال شواكوف للمباشرة بحملته السرية، هكذا وفي منتصف ليلة حالكة الظلام، وبعد الساعة الأولى من يوم 15/2003 قامت عشر طائرات “آباشي” مزودة بالرؤيا الليلية بإنزال مئة جندي آلي بالقرب من قصور ومراكز القيادة والتوجيه في دولة راكانا، وقد تم إدخال صور تلفزيونية لكافة القادة السياسيين والعسكريين في ذاكرة الجنود “المحوسبة” وكان الأمر واضحاً: اقتلوهم.. اقتلوهم.. ثم اقتلوهم!! اقتلوهم ثلاث مرات، حتى تتأكدوا من إنجازكم لمهمة القتل، والرجاء أن تقتلوهم بشكل عادي بعيد عن مظاهر “العنف اللاإنساني”.. ويفضل أن يتم القتل بتوجيه رصاصة أو رصاصتين للرأس مع رصاصة أو رصاصتين للقلب.. وذلك للتأكد.. نريد قتلاً “نظيفاً” إنساني الطابع لا يتعارض مع اتفاقيات جنيف وحقوق الإنسان.. لا نريد أسرى!..
دار الحوار التالي داخل الطائرة آباشي:
– مهمتك صعبة جداً.. أنت وزملائك التسعة.. تبحث عن زعيم راكانا أنت وزملائك وتقتله.. وحتى نضمن نجاح مهمتك، فعليك أن تقتل أي شخص يشبهه. ستواجهون مقاومة باسلة.. ولكن عليكم الاستمرار بإنجاز ما هو مطلوب منكم.. مهمتكم صعبة.. لذا يسمح لكم بتكسير الجمجمة.. حطموا العمود الفقري.. أحرقوا.. أبيدوا.. هذا الشخص هو الهدف الأسمى لمهمتنا وإذا فشلتم في اغتياله فقد فشلت المهمة؟! هل تدرك ذلك؟
فأجاب القائد الآلي.. المفتول العضلات… الذي تبدو القسوة والشراسة واضحة في معالم وجهه.. أجاب بصوت آلي:
– أجل.. اعلم.. اعرف المطلوب جيداً ثم استطرد ولكن ما مكافأتي؟! فاستغرب كابتن الطائرة من هذا السؤال الغير متوقع، فأجاب بمكر:
–         أجل.. سوف نكافئك بالتأكيد.. هل تعتقد أن أحداً سيتجاهل مثل هذا الإنجاز؟!
– اسمعي ما سأقوله لك: لقد قمت بتطوير نموذج لكائن بيولوجي جديد مركب من مزيج إنساني ومكونات حاسوبية في آن واحد، بمعنى أنه يمكننا الاستفادة من كافة خصائصه البيولوجية بما فيها مرونة عضلاته وقوتها ثم نضيف عليها خصائص حاسوبية موجهة تجعله أقوى بخمس مرات من الإنسان القوي العادي، بمعنى أننا نحسن من خصائص الرؤيا والتفكير والاستجابة الحركية.. كما أننا نستطيع توجيهها كما نريد بواسطة قطعة حاسوبية صغيرة نزرعها في دماغه بواسطة عملية جراحية بسيطة ودقيقة في آن واحد، القطعة نسميها “ماتريكس”، وماتريكس هذه تصبح دماغه الجديد الذي نستطيع بواسطتها التحكم في كافة انفعالاته وردود أفعاله كما أننا نستطيع توجيهه كما نريد.. اسمعي سيدتي الفاتنة لقد صنعت إنساناً واحداً فقط، وطلب مني الاختفاء والعزلة.. ثم أكمل صديقي البرفسور ديمنغ المهمة من بعدي.. هل تريدين شيئاً آخر؟ أجابت:
– نعم.. بما أنك كنت كريم وواضح معي، فأرجو أن تفيدني وتبوح لي بما أريد أن أعرفه.. فقد علمت أنك اخترت أشخاصاً موتى أو قتلى من جثث حرب “نام نام”.. وكانت أول جثة حولتها لإنسان آلي.. هي جثة شخص اسمه سليم، وأنا يا سيدي الفاضل مهتمة جداً بمصير سليم هذا.. لأنه.. والدي.. أجل والدي فنحن أنا ووالدتي المسكينة لم نستلم جثته، وبلغنا أنه اختفى وربما قتل في ظروف الحرب.. وتأكدت فيما بعد بأنه قد تم تحويله إلى “إنسان آلي” وتأثر ثم استفسر مندهشاً:
– وكيف تأكدت من هذا.. هل لي أن أعلم؟
– لأنه  اتصل بي بعد سنوات وبواسطة البريد الإلكتروني، وأخبرني بتفاصيل ما حدت له.
وحادث نفسه قائلاً:
– لا يمكن هذا!… ثم أجاب:
– سأصارحك.. سليم هذا والدك هو الشخص الوحيد الذي اتفقنا أنا وديمنغ على المحافظة على الجانب العاطفي والإنساني في شخصيته، لقد أردنا في البداية أن نبني شخصية مزدوجة، حتى نتبصر ردود الأفعال ونحافظ على حس الضمير البشري، فنحن نعرف أن هذا الشخص هو الوحيد القادر على قيادة الآليين في حالة اندفاعهم المجنون نحو القتل والتدمير!! لا تخبري أحداً.. فلو علموا بما فعلنا لأقدموا ربما على قتل ديمنغ وتدمير سليم.. وربما.. وأحس بالشرك الذي نصبته الصحفية الحسناء.. إن سليم هذا قادر على أن يقود الآليين.. فهو الوحيد الذي يملك حرية الاختيار.. بينما يتحرك الآخرون بلا إرادة ولا روح.. مجرد وحوش آدمية المظهر آلية العنف بالغة القسوة والغباء.. لا يستطيع أحد أن ينجو منها إذا ما قررت الفتك به!
ولم تتمالك هبة نفسها فانفجرت غاضبة:
– ها أنت تعترف بجريمتك يا “كريسانس”، فأين كان ضميرك الذي ظهر الآن فجأة؟.. وكم قبضت مقابل عبثك بجثث أبطال حرب “نام نام” أم أنها كانت حرب قذرة على أي حال، ولم تحترموا أحداً فيها حتى أبطالها؟!
وشعرت هبة فجأة أن هذا الشخص الماثل أمامها. شخص مزيف، واستدركت فجأة أنه ربما الشقيق التوأم “لكريسانس”، وأنه ربما يقوم بدور عجز شقيقه عن إتمامه، إنه يقوم بدور “الضمير”، فكريسانس الحقيقي ذهب إلى ظلام الجنون وعبثه بلا رجعة لأنه لم يجد مبررات كافية لإقناع ضميره الحي، هكذا تقمص شقيقه التوأم دور الضمير، حتى تُغسل الخطايا وتستقر الروح البائسة!
وغادرت والدموع تترقرق في مآقيها، لقد تأثرت بمأساة “كريسانس”، وشعرت بقوة الضمير البشري.. ولم تستطع إخفاء إعجابها بالمشهد الإنساني الماثل أمامها: فقد تحولت الشخصيتان إلى كيان واحد متكامل.
– 6 –
تمت المهمة كما يجب، وانتصرت دولة ماكانا العظمى على دولة راكانا الصغرى، وسحقت قيادتها ودعست على كبرياءها، ونشرت الأخبار المتلفزة خبر اغتيال زعيم راكانا بل وتم بث صورة له وهو مقتول.. وذلك بغرف تحطيم معنويات جيوب المقاومة المتناثرة.. كما تم بث صور دراماتيكية لنوابه ومساعديه وقادة أركانه وهم ملقون أرضاً والدماء تنزف منهم!
– 7 –
ظهر زعيم دولة ماكانا على القناة التلفزيونية العالمية والابتسامة تعلو محياه الأنيق، وقال بصوت خفيض واثق:
أيها الشعب العظيم.. شعب “ماكانا”.. لقد انتصرت قواتكم أخيراً على راكانا.. لقد انتصرت الحرية الديمقراطية على الدكتاتورية. وانتصر السلام على العدوان.. الآن فقط سنضمن المستقبل للأبد.. وسنعيش بثقة.. الآن نستطيع أن نضمن حقوق الإنسان في دولة راكانا.. ولكني احذر القادة الجدد لدولة راكانا بأننا لن نرفع الحصار عن دولتهم إلا إذا ضمنا توجهاتهم تجاهنا وتجاه العالم وتجاه شعبهم المسكين الذي عانى من الطغيان والاضطهاد.. وكم كنت أتمنى أن تسقط على رؤوسهم الهدايا والأطعمة والعلاجات بدلاً من أنواع القنابل المدمرة.. ولكن يجب أن يتأكدوا من تعاطفنا الإنساني معهم، فالصراع هو مع قادتهم العنيدين المتسلطين وليس معهم.. وربما ستسمح لنا الظروف في الأيام القادمة أن نعوض صبرهم ومعاناتهم وتحل عليهم النعمة والرخاء بدلاً من القتل والتدمير والمعاناة.. والأمر بيد قادتهم الجدد.. فإن ساروا كما أردنا لهم أن يسيروا وإن التزموا بسلام الشجعان وباعونا الطاقة بأسعار رخيصة وتخلوا عن عنادهم وإرهابهم فسوف تحل مشاكلهم ومشاكل شعبهم وإلا فسنعود ونمطرهم بوابل من أسلحتنا الجديدة وإن كنا نفضل الانتظار لسنتين أو ثلاثة، فأنا لا أخفي عليكم شعبنا الحبيب شعب ماكانا العظيم.. فنحن بصدد إنتاج أنواع جديدة من الأسلحة وسيكون الأمر مجدياً بعد سنتين أو ثلاثة ولا مغزى من تجربتها الآن لأنها ما زالت بطور “الإنتاج التجريبي”.. آذن لندع حكام راكانا الجدد يستفيدون من الدرس القاسي الذي لقيناه لهم.. ولندع أول العالم الأخرى تأخذ حذرها.. ولنقول لهم بوضوح.. لن نساعدكم اقتصادياً ولن نفك الحصار عن بلدكم إلا إذا ضمنا سلامة توجهاتكم الجديدة!!
وعاد يبتسم بثقة وهدوء وأنهى خطابه:
لتنتصر إرادة الرب ولتسود ماكانا.. فالألفية الثالثة لنا ولن تكون لأحد غيرنا.. لتشرق شمس الحرية على العالم.. ولتنتصر الديمقراطية.. عاشت ماكانا!
– 8 –
تم تدمير 3 طائرات آباشي، وفقد خمسين جندياً آلياً في المعارك الطاحنة التي دارت في مراكز القيادة والتوجيه في محيط عاصمة دولة راكانا، ويبدو أنهم قتلوا بوسائل غير تقليدية أو اختفوا بشكل غامض لأنه لم يعثر لهم على أثر، وعادت طائرات الآباشي محملة بخمسين جندياً فقط، وفوجئ الجنرال شواكوف بوجود ثلاثة رؤوس مقطوعة لزعيم دولة راكانا، قام الجنود الآليون بجلبها معهم كدليل على قتلهم للزعيم. وخاطب شواكوف القائد الآلي المكلف بتنفيذ المهمة:
– كيف عرفت أولاً بأن الجثة المصورة للزعيم المقتول هي الأصل وأن هؤلاء هم مجرد أشباه له؟
فأجاب ببساطة:
– سيدي، لم نعطي الزعيم أي مجال للهرب، فقتلناه بقسوة وهو يهم بالهرب من مكتبة في القصر الرئاسي، وتأكدنا تماماً من موته ثم صورناه كما طلبتم، ثم فوجئنا بوجود هؤلاء “الشبهاء” في مقر آخر وفي مركزي قيادة، وقتلناهم بلا رحمة بالرغم من ادعاءهم بأنهم مجرد “بدلاء مساكين” حيث لم نعر توسلاتهم أي اهتمام.. هكذا تأكدنا سيدي!!
– يا “للذكاء الحاسوبي” الخارق! صرخ بصوت أشبه بالزعيق وأضاف:
– وكيف لنا أن نتأكد نحن المهتمين بالموضوع من أن ذاك المقتول في الصورة هو الزعيم المقصود وبأن هؤلاء المقطوعي الرؤوس هم البدلاء؟ ثم كيف سنضمن عدم وجود “شبهاء” آخرين للزعيم؟ ثم كيف سأتأكد أنا شخصياً من عدم وجود الزعيم حياً يرزق في مكان سري ما؟! أجاب القائد الآلي وبطريقة بديهية:
– لو كان موجوداً لقتلناه.. نحن لا نعرف الرحمة.. كما أننا لا نعرف الكذب.. فهذه السلعة سلعتكم أنتم.. ونحن لا نخاف منك.. وإذا كان الزعيم الذي ترغبون بقتله مختفياً في مكان سري.. فهذه ليست مشكلتنا، للبحث عن الزعيم في محيط بعيد عن العاصمة.. فهذه مشكلتك أنت ومدير المركز ديمنغ.. الأمر ببساطة توزيع أدوار.. فالمطلوب أن يقوم كل شخص بعمل ما هو مطلوب منه.. أما أسلوبكم الآدمي الذي يعتمد على التهرب من المسؤولية ولوم الآخرين.. فهذا شيء لا نتقنه نحن الآليين.. فأرجو أن تحدثني بالمنطق وبدون عصبية وزعيق!! وسكت الجنرال شواكوف وهو يغلي من الغضب والاستياء!
– 9 –
استطاعت الصحفية هبة أن تدخل متخفية لمركز الأبحاث بحثاً عن أبيها سليم، وعندما نزل الجنود الآليون من طائراتهم عائدين للمركز، استطاعت أن تُميز أباها.. وتم توجيههم لغرفة خاصة بغرض الاستراحة، وشعرت هبة بأن هناك مكيدة ما تدبر لهم، فالآليون لا يحتاجون للاستراحة! وانتظرت بهدوء وتيقظ.. وكان من حسن حظها أن ترتيبه كان الأخير في الصف الداخل.. فصرخت.. بابا.. بابا.. اهرب فهرب بأقصى سرعته مع ابنته، ولاحقه جنديان آليان وأطلقوا عليهما قذائف خاصة تسمى “بقذائف التبخير” فهي قادرة عن طريق الانبعاث الحراري العالي أن تبخر الجسم الصلب فوراً.. فهذه كما يبدو إحدى وسائل القضاء على الجنود الآليين.. هكذا نجى سليم مع ابنته من المصير المحتوم الذي كان ينتظره على أي حال، وهرب مع ابنته في سيارة صغيرة، أزالت هبة نمرتها حتى يصعب تمييزها.. ثم سلكت طرقاً جانبية، وتوقفت فجأة على جانب رصيف مكتظ بالسيارات زيادة في التمويه.. هكذا نجحت خطة الهرب.

– 10 –
بعد أن أدخل الجنود الآليين للقاعة، طلب منهم الجلوس على كراسي خاصة، ثم أُغلقت القاعة بأحكام شديدة، وبدأ غاز النيتروجين المبرد ينتشر بسرعة كبيرة في قاعة الإعدام، وسربت مع الغاز البارد جزيئات مادة كيماوية قاتلة وزيادة في الفتك، فقد نشرت رذاذات خاصة سائل حامض الفلورودريك القادر على إذابة الأجسام العضوية.. وسادت فوضى رهيبة وهلع شديد بين الجنود، وصاح أحدهم: آذن، فهذه هي مكافأتنا!.. وهجموا بأقصى قوتهم، بقصد تدمير المكان والهرب بأنفسهم، ولكن الوقت كان متأخراً، والخطة كانت محكمة التنفيذ.. فاندفاع الغازات القاتلة كان سريعاً وانهمر عليهم الرذاذ الحمضي الفتاك كالمطر.. ولم تكن هناك فرصة للنجاة.. فالموت يحيط بهم من كل الاتجاهات.. وآلية الفناء مدروسة.. فقد كانوا يتجمدون أولاً بفعل الغاز الفائق البرودة ثم تتولى جزيئات المارد الكيماوية باقي المهمة فتقوم بتفجيرهم ذاتياً بفعل تفاعل خاص مع جزيئات أجسامهم العضوية، ثم يقوم سائل حامض الهيدروفلوريدريك بدور الإبادة والفناء فيحول ما تبقى من أجسامهم لغازات خانقة! وكان المنظر رهيباً من خلف الغرفة الزجاجية المطلة على مشهد القتل، فقال شواكوف للعالم ديمنغ معلقاً:
– لا تنزعج كثيراً يا صديقي.. فهم بالأساس موتى.. وقاموا بإنجاز مهمة “نبيلة” بفعل برمجتنا الذكية لأدمغتهم ومحافظتنا على أجسامهم، وها هم يعودون موتى.. فأرجوك لا تنفعل.. ولا تنظر للمشهد بعين عاطفية بل انظر كما أنظر أنا.. بعين باردة الأحاسيس!
وانزعج ديمنغ من تعليق شواكوف، فقال منزعجاً:
– بالفعل، كان الأفضل أن يقوم عالم آخر ببرمجتي، حتى أفقد مشاعري، وأتعامل مع المشهد كما تتعامل معه تماماً مثل البقرة أو الذئب!! فرد شواكوف غاضباً:
– لا تفهمني بطريقة خاطئة.. أرجوك.. لم أقصد إزعاجك، وأرجو أن تراقب ألفاظك!!
– بالفعل لقد قمتم بخطأ فادح عندما تخلصتم من “كريسانيس” وعزلتوه، لو كنت مكانكم لقمت باستغلال واحد ضد الآخر بمعنى استغلاله ضدي أو استغلالي ضده.. أما الآن فالوضع صعب بالنسبة إليكم.. كلانا “مشروع ميت”.. أتريدني أن أقتنع بأن قتلكم المريع لهذه الكائنات وسمها كما تريد عملاً إنسانياً ضرورياً.. وكذلك تريدني أن لا أتاثر إطلاقاً بما أشاهده!
– 11 –
لم تفلح رقاقة “الماتركس” المزروعة في دماغ سليم، وعجزت عن تدمير الجزء العاطفي من دماغه، وبقي نموذجاً نادراً للإنسان والحاسوب، والأمر يعتمد على الإثارة الخارجية، فأحياناً تغلب عليه صفات الآلة وفي أحيان أخرى تغلب على سلوكه سمات عاطفية.. وهذا ما حدث عندما شاهد ابنته الجميلة، فلم يستطع مقاومة رغبته في احتضانها بأبوة متأججة بالعاطفة والمحبة.. وبعد أن تيقن أنها أنقذته من فناء محقق زاد ارتباطه بها وشعر أن حياته مرهونة منذ الآن بوجودها جانبه، وحتى أثناء حياته العادية فقد كانت ابنته الوحيدة، وهي تذكره دائماً بزوجته المتوفاة والتي كان يحبها كثيراً. “لا أريدكك يا هبة أن تدمري حياتك بارتباطك الشديد بي.. اذهبي يا ابنتي وعيشي حياتك، فأنا مشروع رجل ميت.. أنا حالة مؤقتة.. وهم لن يتركوني حراً على أية حال.. اتركيني يا ابنتي.. أعطيني عنوانك ورقم هاتفك واذهبي لعملك وحياتك.. أرجوك.”
– سأقول لك حتى إن تركوني فلن أتركهم بحال سبيلهم، سأقتل شواكوف مهما كلف الأمر.. وإن أردت أن تساعديني.. فقط رتبي لي مؤتمراً صحفياً في قاعة المدينة.. حتى أكشف للملأ أسرار تدميرهم وانتصارهم على دولة راكانا.
قاطعته فجأة وهي تبكي:
– لا يا أبي.. لن أتركك تدمر نفسك.. فهؤلاء أشرار أوغاد لن يتورعوا عن قتلك كما يقتلون الذبابة.. فلا تهدر فرصة وجودك الحالية كما هدرتها في حرب “نام نام” ولم تنل شيئاً مقابل بسالتك.. وحتى بعد انتصاركم الساحق في راكانا عادوا فغدروكم.. وقتلوا رفاقك شر قتلة!! لا يا أبي.. لقد فقدت أمي بالسرطان.. ثم فقدتك في نام نام ولن أقبل أن أعيش بعد الآن وحيدة.. وحتى لو تزوجت فأريدك أن تبقى بجانبي.. أشعر بحسك في الحياة.. لا لن أسمح لك بالاقتراب من هذا الوغد شواكوف.. أو الآخر ديمنغ، فقاطعها قائلاً:
– لا.. لا يا عزيزتي.. إن ديمنغ شخص مختلف.. إنه فقط متورط معهم.. ولا يستطيع الفكاك.. مثل ما حدث للمسكين “كريسانس” الذي انتهى معتوهاً منعزلاً.. اسمعي يا ابنتي.. ديمنغ هذا يملك ضميراً حياً.. أو بقايا ضمير.. وأنا أتعاطف معه تماماً.. ثم إنه الوحيد القادر على إعادتي لحالتي البيولوجية العادية.. لذا فلن اؤذيه.. بل سأسعى لحمايته لأني أعرف ما يخبئون له من مفاجآت غير سارة.. وخاصة هذا الغادر شواكوف!!
– 11 –
– 12 –
في اليوم التالي، نشرت الصحف خبراً يفيد بمقتل العالم الشهير “ديمنغ” وتحت الخبر صورة “سليم وهبة” تحت عنوان “مطلوبان للعدالة” بتهمة قتل العالم الشهير في منزله لأسباب تتعلق بالسرقة!!
– يا للنذالة والإجرام!
صرخ سليم قائلاً:
– ألم أقل لك بأنهم لن يتركوه حياً، كنت أشعر بما سيحدث له! هكذا تخلصوا منه ببساطة وألصقوا التهمة بنا.. يريدون أن ينتهوا من قصة “فرنكشتين”.. أن يبيدوا العالم وصنيعه الذي هو أنا! صدقيني لن أتركهم.. وسأتمادى وأقتل زعيم ماكانا.. وأنا لن أخسر شيئاً يا ابنتي.. الآن فقدت الأمل في العودة للحياة كإنسان عادي.. وأصبحت حياتي مرهونة بالبرنامج المزروع في دماغي..
وعادت هبة تؤكد والدموع تنهمر من عينيها الجميلتين:
– لنهرب يا أبي.. كفانا مصائب.. استحلفك بالله وبحبك الأبوي لي.. اتركهم لعذاب الضمير!
وما أن سمع سليم لفظ الجلالة حتى شعر براحة نفسية نادرة، وبدا وكأنه يغوص في سلام روحاني عميق.. وكادت هبة أن تشعر بأنها قد نجحت أخيراً في إقناعه، وتمنت في أعماقها أن يتخلص أباها من عناده الشديد وتذكرت أمها المرحومة وهي تستحلفه بعدم الالتحاق بحرب نام نام قبل شهر واحد من موتها المأساوي.. ولكنها شعرت بسعادة غامرة عندما سألها فجأة:
– هل لك أن تخبريني عن خطتك.. كيف سنتخفى أولاً ثم كيف سنهرب.. كيف ستتدبرين كل هذا.. إن وجهتنا ستكون بالتأكيد إلى دولة راكانا.. فهناك مهمة تنتظرني.. أنا أعرف تماماً كيف أنتقم من هؤلاء الأوغاد هنا.. شواكوف وأمثاله.. هناك في عاصمة راكانا سأضع خطة بالتعاون مع قادة هذه الدولة الباسلة.. وسنرى من سينتصر في النهاية.. فالغد لنا.. أقصد للشرفاء..
فقاطعته بابتهاج شديد:
– لا عليك يا والدي الحبيب.. اترك كل التفاصيل لي.. أعرف تماماً ما يجب أن أفعل.. وقفزت فرحة واحتضنته، فقال في سره الشعوب لن تقهر يا ماكانا.. الشعوب لن تقهر.. الغد للأحرار
– انتهى –

منزل الأشباح
– 1 –
استقر كاتب “قصص الرعب” في منزل منعزل واسع مكون من ثلاث طوابق، يحتوي كل طابق على خمس غرف، بالإضافة للصالة الضخمة في الطابق الأرضي.. وكانت تحيط بالمنزل الشبيهة بالقصر حديقة واسعة محاطة بجدار مرتفع وله بوابتان حديديتان ضخمتان.. كان الكاتب يريد أن يهيء نفسه لكتابة رواية رعب جديدة بعنوان “مخلوقات كابوسية” طالما ألحت أحداثها على خيالها الخصب، فشخصيات الرواية متعددة وهي تلح عليه أن يخرجها إلى حيز الوجود، وكادت تصبح هاجساً ملحاً.. وكاد أن يضيق ذرعاً بالفكرة كلها ويلغيها من ذهنه، حتى أنه حادت زوجته راغباً بالتخلص من فكرة كتابة هذه الرواية، إلا أن الزوجة وقد سال لعابها عندما علمت بالمبلغ الذي سيدفعه الناشر مقابل رؤية كهذه، ألحت عليه بالسير قدماً في مشروعه. بدأت الحكاية بروايته الأولى التي نجحت نجاحاً باهراً وترجمت لعدة لغات، فقد فوجئ عندما اتصل به ناشره قائلاً:
– لقد حققت روايتك أرباحاً تزيد عن المليون دولار، ولقد بيعت منها أعداد كبيرة في معارض الكتب في لندن وفرانكفورت، ناهيك عن المدن العربية، والوقت حان يا صديقي للبدء بكتابة رواية ثانية.. اسمع في.. لا تنتظر.. استغل وميض الانطلاق وعنفوان النجاح: وإذا ما تقاعست وانبهرت بما قدمته في روايتك الأولى فسوف ينتصر الجانب المظلم في شخصيتك على القوة أو طاقة النجاح بداخلها. أجاب ساخراً:
– أخشى العكس يا سيدي.. فشخصيات روايتي الثانية شريرة بمعظمها وهي تنتظر لحظة الخروج من “القنينة” حتى تنشر الرعب وتعيث الفساد! أخشى أن يكون سبباً لسقوطي وعائلتي في حمأة الشر!
عندما نام حلم بسمكتين فضائيتين تقدمان له النصيحة.. “اندفع للأمام وامضي قدماً في كتابة روايتك.. سيكون الله معك في مهمتك.. لا تخشى شيئاً” هكذا قرر بعد الاتكال على الله الواحد الأحد وبعد استشارة زوجته وأطفاله وأصدقائه، قرر أن يمضي قدماً في مشروعه، وابتاع المنزل الضخم المطل من بعيد على المدينة الكبيرة، والذي يقع في رابية مرتفعة، وله طريق اسفلتي جانبي خاص به.. في الأيام الأولى.. كانت السعادة تغمر العائلة المكونة من زوج وزوجة وطفلين رائعين ولد وبنت في الثانية عشرة والعاشرة من عمرهما.. كان منظر المدينة ساحراً في المساء والأضواء تتلألأ.. والنسيم العليل ينعش أنفاسهم..وكأس ساخن من الشاي بالنعناع.. ولكنه لم يتمكن من كتابة سطر واحد في روايته الجديدة، فقد تصحر خياله وفكر في العودة للعمل بمهنته الأصلية كمهندس كهربائي.. تباً للرعب ولقصصه.. ولتذهب الأشباح إلى مأواها في الجحيم.. ما ألذ الحياة الواقعية.. مناظر المدينة الساحرة في المساء.. الفطور اللذيذ في الصباح.. طعم الفاكهة في المساء.. مرأى النساء الجميلات.. منظر الشمس عند الشروق.. سحر الشمس وقرصها الأحمر عند الغروب.. لابد أن أنتهي من هذا الهراء وأعود لعملي الأصلي..
اتصل به الناشر بعد أسبوع:
– هل بدأت؟.. هل أنجزت الفصل الأول؟.. الناس تنتظر أجاب
– لم أبدأ بعد.. امهلني.. لا تكن ملحاً.. أرجوك.
في ليلة الخميس وكان عائداً من المدينة بعد أن أنجز بعض الأعمال، لاحظ أن المنزل مطفأ عدا إنارة خفيفة في شرفة الطابق العلوي.. وما أن هم بالصعود إلى الطابق الثاني المظلم حتى سمع صراخاً خافتاً أوقف شعر رأسه.. ثم سمع صراخاً بدا كأنه صادر عن زوجته.. وما أن هم بصعود الدرج حتى لبسه خوف قاتل وارتد متراجعا.. آذن لقد بدأت القصة.. وسمع أبواباً تخبط بعنف.. وصوت رياح تهب على النوافذ.. وصرخ منادياً زوجته وطفليه:
نادية.. ماهر.. سحر لا صوت.. لا إجابة.. استعان بالله الواحد،وهناك لاحظهم متجمعين حول والدتهم في كتلة بشرية مرعوبة وصرخ ثلاثتهم: لن نبقى هنا.. هذه الغرف مسكونة بأشباح لا حصر لها.. وقد بدأت تعبث بنا.. أرجوك يا أبي.. لتذهب النقود إلى الجحيم فالحياة غالية..
هدأ من روعهم قائلاً:.. هل شاهدتم شيئاً معيناً؟.. أجابت الزوجة:
– ماذا تريد أكثر من هذا؟ ألا يقف شعر رأسك ألا تشعر بالمخلوقات تلمسك وتسخر من رعبك؟ سأقول لك يجب أن نغادر هذا المنزل، فبينما كنت أتجمل أمام المرآة.. ظهرت رسالة مكتوبة كأنها بالدم الأحمر القاني وكانت واضحة.. “غادروا هذا المنزل قبل أن تفقدوا عقولكم!!” هكذا قالت الرسالة.. هل تريد شيئاً أكثر من ذلك؟… وعندما ذهب لمعاينة المرآة في غرفة النوم، ظهرت بقايا نص مكتوب بدهان أحمر ولكنه لم يكن واضحاً ليقرأ!!
– 2 –
شعر وكأنه مدفوع للجلوس والكتابة وبدأ بالنص الأول:
“لقد تماهت أرواح الأشباح القاطنة مع الكيان المادي للمنزل، وذابت فيه وكأنها مادة مركزة حتى تشبع بها، وأصبح المنزل ككائن عضوي حي، أصبح الضباب فجأة يغلف كل شيء داخل المنزل وخارجه، وعبقت رائحة قديمة في المكان.. أصبح  المكان يتنفس.. أصبح للمكان جاذبيته الهائلة، كالثقب الأسود، لا يستطيع أحد الهروب من أسر جاذبيته.. إنه قدرنا أنا وعائلتي أن نمضي أياماً وربما شهوراً في قصر الرعب هذا حتى أنجز المهمة الموكولة إلي..”.
تكثف ظهور الأشباح والتهيؤات المرعبة، وبدأت شخوص روايته الكابوسية تظهر له من حين لآخر، كان الرعب يلف المكان.. وبدأت زوجته تلاحظ شذوذاً سلوكياً وعنفاً طارئاً.. أصبح الأمر أشبه بالمصيدة، مصيدة لا خروج منها، كان الأمل في أن تكون كابوساً مؤقتاً!!
– 3 –
كانت أبواب الغرف مرقمة لسبب يجهله، وتكثفت أحداث الرعب في الأسبوع الأول، وكأنها تحدث ضمن سيناريو متقن:
في الغرفة رقم 1 في الطابق الثالث تحولت شخصية أحد الأشباح فجأة إلى ذئب شرس، قفز من نافذة الغرفة، مثيراً الذعر لدى كلب العائلة..
في الغرفة رقم 2 انفجر رأس أحد أبطال روايته وهو يحدثه عن موته المحتمل في الرواية، وبدأ شلال من الدم يندفع أمامه..
في الغرفة رقم 3 وبينما هو عائد من التسوق مساءً، لاحظ أطفاله يتزلجون على الأرضية دون استخدام وسائل دفع وكأنه مكون من جليد.. ولاحظهم يمرحون وكأنهم مخدرون.. فأصابه فزع.. لقد انتقل الرعب متلبساً أفراد عائلته!!
في الغرفة رقم 4 وبينما كانت ابنته تلاعب دمية جميلة “لباربي”، عندما فاجأتها أمها عند الباب وتنبهت لها الطفلة، لاحظت الأم أن الدمية تفتح عينيها وتغمضها بطريقة مريبة فيها تواطؤ.. فذعرت الأم.
في غرفة الحمام.. عندما خلع ملابسه استعداداً لتناول حمام ساخن للاسترخاء قبل النوم، لاحظ فجأة أن ملابسه غارقة في الدماء، وعندما سمعت زوجته صراخه، ذهبت للاستطلاع فلاحظت أن باب الحمام الزجاجي قد تلطخ أيضاً بالدماء المنسكبة عليه من الداخل.. صاح:
أصبح الأمر لا يحتمل.. أرجو أن لا يسمع أطفالنا صراخنا.. البسي لنذهب لمكان ما لساعة أو ساعتين.. ذهبوا لمقهى أنيق قريب من منزلهم.. طلب شاياً وتناولت زوجته عصيراً.. وقدمت بوظة لذيذة للطفلين ماهر وسحر.. طلب من المشرفة على الموسيقى أن تضع أغنية عاطفية هادئة.. وبدلاً من الأنغام المحببة فوجئ الجميع بالأنغام تتحول لأصوات شخص ميت “مخنوق”.. فأصابهم الرعب وغادروا.. وبدا الأمر لماهر وكأنه نكتة سمجة لا أكثر.
عندما ذهبوا للنوم، استيقظ قلقاً وجلس لمكتبه وبدأ بالكتابة.. قالت الزوجة: إنك بالحق رابط الجأش.. تكتب بعد كل هذا الرعب الذي مر بنا.. أجاب: لابد من وصف ما حدث وإلا نسيناه وأصبح كالخيال والوهم!

– 4 –
انزعج كثيراً وكاد أن يغمره اليأس والحث عليه زوجته بترك منزل الأشباح هذا:
– وماذا يفيدنا إذا ربحنا الأموال الكثيرة وفقدنا أنفسنا وعقلنا؟ وجد الحل باستضافة صديقاً متخصصاً في ظاهرة “الأماكن المسكونة”، وألح عليه للبقاء أسبوعاً أو حتى شهراً مع زوجته، وأغراه قائلاً:
– ها هي فرصة نادرة، فأنت ستبحث في وجود الأشباح وأنا سأكتب عنها، والزوجتان ستمضيان وقتاً مسلياً في هذا القصر المرعب!! أما الأطفال.. فصدقني فلهم قدرة احتمال هائلة.. والمهم أن لا ننقل لهم مخاوفنا وأحاسيسنا ونتركهم على السجية والعفوية، رفض صديقه المتخصص في الأشباح تصديق رواية الأشباح قائلاً:
– إنها أوهام ومؤثرات لا غير.. أقول لك منذ البداية.. ستسألني كيف عرفت ولم أعش بعد في المنزل.. سأقول لك… إنك تحس بهذه الأشياء قبل أن تراها.. تحس بها في كل مكان.. سأسلك سؤالاً واحداً أنت وعائلتك.. هل استطعت أن تغفو لحظة واحدة في هذا المنزل؟ هل استطعت أن تنام؟ إذا أجبت بنعم.. آذن فالجواب واضح.. لا توجه أشباح إنما مجرد أوهام وتهيؤات وهي مناسبة لك لإكمال روايتك المرعبة! أجاب الكاتب:
– هل تسخر مني ومن أفراد عائلتي؟.. كل ما رويته لك ولا تصدق شيئاً! على كل لتتمتع بالشواء اللذيذ والماء البارد ولننسى للحظات كل هذا الهراء ولنركز ذهننا المكدود على مشاعر متفائلة.. كفانا رعباً.
.. نام الجميع واستمتعوا بليلة هادئة بدون منغصات.. في تمام الساعة الخامسة صباحاً سمع العالم طرقاً خفيفاً على باب زوجته، فقام بشجاعة العالم الذي لا يخشى شيئاً، وفتح الباب، ولم يجد أحداً، ثم عاد الطرق الخفيف مرة أخرى، فعاد وبسرعة وبدون إحداث ضجيج يوقظ الزوجة، فتح الباب فجأة وركض خارج الغرفة، ثم سمع الطرق للمرة الثالثة فخرج غاضباً هذه المرة وكاد أن يفقد رباطة جأشه وتماسكه.. ووجد نفسه فجأة أمام شبح امرأة ميتة حيث قامت بمسك يده وشدت عليها في تحدي واضح.. ثم اختلفت.. هنا أصابه رعب حقيقي ووقف متجمداً في مكانه ولكنه تمالك أعصابه ولم يصرخ.. وانتبه عندما دخل للغرفة أنها تحمل الرقم “الثالث عشر”!
– 5 –
تسامرت الزوجة فرحة مع زوجة العالم في مساء اليوم الخامس، واستأذنت لصنع قدحين من الشاي الأخضر، وعندما دخلت للمطبخ وجدت جثة صديقتها التي توفيت منذ سنوات في حادث سير مريع، وجدتها ممزقة كما تم انتشالها حينئذ من حطام السيارة، وجدتها أشلاء ممزقة ملقاة فوق طاولة الطعام! صرخت بفزع، هرعت صديقتها لنجدتها ولم تجد شيئاً!!
– 6 –
طلبت زوجة العالم من زوجة الكاتب أن تخرجاً معاً للتسوق، فهي ترغب في الترفيه عن صديقتها كما أنها أصرت على إعداد عشاء وكعكة لذيذة، بالفعل خرجت الزوجتان مع الطفلين إلى السوبر ماركت العصري، وهناك انتقت زوجة العالم أصنافاً جديدة من المعلبات.. واشترت لحماً وفاكهة وعصائر.. الخ وأصرت على أن تدفع قيمة هذه المشتريات.
– الليلة.. أنا وزوجي سنعزمكم على عشاء فاخر.. سأذيقك أصنافاً من الطعام تنسيك هم الأشباح!…
وقالت هذه العبارة الأخيرة بسخرية واضحة.. وكأنها لا تصدق كل ما يحدث، وعندما عادت إلى المنزل قالت زوجة العالم:
– عليك الآن الاسترخاء أمام التلفزيون.. وأنا سأنفرد بنفسي وأعد الطعام كله.. حتى إعداد المائدة سأقوم به.. لا أريد مساعدة أحد… أريدك أن تسترخي تماماً.. ودخلت المطبخ منفردة.. كما أني لا أريد تطفل أطفالك! فأنا سأعد مفاجئة طعام لا تتكرر واستغربت الزوجة من إصرار زوجة العالم على إنجاز كل شيء بنفسها.. وتساءلت في نفسها.. لماذا؟!
بالفعل استرخت زوجة الكاتب أمام جهاز التلفزيون وتركت الزوجان الأديب والعالم يتجاذبان أطراف الحديث في الحديقة، وبينما خرج ماهر للجلوس مع أبيه، خرجت سحر للاستفسار عن أي مساعدة يمكن تقديمها لزوجة العالم التي انفردت وانهمكت تعد الطعام في المطبخ.. وفجأة سمعت الأم سحر تقول لها:
– ماما.. ماما- عندما اقتربت خلسة من المطبخ.. سمعت “انتي” وكأنها تتحادث نفسها في المطبخ.. يبدو الأمر وكأنها تقدم وصفة طعام على التلفزيون فهي تتحدث عن خفق 5 بيضات وإضافة زبدة وقليل من الملح ‍‍!! واستغربت الأم، وطلبت من ابنتها أن تبقى جانباً، وذهبت خلسة في اتجاه المطبخ وبالفعل فاجأت زوجة العالم وهي تقول بتلقائية: إني أستخدم نوع الكاكاو هذا منذ فترة، وأنصحكم بتذوقه.. إن له طعماً لا يصدق!! ورأتها تلوح بعلبة الكاكاو الجديدة التي اشترتها من السوبرماركت.. وبشكل استعراضي واضح!
– ما هذا؟! هل تقدمين دعاية تلفزيونية.. هل تحادثين نفسك؟ ارتبكت زوجة العالم وتلعثمت وأجابته:
– لا.. لا.. إنما هذه هي عادتي.. عندا أعد الطعام.. أحادث نفسي أو بالأحرى.. أنا أحثها على الإبداع.. إنه نوع من الإيحاء الإيجابي.. صدقيني.. الناس تعتقد عادة أن كل من يحادث نفسه مجنون.. وأنا أقول لا مانع من محادثة الذات بين حين وآخر.. ولكن أنت محقة.. فالأفضل أن يتم ذلك بصورة هادئة أرجو المعذرة.. لم أقصد إزعاجك.
وخجلت زوجة الأديب فأجابت بأدب:
– انسي الأمر يا صديقتي.. فهذه ملاحظة عابرة لا غير.. والآن ماذا أعددت لنا من وجبات سرية لذيذة.. ها؟ فأنا جائعة وكلنا ينتظر الطعام الذي فاحت رائحته الطيبة.
تناول الجميع الطعام، وكان مساء رائعاً، وتمتع الجميع بليلة سعيدة بلا منغصات ولا أشباح.. وقال العالم للكاتب:
– هل اقتنعت الآن بأن كل ما حدث معك وعائلتك هو محض أو هام وخيالات.. هل تعرف أنك تملك بيتاً رائعاً وحياة هنية.. إني أحسدك على هذا..

– 7 –
في اليوم التالي، استيقظ الزوج باكراً وصلى، وابتهلت الزوجة إلى الله أن يمر هذا اليوم بهدوء كما اليوم السابق، واستطاع الكاتب أن ينجز الفصل الثاني من روايته، وكانت أحداث رواتبه تتطابق مع الأحداث اليومية مع بعض الخيال والحبكة الروائية، وتساءل في ذاته: الأحداث المرعبة تعينني بشكل أو بآخر على إتمام روايتي، فماذا سيحدث لو هيمن الهدوء على هذا القصر الغامض.. سأقوم عندئذ باصطناع الأحداث المرعبة وسيبدو كل شيء غير طبيعي!! ثم لام نفسه بشدة لأن بالفعل.. حادث نفسه: غريب أن أفكر بهذه الطريقة المريبة!! ثم تسائل: هل بدأت أفقد الثقة بنفسي أم ماذا؟ هل أنا غير قادر على إتمام الرواية من نسيج خيالي؟‍!
خرجوا مساء للحديقة وجلسوا وتناولوا شاياً بالنعناع وتمتعوا بجلسة عائلية هادئة، ويبدو أنهم حسدوا أنفسهم.. فما أن قالت زوجة العالم لزوجة الكاتب.. يا لها من أمسية رائعة.. وأكد العالم وجهه نظر زوجته قائلاً.. ألم أقل لكم.. هذا القصر بريء كطفل صغير.. إنها مجرد أوهام في عقل صديقنا الكاتب.. لقد أشبع المحيط بخيالاته وارتدت تلك الأوهام نحوه مثل شظايا الرصاصة التي تطلقها باتجاه هدف فترتد نحوك.. أعجب الكاتب بالوصف:
– هذا وصف روائي.. وتقول أنك عالم.. إنك عالم وروائي مبدع وما كاد ينتهي من عبارته هذه، حتى تغير الطقس فجأة لطقس عاصف وابتدأت ريح تعصف بأبواب ونوافذ المنزل، ثم بدأ المطر ينهمر غزيراً على غير عادته في مثل الموسم من السنة، ودوت أصوات رعد، ولمع البرق مراراً، وانتشر رعب كاسح في تلك الليلة، ونام الجميع في غرفة واحدة.. وعندما خرج الكاتب للحمام مضطراً قبيل الصباح، سمع صوتاً يهمس في أذنيه.. “سننتزع دماغك من داخل رأسك لمعرفة أسرارك.. سننتزعه وأنت ما زلت حياً.. مثل السن الملتهب الذي ينتزعه طبيب الأسنان خلسة وبسرعة من فمك.. نريد أن نسجل تفاصيل هذا المشهد الجراحي.. لتكن شهيد طب جراحة الدماغ أيها الكاتب المبدع..‍ !!” أصابه رعب مخفي.. ودخل وجسمه يرتج حتى أغمض قدميه.. سألته زوجته ولم يستطع أن يجيبها.. أصابته موجة ارتجاج!! نظرت إليه زوجة العالم بخبث كامن وابتسمت خلسة واستطاعت زوجة الكاتب أن تلتقط المشهد!!
– 8 –
دعاه هاجس ملح لزيارة قبر والده.. ذهب للقبر مساء وقرأ الفاتحة مراراً، وشكى همه لروح والده.. “ماذا أفعل يا والدي.. بعد أن دفعت ربع مليون دولار وأكثر لشراء هذا المنزل.. يبدو أني تورطت في صفقة خاسرة.. من جهة أشعر أنه يجب أن أعيش فيه حتى أتم روايتي الثانية.. ومن جهة أخرى فأنا أشعر بالحق أن أشباحاً شريرة تستلبني وتتماهى في ذاكرتي لكي أكتب عنها وأخرجها للوجود!! إنها تضغط علي باستمرار لكي أكتب عنها. لا حاجة للخيال في ذلك المنزل المرعب يا والدي.. هناك أشياء لا يمكن تصديقها.. بحق روحك المقدسة وأنت في العالم الآخر.. فسر لي ما الذي يحدث.. لقد كادت أعصابي أن تنهار وتعاني أسرتي من الهلوسات!… وفجأة خرجت يد ميت حديث من قبر مجاور.. اقشعر بدنه.. وأصابه رعب حقيقي، وتسمر في مكانه ورأى أمامه شبح ميت يهرب من قبر مجاور آخر، وكان ينظر إليه من وراء كتفيه بطريقة ساخرة.. فتسمر في مكانه كالتمثال ولم يقو على الحراك.. ربي أنقذني من هذه الورطة.. لتذهب الكتابة إلى أسفل درك في الجحيم.. سأنسى مهنة الشيطان هذه وسأعود لعملي في الكهرباء.. وسرت شحنة كهرباء في جسمه جعلته يركض بأقصى سرعته في شارع خال من السيارات والمارة، وبالقرب من الجسر المطل على المدينة شاهد عن بعد شخوصاً مضيئة تتراقص أمامه، وما أن اقترب منها رأى بأم عينيه أشباحاً ترقص عارية أمام سيارته كانت أشباحاً لرجال ونساء، وبدت وكأنها تتحداه وتلقي بنفسها أمام سيارته المسرعة وسعى لتجنبها في مناورة بارعة تمالك فيها أعصابه لدرجة مذهلة، ولكنه شعر أنه بالرغم من براعته في المناورة إلا أنه صدم شخصاً أو شخصين في الظلام الحالك.. وشعر بتأنيب الضمير، فقد شعر بثقل الجثة وهي تتعثر في الكتلة المعدنية للسيارة المسرعة، ولمح في مرآة السيارة بعض الأشباح الراقصة وهي تتوعده مهددة.. وتوجه لمخفر الشرطة وأخبر عن حادث دعسة لأشخاص اعترضت سيارته، وقامت الشرطة بتفتيش المنطقة في الصباح، إلا أنها لم تجد شيئاً وأخبره ضابط المخفر:
– سيدي، لم نجد جثة.. نعتقد أن الأمر كله أوهام، أرجو المعذرة!! شعر بالسعادة بالرغم من الرعب الذي غمر كيانه، وبالرغم من كل شيء فهو إنسان طيب ومنضبط ولا يريد أن يتورط بقتل أي كائن حتى لو شبحاً!! وعندما أخبر صديقه عالم الأشباح بقصة الأشباح الراقصة، نظر إليه العالم نظرة مريبة وكأنه غير مصدق، وأكدت زوجة العالم أن القصة مستحيلة وخارج السيناريو.. وعندما سألتها زوجة الأديب مستغربة: ما المقصود بخارج السيناريو؟ هل هناك جزء داخل السيناريو وجزء خارجه؟ ما هذا الكلام الغريب؟! ارتبكت زوجة العالم وقالت مبررة:
– ما قصدت قوله أن ما حدث لزوجك بالتأكيد هو مجرد أوهام.. وماذا ننتظر أن يحدث لشخص يخرج من المقبرة ليلاً وهو مرعوب؟! ولكن العالم لم يقتنع باستنتاجات زوجته، واتصل في اليوم التالي بصديقه العالم النفسي، وطلب منه أن ينضم إليهم في بيت الأشباح، فالأحداث تتلاحق، والأمور أصبحت عصية على التفسير، وحادث الأشباح الراقصة مرعب بحق ولا يمكن تفسيره، وقد اقتنع برواية صديقه الكاتب تماماً، فالإنسان لا يتوهم اصطدام جسم صلب بسيارته، ثم أين هي الجثة؟! وأصبح يلاحظ إرهاقاً واضحاً في وجه صديقه، فهناك زوغان في النظرات وصفار في الوجه.. وأصبح يخشى عن الصحة النفسية لصديقه.. فقد ينهار فجأة.. آذن الأمر يستدعي تدخل عالم النفس الشهير.. عالم النفس هذا مشهور بأسلوب المعالجة بالإيحاء التخاطري كما أنه عالم بالتنويم المغناطيسي، ومنذ انضمامه إليهم، سرت في المنزل موجة من الهدوء والسكينة.. ونعم الجميع بأسبوع هادئ واستفسر عالم النفس في اليوم السادس:
– آذن أخبرني ما الذي حدث.. يبدو وكأن الأمر وهم مختزن في الذهن انفجر كقنبلة من هذا المنزل.. المنزل هنا عمل كمحفز للمخزون الوهمي في الذهن.. وربما لعبت مؤثرات معينة دوراً خاصاً لإيقاد شعلة التخيلات والأوهام، أجابه العالم مستفسراً:
– ما الذي تقصده بالمؤثرات المعينة أو الخاصة.
شيعته زوجة العالم بنظراتها دون أن تنطق بكلمة واحدة.. ولكنه أجاب:
– حقيقة لا أدري.. كل ما أستطيع أن أقوله اني أشتم رائحة تواطؤ وتآمر في هذا المنزل ثم إنه لا يتوجب عليك أن تقول لفئران الاختبار أنهم موجودون في المتاهة!! ورنت هذه العبارة الأخيرة في ذهن الكاتب، كما أن العالم قضى ليلته يفكر فيما قاله عالم النفس.. لابد أنه توصل إلى تفسير ما.. هذا العبقري الداهية!!
– 9 –
في اليوم التالي، رن التلفون في الثانية عشر ليلاً، هرعت زوجة الكاتب للرد على الهاتف، وعندما رفعت سماعة الهاتف، شاهدت لساناً متدلياً من السماعة، صرخت بفزع.. وعندما هرعوا نحوها، لم يشاهدوا شيئاً، قالت الزوجة بهلع:
أقسم أني رأيت هذا.. وأشعر بأن هناك طرفاً يريد أن يقودني للجنون، أنا على الأقل، فزوجي سيستثمر أحداث الرعب هذه لإنجاز روايته!
أجابها العالم:
– أشعر بأننا سننتهي قريباً من هذه الأحداث المرعبة.. لا تقلقي! “ماذا يقصد؟” قالت الزوجة للكاتب عندما انفردا معاً في غرفة النوم، أجاب زوجها مندهشاً:
– لا أعلم.. لا يبدو عليه الخوف.. وتبدو زوجته كأنها تسخر منا جميعاً.. ألا تلاحظين؟!
– 10 –
حلمت الفتاة حلماً مزعجاً.. وصرخت فزعة، وعندما هرعت والدتها لرؤيتها، روت لها بأنها شاهدت فتاة ترتفع عن الأرض وهي نائمة.. وبأن فراشها يهتز بشدة.. ثم أجابت وهي ترتجف:
– .. لا أمي.. لم يكن حلماً.. لقد كان حقيقة.. لقد شاهدت كل هذا كمشهد تلفزيوني على الحائط قبل النوم.. ثم شاهدت رأس الفتاة يتطاير عبر النافذة! أمي أرجوك.. لا أستطيع أن أنام لوحدي!
ولم تمضي ساعة، بعدها سمع صراخ الطفل، وعندما هرع الزوج أبلغه ابنه أنه لم يكن يحلم، بل شاهد بأم عينيه قاتل مرعب يتنقل بين غرف المنزل، وهو يحمل سكيناً تسقط منها الدماء، وكان يرتدي ملابس مهرج.. وعندما تجرأ ونظر إليه كشف له عن وجه طفولي بلا ملامح!!
نام الجميع في غرفة واحدة، وبعد أن غلب النعاس الطفلين، همست الزوجة في أذن زوجها: هل تصدق رواية سمر وماهر؟… أعتقد أنه كان كابوساً لا غير فأجاب الزوج بقلق:
– ربما لا.. أعتقد أن روايتهما حقيقية.. فلماذا تحدث كل هذه الأشياء المرعبة لنا وتستثني الأطفال؟ أعتقد أنه رعب شامل لنا ولأولادنا فقط.
– أتعني أن العالم وزوجته لم يتعرضا لحوادث مرعبة قط في هذا المنزل!
وما أن انتهت من نطق عبارتها وإلا وصراخ زوجة العالم يملأ المكان، فهرعوا جميعاً لغرفة العالم، وهناك شاهدوا الزوجة تصرخ بفزع وكأنها أُصيبت بمس من الجنون.. وصاحت وكأنها تهذي:
– سمعت صوت صياح الديك ينطلق بإلحاح من درج “الكومودينة” وما أن فتحت الدرج حتى انطلق صوت نسائي يقول “الواحدة ونصف صباحا!!”.
هنا ضحكت الزوجة – زوجة الكاتب – بشماتة.. آذن.. هذا هو الشيء الذي أخرجك عن طورك وجعلك تصرخين كالمجنونة.. صوت الساعة الناطقة!! لقد مرت بنا الأهوال في هذا المنزل..ولم تعيري الأمر أي اهتمام.. وفجأة تصرخين فزعة لمجرد سماعك صوت الساعة الناطقة..
واحمر وجه زوجة العالم من الخجل، وشعرت وكأن أمرها انكشف، والتزمت الصمت.. وقالت بهدوء: أرجو المعذرة!
– 11 –
سمع الأب صوت الباب المعدني الضخم للمنزل وهو يغلق بعنف، هرع لمعرفة ما يحدث، فشاهد الباب يفتح من تلقاء نفسه، كان الضباب يغلف المشهد الخارجي، ولكنه ميز أضواء براقة تلمع مقتربة، وعندما خرج شاهد طبقاً طائراً يقترب منه وقد خرج منه كائن فضائي ضئيل الجسم، له أذنان بارزتان على جانبي وجهه المتغضن، وبدا له وكأنه عاش أكثر من الف سنة.. ولم يترك له وقتاً كافياً للتأمل، بل قام واختطفه على مرأى زوجته الهلعة، وارتفع الصحن الطائر قبل أن تقفز منه قطة غريبة الشكل واختفت هاربة في ردهات المنزل. اتصلت بالشرطة لتبلغ عن اختفاء زوجها، ولاحظت علائم الدهشة على وجه الضابط وهو ينصت لرواية الاختفاء!
في منتصف الليل قفزت القطة الغريبة على الأرض في فراشها، فصرخت الزوجة، بفزع.. يا الله! نكاد نهبط في بئر الجنون!! ثم اختفت القطة تماماً وكأنها خيال مارق! وفكرت.. يجب أن يساعدنا عالم النفس، وإلا فما جدوى وجوده معنا في المنزل؟!
في اليوم التالي تم إنزال الزوج من المركبة الفضائية، بعد أن قام الفضائيون بإجراء تجارب بيولوجية عليه.. روى الزوج لزوجته تفاصيل ما حدث بالتفصيل، وروت له قصة القطة الغريبة، فأجاب: آذن.. فقد تركوا دخيلاً.. وعندما أخبروا عالم النفس بما حدث قال بهدوء:
– لقد خلطت الأوراق.. ودخل طرف ثالث على الخط.. لا أستطيع أن أفسر هذه الجزء من القصة.. ويبدو وكأنه حقيقي.. دعني أسألك.. هل قاربت روايتك على الانتهاء؟ فأنا لا أستطيع البقاء في هذا المنزل بعد الآن!
* * *
– 12 –
اندهش الكاتب من ثقة عالم النفس وهدوءه، واستمر هذا الأخير قائلاً
– دعني يا صديقي أخبرك بحقيقة ما أشعر، فأنا لا أخشى كل هذه الأمور، وأعتقد أن الرعب الحقيقي منشأه الإنسان الحي، إن الإنسان هو أكثر المخلوقات رعباً وشراسة وإجراماً.. وعندما تتأمل الطفل الصغير وهو يحبو وينطق بأول كلماته وحروفه.. ثم تفكر في الكيفية التي سيغدو عليها عندما يكبر، تكاد لا تصدق.. عن أي رعب تتحدث يا صديقي؟… الرعب الحقيقي حدث في التاسع من نيسان عام 1948 عندما تمت تصفية سكان قرية فلسطينية بأكملهم وعن مرأى ومسمع العالم أجمع، ونجا القتلة من العقاب! الرعب الحقيقي أن تسمح للقتلة والسفاحين بممارسة قتلهم للرجال والنساء والعجائز والأطفال، الرعب الحقيقي أن يتراهن القتلة على ما في بطون النساء من الأجنة هل هم ذكور أما إناث؟ ثم تكرر الرعب بعد حوالي خمسين عاماً وفي قرية اسمها سوفاريكا جنوب كوسوفا، ولست بحاجة لأن تسمع رواية سيد تقي الدين وهو يروي بأعجوبة كيف نجا من موت محقق بعدما تم اكتشاف أربعين جثة البانية في مجزرة جماعية.. الرعب يكمن في الزلزال المدمر.. عندما تنحشر حياً تحت الأنقاض ولا تستطيع الحراك.. عندئذ تموت منه مرة قبل أن يسمع استغاثتك أحد ما.. الرعب يكمن في الفساد الذي حول حديد التسليح إلى أسلاك واهية، فيما كانت الخرسانة مجرد خليط من الرمال وقليل من الاسمنت.. الرعب يكمن في الفساد والجشع البشري.. لا أخاف الموتى وخيالاتهم.. إنما أخاف العجرفة والادعاء والوجاهة وعدم المبالاة.. أرجو أن تتضمن روايتك بعض الرعب الحقيقي الناتج عن سلوكيات المجرمين والمتبجحين.. أرجو أن لا أكون قد أثقلت عليك وعلى زوجتك.. ولكني أنصحك أن تتصفح الانترنت لتطلع على نماذج أدبية حقيقية للرعب الحقيقي.. التقريري.. لتجد يا صديقي أن عالمنا أصبح مرعباً وأن مصدر الرعب يأتي من الأحياء.. دع الموتى يستقرون بسلام مع أرواحهم.. فهم لا يؤذون أحداً.. أرجو أن لا تكون هذه محاضرة مملة يا صديقي.. على كل لقد كنت صادقاً معك وأخبرتك بأفكاري.. أرجو أن تنهي روايتك بسلام ونصيحتي أن تحافظ على سلامة عقلك أنت وأفراد عائلتك.. تماسك يا صديقي.. ودعني أحضر حفل توزيع روايتك القادمة وأتمنى لك التوفيق من كل قلبي.. وداعاً يا صديقي!
– 13 –
تأثر الكاتب كثيراً بحديث عالم النفس، وقرر في اليوم التالي أن يتفقد صحفات الأدب على الانترنت، تناول قهوة طازجة في الصباح، واعتزل في غرفته، وعندئذ طبع في أعلى السطر المخصص للبحث: www.Markizhorror.com  فظهرت فقرات لا حصر لها من آخر رواية لماركيز بعنوان “خبر اختطاف”، وجلس لساعات يقرأ الرواية وأعجبته الفقرات التالية، فقرر أن تتضمنها الرواية على غير المعهود، وتساءل بينه وبين نفسه: ومن قال أنه يجب أن لا تتضمن الرواية فقرات من رواية أخرى.. وانتهى للسخرية من الأدب.. طز!! وبالفعل فقد كانت مشاهد القتل والاختطاف تنساب بسلاسة واحتراف أدبي ملح.. وسجل الفقرات التالية:
– … حين زعزعت شحنة ديناميت مفاجئة ركائز فندق هيلتون وحولت الزجاج فيه إلى فتات، وأدت إلى قتل طبيبين في مؤتمر كان يعقد في طابق آخر غير الذي حدث فيه الانفجار!
– … كانت المشكلة في كيفية العثور على بابلو اسكوبار في مدينة يغذيها العنف. ففي الشهرين الأولين من عام 1991 جرت الف ومئتا عملية اغتيال – أي عشرون عملية يومياً – وكانت تقع مجزرة كل أربعة أيام.
– .. لقد تعلم الناس العيش في خوف مما يحدث، ولكن ليس العيش في القلق مما يمكن أن يحدث: انفجار يمزق الأبناء في المدرسة، أو يفتت الطائرة وهي في السماء، أو انفجار الخضروات في السوق.
– … أما الرصاصة الوحيدة التي تسببت في موت ديانا، فقد أثبت الاختبار الفني أنها قد دخلت من المنطقة الحرقفية اليسرى وتابعته إلى الأعلى وإلى اليمين. وقد أثبتت طبيعة الأضرار أن المقذوف كان ذا سرعة عالية، ما بين الف وثلاثة آلاف قدم في الثانية، أي أسرع ثلاث مرات من سرعة الصوت..
قال الكاتب لزوجته:
– لقد كان عالم النفس محقاً، فالعالم مليء بالقتل والرعب، ويكمن الرعب الحقيقي عندما تعلم بأن شخصاً ما ينوي اصطيادك، تماماً كما يصطاد الأسد فريسته وكل ما عدا ذلك محض أوهام وخيالات، أجابته زوجته:
– هو محق في كل ما قال، لننسى كل ما حدثنا به، ولتحاول يا عزيزي إنهاء روايتك هذه، حتى نحصل على المكافأة وننجو بأنفسنا سالمين من بيت الرعب هذا.. أرجوك يا عزيزي.
* * *

– 14 –
شعر بأن أعصابه قد أرهقت فطلب من زوجته تجهيز حفلة استقبال بمناسبة قرب الانتهاء من كتابة روايته والتي سماها “مخلوقات كابوسية”، وبالفعل بذلت زوجة الكاتب وزوجة عالم الأشباح جهوداً كبيرة لترتيب حفلة جميلة، وتم الاتفاق مع مغنية مشهورة وراقصة جميلة لإحياء الحفلة.. ودعى الناشر وبعض الأصدقاء، وأمضوا وقتاً سعيداً مرحاً.. وبعد منتصف الليل رقص بعضهم تحت أضواء خافتة وفجأة بهتت الإضاءة وظهرت أشباح وعفاريت مخيفة.. وانزوا جميعاً في زاوية الصالون، تاركين المجال لأصوات العفاريت الهيستيرية وعبثها المجنون.. وصاح الكاتب:
إنه جنون حقيقي.. وها أنتم ترونه بأم أعينكم وهرعت الراقصة الجميلة للخارج هاربة وصرخت المغنية المشهورة بفزع، فهدأ العالم من روعها بإيماءات معبرة، فعاد إليها هدوءها فجأة وحادثتها زوجة الكاتب: نحن نعيش هذا الرعب منذ شهر.. ومن الصعب التعود عليه.. اهدأي يا عزيزتي.. فالأمر سيستمر هكذا لدقائق ثم يعود كل شيء لحاله!! ولكنه جنون مطبق لا يمكن تبريره..
واستغربت زوجة الكاتب عندما اختفت الأشباح وعادت الأضواء لبريقها.. اندهشت عندما لاحظت المغنية المشهورة تعود للغناء وكأن شيئاً لم يكن.. ولاحظت في عينيها بريق تواطؤ وخبث!…
– 15 –
عندما انتهت الحفلة الصاخبة، انزوى الكاتب في مكتبه، وسجل ما حدث وكأنه يكتب تقريراً، “يبدو وكأن هذه الرواية تكتب نفسها!” هكذا تساءل مع نفسه، وعندما ذهب للنوم مرهقاً حلم بأن تم ربطه إلى حصانين يسيران في اتجاهين متضادين وبدلاً من أن يفقد يديه ورجليه، حلم بأن أطرافه تتمدد إلى ما لا نهاية.. استفاق صارخاً، وتزامن صراخه مع صراخ الزوجة التي بدى وكأنها استيقظت أيضاً من حلم كابوسي، فواساها مستفسراً عن الحلم فأخبرته بأنها حلمت بأنه تحمل شيطاناً داخل أحشائها بدلاً من طفلها المنتظر، وأنه بعد الولادة بدلاً من أن تفرح بمشاهدة وليدها الجديد، تفزع لرؤية وليد شيطاني المظهر بعينين مخيفتين، وبينما تسمع شخصاً يقول لها بهدوء مريب: نعم، إن له عين والده.. إنه نسل كائن فضائي مخيف!! وفجأة وقف شعر الزوج الكاتب من الرعب عندما تذكر أن مختطفه الفضائي قد عبث بخصيته ووخزه بابرة تحتوي على سائل لزج، ويبدو وكأنه أضاف “منا” فضائياً لمنيه البشري بهدف إجراء تجربة وتخليق كائن مسخ من صلبه..” ولم يرد أن يخبر زوجته بمخاوفه، ولكنه أصيب بقلق أبقاه أرقاً فيما تبقى من الليل.. وفكر:
– هل يستحق الأمر كل هذه المعاناة؟ لتذهب الرواية والخيال العلمي إلى الفضاء بدلاً من الجحيم.. إني أدفع ثمناً غالياً مقابل هذه الترهات والأوهام!! وفكر في الهروب صباحاً مع زوجته وطفليه، ولكن هاجساً ملحاً تملكه.. “لقد أصبح الوقت متأخراً.. قدرك أن تبقى حتى تنتهي من روايتك فالكل ينتظرها بفارغ الصبر.. وعدا ذلك فهناك مليون دولار بانتظارك!” في الساعة الأخيرة من الفجر تملكه النوم بعد أن شعر بإرهاق شديد، واستيقظ في تمام الساعة السادسة عند سمع جرس الباب، وجد رسالة تحت الباب، وعندما فتحها قرأ ما يلي:
“سأحل مشاكلك كلها، حادثني من الهاتف العمومي الموجود عند زاوية الطريق المؤدي إلى سوبرماركت “النجم الساطع”.. التوقيع: “خادمك الأمين” اطلع الكاتب زوجته على مضمون الرسالة، فخافت وحذرته من مكيدة محتملة، ولكنه شعر بضرورة الاتصال “بالخادم الأمين”! فطلبت من صديقه العالم أن يرافقه.. عندما دخل إلى كابينة التلفون العمومي، وما أن هم بطلب الرقم وهو 5582316 حتى شعر بغتة بالرعب.. انتظره صديقه العالم على بعد أمتار متوجساً من خطر مجهول قادم.. بالفعل بدأت إطارات شاحنة ضخمة تتحرك باتجاه الكابينة، واستدرك العالم المكيدة.. فهرع باتجاه صديقه الكاتب محذراً، وخرجا يركضان هلعاً باتجاه السوبرماركت.
– 16 –
في اليوم الخامس والثلاثين كانت الحرارة مرتفعة، وانتشر ذباب هائل خارج المنزل، ودخل المنزل كالوباء، وتسبب طنينه المزعج في حدوث هيستريا لم ينجو منها حتى العالم وزوجته، وخلال دقائق غزت طيور صغيرة المنزل من خلال المدخنة، وبدا وكأنها تبحث عن الذباب لتفترسه، وأصابعهم هلع فتجمعوا في إحدى الغرف للغداء، وكانت أصوات الطيور وطنين الذباب مهيمنة على أجواء المنزل الغريب، وعندما هموا بتناول الطعام لاحظوا أن طبق الدجاج بالبطاطا الساخن قد غطي بالذباب الميت المحروق.. وغزت أنوفهم رائحة حشرات ميتة.. رائحة كريهة مقززة.. صرخت زوجة الكاتب: ماذا تريدون بعد هذا!.. أما الطفلان ماهر وسمر فقد أصابهما وجوم شديد وامتقع لونهما.. وسأل ماهر سؤالاً ذكياً:
– بابا.. فوضى الطيور والحشرات تعم أرجاء المنزل عدا هذه الغرفة، فما السبب يا ترى؟ لمع وجه العالم وأجاب بدون تردد:
– الصدفة فقط، أجل الصدفة!.. هدئ من روعك يا ماهر.. يبدو وكأن الأمر ينتهي.. بالفعل فقد عاد الهدوء يهيمن تدريجياً على بيت الأشباح.. لم ينتهي الأمر عند هذا الحد، فعندما دخلت الزوجة للاستحمام، لاحظت وجود رجل ميت مستلقي في حوض الحمام، وأكثر ما أثار فزعها قيامه مستيقظاً باتجاهها.. وركضت وهي عارية، وكانت تصرخ:
– لن أبقى في هذا المنزل.. وهرعت تطلب من ولديها الاستعداد للرحيل وفاجأتها زوجة العالم بالقول: مضى الكثير وبقي القليل، أرجوك انتظري لعدة أيام فقط وسنغادر كلنا بعدها هذا المنزل المشؤوم!
استيقظ الكاتب هلعاً في منتصف الليل ليجد نفسه داخل نعش في حديقة المنزل.. ركض هارباً باتجاه المنزل، حادث العالم قائلاً:
– كيف حدث هذا؟ أريد تفسيراً لما حدث أجاب العالم مندهشاً:
– يبدو وكأنك تتهمني.. أنا مثلك أعاني مما يحدث.. إذا أردت سأغادر أنا وزوجتي.. أنا أسعى لتهدئة الأرواح الشريرة المهيمنة على هذا المنزل.. هل لك أن تتخيل ماذا سيحدث لو لم أكن موجوداً؟.. أقول لك باختصار ستفقد حياتك يا عزيزي وربما تعرضت عائلتك لخطر ماحق!!
اعتذر الكاتب:
– آسف.. أنا خائف ومرتبك.. اعذرني.. وربما فقدت ثقتي بنفسي. وبادره العالم:
– لا تقلق يا عزيزي.. سأوقظك صباحاً وأعد لكلينا قهوة لذيذة.. ثم نجلس في الحديقة مع نسائم الصباح.. ونتجاذب أطراف الحديث ثم أعطيك المجال لإنهاء الفصل الأخير من روايتك.. أنت محظوظ يا عزيزي الكاتب.. فما عليك إلا أن تسجل ما يحدث لك.. فقط سجل حرفياً ما يحدث في بيت الأشباح.. فالرواية تكتب نفسها.. وهذه حالة نادرة.. صدقني إني أرى ضوء الفجر ساطعاً عند نهاية النفق المظلم.. لقد اقتربنا يا عزيزي من نهاية النفق.. وها أنا أسمع زقزقة العصافير وأشتم أريج الزهور.. كن متفائلاً يا عزيزي!!
– 17 –
حلم بالحكيم الفضائي المتغضن الوجه يقول له:
– نحن سنسعى للسيطرة على كوكبكم التعيس، فأنتم لا تقدرون هذه الحياة الجميلة التي منحها الله لكم، فأنت تتمتعون في الأرض بكل شيء جميل.. شروق وغروب وهواء منعش وماء وطعام وثمار ومتع حياتية لا تحصى.. ونحن نعيش كالمخنوقين في كوكبنا الصعبة.. حتى أشكالنا تطورت بطريقة مشوهة تنسجم مع أجواء كوكبنا.. فنحن كما ترى بشعون وأنتم أحسن الخالق صنعكم.. انظر لأشكال نساؤكم الجميلات كم هي ساحرة والرائعة!! انظر لوسامة بعض رجالكم!! أنتم لا تستحقون هذه الحياة الرغدة.. تضطهدون بعضكم البعض.. القوي يستبد بالضعيف.. تمارسون العنف والتشويه والإبادة العرقية ضد بعضكم البعض..تتعالون على بعضكم البعض.. وأنتم جنس بشري واحد.. مصيركم واحد.. وإذا كنتم لا تقدرون نعمة الحياة على كوكب الأرض!.. ابعث هذه الرسالة لبني قومك.. وأخبرهم فنحن قادمون.. أجل قادمون.. وكان آخر مشهد في الحلم غامضاً فقد شعر وكأن الحكيم الفضائي يخيره ما بين البقاء في منزل مرعب كالمتاهة على شكل نجمة سداسية وما بين الانطلاق حراً طليقاً!!
– 18 –
في الصباح، أخبر زوجته برغبته للذهاب لقلب المدينة، اصطحبوا العالم وزوجته، تجولوا في الشوارع وحدقوا في وجوه العامة،شعروا كأنهم أشباح من كوكب آخر، وكأنهم فقدوا اتصالهم بالواقع ومعاناته.. حدق في البئوس الكامن في الوجوه، تناولوا فطوراً من الحمص والفول والفلافل.. ثم تناولوا عصير كوكتيل بالفواكة.. في المساء تسكعوا في سوق تجاري.. شعر وكأن بعض وجوه المارة تخترقه إما بدافع الفضول أو بدافع السخرية.. شعر للحظات بالاستياء، قالت له زوجته مستقرة:
– لماذا يحدقون في وجوهنا؟.. هل نبدو غريبي المظهر أم ماذا؟
أجابه العالم مهدئاً:
– إنه التوتر فقط.. تراكم المعاناة في بيت الأشباح.
تناولوا بوظة مشكلة في مقهى أنيق تطل على حديقة، شعر الكاتب وكأن رجلاً متغضن الوجه يرمقه بنظرات متمعنة.. أبدى امتعاضه قائلاً:
– إنه داء البحلقة.. بحلق.. يبحلق.. فهو مبحلق.. اف!
قالت الزوجة:
– علينا من حين لآخر أن نغادر بيت الأشباح هذا.. ونتجول في الأسواق والأماكن العامة.. ونذهب من حين لآخر لأماكن الترفيه.
وتذكر الكاتب فسأل مستفسراً:
–         أين الأولاد؟
–         لقد ذهبوا مع أصدقائهم إلى مدينة الملاهي، وسنأخذهم في طريقنا للمنزل.
عندما عادوا، اشترى مجلة الكرمل الفلسطينية وتصفحها واعداً نفسه بقراءتها من الصفحة الأولى إلى الأخيرة، فهو قارئ نهم، وقرأ في الصفحة 233: “.. لم تكن صحراء إذا، ولا خالية من السكان. يولد طفل في سرير طفل آخر. يشرب حليبه. يأكل توتة وتينة، ويواصل عمره، بدلاً منه خائفاً من عودته، وخالياً أيضاً من الإحساس بالاثم، لأن الجريمة من صنع أيد أخرى ومن صناعة القدر. فهل يتسع المكان الواحد لحياة مشتركة؟ وهل يقوى حلمان على الحركة الحرة تحت سماء واحدة، أم أن على الطفل الأول أن يكبر بعيداً وحيداً بلا وطن وبلا منفى، لا هو هنا ولا هو هناك!!.”
فكر.. تماماً كما هو الحال في بيت الأشباح هذا.. نحن فيه بأجسامنا وعقولنا خارجة.. ثم شعر بتأنيب الضمير.. وكأنني أكتب قصة مثيرة لسينما رعب حافلة بالمؤثرات.. هذه هي العولمة: عندما تنصهر أفكار الناس في بوتقة واحدة، يخلقون لك التسلية والإثارة ويسرقون تاريخك وأرضك!! وفجأة سمع هو والعالم أصواتاً تتأوه في منتصف الليل، تصدر من أحد الغرف المنعزلة.. وما أن اقتربوا ن الباب وفتحوه حتى شاهدوا أكواماً من الموتى الأحياء يتأوهون.. ووجوههم صفر وعيونهم حمراء ناعسة!.. ويبدو وكأنهم في حالة وسطية ما بين الموت والحياة.. حتى أقفلوا الباب بإحكام، وهربوا إلى غرفهم!!
– 19 –
في الصباح خاطب الكاتب صديقه العالم:
–         ألا ترى يا صديقي.. أن ما يحدث هو جنون مطبق؟ أجابه العالم:
– أجل إنه رعب مصفى.. ولكني لو كنت مكانك.. لما تركت شاردة ولا واردة إلا وسجلتها.. فمن النادر أن تحدث الأشياء المرعبة بشكل مركز كما تحدث هنا.. وهي تتميز بالتنوع والتعقيد.
– هذا ما يحيرني ويحير زوجتي.. هل من المعقول أن تحدث الأشياء بهذا الشكل السينمائي؟… يبدو لي أحياناً وكأن هناك كاميرا خفية تسجل ما يحدث كما أني أكاد أشعر وكأن مخرج مؤثرات عبقري يصيغ هذه الأحداث.
– دعك من هذا الهراء.. من حسن حظك أني معك وزوجتي.. ومن حسن حظك أيضاً أن زوجتك وأولادك لم تنهار أعصابهم بعد.. ويعيشون معك في هذه الدوامة المرعبة.
– على كل بقي هناك فصل واحد في روايتي.. أنا متلهف لكي أنتهي منها وأسلمها للناشر لكي أقبض المليون دولار وأعود لحياتي العادية.. لعنه الله على الفلوس.. فهي تأسر الإنسان وتجبره على أن يفعل أشياء يكرهها.

– تناول الموضوع من زاوية مضيئة.. فأنت لم تكن قادراً على إنهاء رواية مرعبة خلال شهر لو لم تسكن في هذا البيت المرعب.. إن التفاعل البشري هو الذي يجعل الموضوع مثيراً، فوجودنا إلى جانبك كان ضرورياً حتى تكون الأحداث طبيعية.. ثم من يقبض في أيامنا هذه مليون دولار مقابل رواية في العالم الثالث.. العالم الذي لا يقرأ.. تذكر هذا..
– أنت لست محقاً تماماً فيما تقول، فالناس يقبلون على كتب الطبيخ والسحر والجن والأشباح والسياسة، وهذه الرواية تحتوي قدراً كبيراً من هذه الأمور.. بقي أن أضع بها بعض وصفات الطبيخ ضمن السباق الروائي.
–         هل تسخر؟
– لا.. لا أسخر إطلاقاً.. ولكن دعني أسألك بصراحة.. اني حقاً استغرب هدوءك وكأنك لا تأخذ الأمور على محمل الجد.. وكذلك زوجتك، بصراحة إني أشعر يا صديقي بأنك متواطئ.. أرجو المعذرة.
– دعك من هذا الهراء.. أنا عالم متخصص في “الروحنيات”.. وهذه الأمور من طبيعة اختصاصي.. ولاحظت ردود أفعالي فكيف أن الرعب داهمني وزوجتي كما داهمك أنت وزوجتك وأولادك.. غداً صباحاً سأغادر هذا المنزل.. فأنا لا أحب أن يتهمني أحد في إخلاصي.
– أرجوك.. إني أمزح فقط.. فنحن بدونك وزوجتك لن نستطيع أن نبقى في بيت الرعب هذا ولو لساعة واحدة!
–   حتى تصدقني.. وتصدق مشاركتي وتفاعلي معك، فسوف أستضيف غداً صديقي لي.. عالم انثروبولوجي.. لامع الذكاء.. فقد يساعدنا في فك الغاز بيت الأشباح هذا.
– 20 –
في جلسة هادئة، كانت نسائم المساء تداعب وجوههم القلقة، وأمام أكواب من الشاي الساخن الممزوج بالنعناع الطازج، قال عالم الانثروبولوجي:
– يكمن جزء كبير من مشكلة هذه البيوت المسكونة، في كون المشكلة تنحصر في الوهم المتعشعش في ذهن القاطنين، فالأشباح تنجح في إشعار القاطنين بوجودها أولاً، ثم تتولد أوهام لا حصر لها بفعل هذا الشعور مثل الجنين الذي يكبر.. ويبدأ الوهم بتقديم رؤياه الخاصة غائصاً في بحر الخرافة المتجذرة في العقل اللاباطني للإنسان.. وهكذا.. آذن دعوني وصديقي عالم الأشباح نقوم بهذه التجربة وتمالكوا!
سأعيد أنا وعالم الأشباح تكرار هذا النص فأرجو الإنصات:
“هذا المنزل عادي تماماً يعيش فيه أديب مبدع وزوجته وطفلين وقد استضاف صديقي علم الأشباح وزوجته.. وأنا أزورهم الليلة من أجل أن نتعاون جميعاً لنثبت أن الأشباح التي تقطن هذا المنزل ما هي إلا خيالات وأوهام.. أيتها الأشباح المرعبة.. اخرجي وواجهينا. إن كنت حقاً موجودة! فنحن نتحداك جميعاً بقوة إرادتنا وبإيماننا القوي بالله الواحد الأحد.. رددوا معي “قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، اله الناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس” اذهبي أيتها الأشباح إلى الجنة أو الجحيم وكفي عن إزعاجنا.. إني أتحداك أيها الشبح “التافه.. الشرير” وأيا كان اسمك فأسميك “كابوساً” لأنك بالفعل كابوس، وسأعيد تكرار اسمك المفترض خمس مرات.. وهكذا ساد الجو وجوم.. وشعر الجميع بأثر كهرباء ساكنة تلسع وجوههم وأطرافهم كما الناموسة المزعجة، وسحب الانثروبولوجي نفساً عميقاً قبل أن يباشر وصلته الأخيرة: اخرج من هذا البيت أيها الكابوس.. كابوس.. كابوس.. كابوس.. كابوس، وسأعطيك فرصة “الاستعراض” فلا بأس أن تصفح الباب أو النافذة خلفك.. وما أن أنتهي من نطق الكلمات الأخيرة، حتى ظهر شبح شخص إلى الوجود.. كان كائناً شفافاً عجوزاً كئيباً اصفر اللون.. بعينين حمراوتين مخيفتين. يبدو وكأنه مات منذ زمن سحيق.. وشعر الجميع بالرعب الخالص، فلم يتوقع أحد ظهور هذا الشبح، حتى عالم الأشباح المتماسك وعالم الانثروبولوجي الهادئ أصابهما رعب وقشعريرة أوقفت شعر رؤوسهم. وسمعوا صوتاً مخنوقاً يهمس “لست نبضة توق، ولست نسيماً مضمخاً برائحة الشعير بل أنا شيء عاصف.. أنا زوبعة شر!” بالفعل فقد تطايرت أكواب الشاي وتحطم زجاج بعض النوافذ.. وتحول النسيم العليل إلى ريح نتنة تعصف بوجوههم.. وساد صمت رهيب.. بعدها صرخت زوجة الكاتب، هدأ العالم من روعها، أجاب الكاتب بصوت مرتجف:
– أعتقد أنه لا مجال بعد الآن للمكاسرة والإنكار.. فقد ظهر الشبح الذي يعبث فساداً بهذا المنزل، ورسالته واضحة، فهو لا يريدنا هنا، وبالنسبة لي فالحمد لله فقد أشرفت روايتي على الانتهاء تقريباً وأنا أضع اللمسات الأخيرة على الفصل الأخير.. وربما هذا هو المشهد الأخير.. الخاتمة.. وإن كنت أعتقد أن هذه خاتمة كئيبة فأنا أريد بصيص أمل.. اقترحوا علي شيئاً. أجاب الانثروبولوجي:
– ها أنت تبدو متماسكاً أكثر منا جميعاً.. فكيف تدعي الخوف؟ أنا أقترح عليك خاتمة متفاءلة.. وهي ربما حقيقية.. فالشبح بالفعل قد غادر المنزل للأبد.. وقد نجحت أنا في تجسيده وإخراجه.. وقد خرج مرغماً ومطروداً.. أؤكد لكم ذلك!” وأيده عالم الأشباح مبرراً.
– بالفعل.. وما الريح النتنة إلا مؤشر على تحلله العضوي وانتهاء وجوده “الشبحي” وسترون ذلك في الأيام القادمة.
ناموا واستمتعوا بليلة هادئة لأول مرة في البيت المسكون، في الصباح استيقظوا على زقزقة الطيور وروائح الزهور التي اندفعت من الحديقة، قالت الزوجة للكاتب: هذه أول مرة نستيقظ على زقزقة الطيور ونشتم عطر الياسمين!! هل لاحظت؟!
استمتعوا بفطور لذيذ وحديث ممتع لأوامره، لعب الأطفال في الحديقة، بدا وكأنهم في رحلة سياحية.
– بالتأكيد ستنهي روايتك بطريقة سعيدة، يكفي أن تصف ما يحدث
قال العالم للكاتب، وأجاب الأخير:
– أجل، أجل.. أشكركم على صداقتكم وجدكم ومساعدتكم..
بدا وجه الزوجة مشرقاً جميلاً.. قالت وهي تهمس بصوت عذب من فم كرزي:
– سنصبح أصدقاء.. سنجتمع في منزلنا الجديد لكنا وأنت أيها الصديق الانثرولوجي ستحضر زوجتك وأولاد، فالفضل يعود لك.
غمرتهم أجواء من السعادة النادرة التي لا يستطيع الإنسان أن ينساها مدى الدهر، السعادة التي تطبع في الذاكرة “حنيناً” ساحراً.

– 21 –
في قاعة ضخمة مليئة بأجهزة التلفزة والتصوير والمراقبة قال مدير المشروع التلفزيوني لمساعده وهو يتنفس بارتياح:
– لقد انتهينا تقريباً.. فقد صورنا منذ قليل آخر مشهد في مسلسلنا المرعب المثير “منزل الأشباح”.. وقد كان والحمد لله مشهداً متفاءلاً حافلاً بالسعادة الطاغية، وقد جاء طبيعياً للغاية.. ومع انتهاء هذا الفعل، سنمهل الكاتب المبدع ليضع النهاية السعيدة.. هكذا نجحنا في آن واحد في تصوير مسلسل رعب يحبس الأنفاس، وفي إنجاز رواية مثيرة!
وأجاب المساعد:
– وماذا سيحدث سيدي إذا ما تم اكتشاف اللعبة بحذافيرها؟ كم ستكون صدمة قاسية للكاتب وزوجته إذا ما اكتشفوا ولو بعد حين أن كل ما دار في ذلك المنزل المزعج كان يقوم على الغش  والخداع؟!
– لا .. لكل شيء ثمن، وهل كان سيحصل على المليون دولار لو اكتفى بما تمليه عليه مخيلته الضحلة؟! هذا هو الجواب.. ثم لا ننسى براعتنا الفائقة في استخدام أدوات التصوير التلفزيونية التي زرعناها بصبر في كل زاوية حرجة عدا أجهزة تخليق الروائع التي عملت بكفاءة نادرة.. ولا تنسى أجهزة التنصت التي التقطت كافة الهمسات والأنفاس.. حتى أنفاس الحب الحميم لم تنجو من “آذان” أجهزتنا الفائقة الحساسية ثم استطرد بحزم:
– دعك من “نظرية المؤامرة”.. ومن قصص “كل شيء للبيع”.. و”الكل يتآمر” فقد سجلنا أحداثاً واقعية لمسلسل عالمي رائع، وسيراه الناس في أنحاء المعمورة وسنكسب من وراء ذلك الملايين.. لقد كانت فكرة عبقرية على أي حال ولم يسبق أن فكر شخص ما بإنجاز شيء من هذا القبيل.. هكذا لم نخدع أحداً بل إن الكل ربح، حتى المشاهد العادي سيستمتع بمسلسل تلفزيوني نادر.. هل فكرت بالجهود الخارقة التي بذلت لزرع مئة كاميرا داخلية وخارجية ثابتة ومتحركة وفي الزوايا المكشوفة والزوايا الخفية وحتى في الزوايا الحرجة!! حيث قامت هذه الكاميرات وتحت إدارتنا الماهرة باستخدام كافة العدسات الممكن تخيلها مثل عدسة “عين السمكة” وعدسة عين الطائر والعدسة البؤرية المقربة التي تركز على أدق التفاصيل.. وقاطعه المساعد متردداً وغير مقتنع:
– وماذا سيدي لو قام بمقاضاتنا بتهمة إيقاع الضرر النفسي به وعائلته، وماذا لو طلب تعويض مالي كبير؟! أجاب المدير وقد نفذ صبره:
– دعك من هذا الهراء.. لن أعيد وأكرر ما سبق وقلته عن المكاسب التي استفاد منها الكاتب والتي ستنعكس خيراً على زوجته وأطفاله.. ولكني سأصارحك بما يخيفني حقاً..
– ما الشيء الذي يخيفك سيدي.. أرجو المصارحة.
– حدثان لم يكونا من ضمن أحداث السيناريو.. الأول اختفاء العالم من قبل المركبة الفضائية.. ثم أحداث المقبرة وما تلاها من رؤيته لأشباح العراة الراقصة في الطريق العام!! بالفعل.. لقد كانت هذه أحداثاً حقيقية.. فقد غزا الفضائيون الغرباء أحداث قصتنا ثم انزعجت الأشباح من السيناريو المحكم داخل وخارج المنزل فقررت أن تثير الرعب والدهشة وأن تقتحم المسلسل بطريقتها الخاصة التي لم تخلو من السخرية والغرابة!! كذلك علي أن أتأكد من المشهد الأخير “ظهور الشبح واختفائه!” وأرجوك لا تخبر أحداً بما قلته، فحتى العالم وزوجته يعتقدان أن هذه الأحداث جزء من السيناريو، وهناك لجنة علماء “باراسيكولوجي” تنغمس الآن في دراسة هذه الظاهرة، والرأي الأولي يشير لحالة “استفزاز” نادرة أجبرت الأشباح الحقيقية على وضع بصماتها على الأحداث الجارية