آراء حرة ..
عبد الرازق مختار محمود – مصر د.
في المجتمعات القوية تُسلط دائمًا الأضواء على تلك النماذج المشرفة, التي تُسهم بكل السبل في تقدم هذه المجتمعات, والأخذ بيدها إلى المستقبل, وحين تفعل ذلك لا تخدع نفسها ولا تُضللها, فلا تجنح إلا إلى كل ما يقودها للعبور لهذا المستقبل بكفاءة.
فنجد المعلم يعطي المهابة مع القدسية, ويحصن المجتمع بالزود والدفاع عنه, ويقولون في أمثالهم: “لا تقف على ظل المعلم”, ناهيك عن الدعم المادي, وتشرف وافتخار الأسر بأن ينتسب إليها أحد المعلمين.
وعلى هذا المنوال, يعطي الطبيب, والقاضي, والعالِم, وغيرهم, ويتقدمون في هذا المجتمع, ويصبح في الصدارة كل أولئك الذين وجدوا لصنائع المعروف طريقًا في حياتهم.
وعندما يبحث المجتمع عن رديف يعضد هذه القدوات إلى الأرض ويحيي ذاكرته, نجد الأدب والفن يشمر عن كل طاقاته, يبرز تلك القدوات ويرتقي بها, وينسج حولها كل الألوان الشائقة التي تعلي قدرها وترفع شأنها, فيتناولها كل المجتمع صغيره وكبيره, وينشأ ناشئ الفتيان فيهم على تلك النماذج الضاربة في جذور الشموخ والرقي بصورة لا تخطئها العين.
أما في المجتمعات الزائفة التي يُراد لها أن تكون في ذيل القائمة, فتتأخر فيها تلك القدوات, بل يمكن أن نقول أنه يُبذل مجهود من أجل هدم أدوارها والتنفير منها, فالمعلم يمتهن ويُهان, ويصبح الانتساب إلى تلك الرسالة عذابًا يعلوه كل صنوف الاحتياج, حتى تسقط تلك القدوة في عين الجميع, فلا المتعلم يراه قدوة, ولا المجتمع يفخر بذلك.
وعلى هذا, دور الطبيب, والقاضي, والعالِم, وغيرهم من القدوات التي قادت المجتمعات للتقدم, تصبح أدوارهم كدور المعلم في الخلف, حتى لو على السطح بعض الشيء ماديًا أو اجتماعيًا, إلا أنه في الحقيقه لا دور له في قيادة المجتمع للمستقبل, يُقاد ولا يقود.
وفي خلفية كل هذا الزيف تقف أشياء أخرى تسهم في هذا السقوط, فنجد على السطح مهنًا دورها الحقيقي إحياء ذاكرة الأمم والارتقاء بقيمها وقدراتها وقدواتها, إلا أن العكس صحيح, فنجد مهنًا أصحابها يجنون أموالًا طائلة, بلا جهد, أو تعب, أو حتى عمل, ونجد كل روافد المجتمع تنفخ في هذا الزيف؛ فاليوتيوبر, والمغني, والفاشل, والراقص بجسده وقدمه ولسانه, هم القدوات في الكسب السريع والمكانة وتسليط الضوء.
في تلك المجتمعات الزائفة المفككة داخليًا لا يعلو إلا كل دخيل, ولا يتقدم الصفوف إلا الهش الضعيف في كل شيء ومن كل شيء, في تلك المجتمعات يُهدم كل مقدس, ويُهان كل مقدر, حتى لا يجد المجتمع عصمة إلا في الفراغ, فإذا أراد الالتفاف حول قيمة وجدها انزوت وأصبحت من الماضي, وأصبح صاحبها قديمًا لا يحسن أدوات العصر.
وإذا فتش جاهدًا عن قدوة, وجدها قد اخترقتها سهام تلك الفقاعات المتطايرة ليل نهار في وسائل الإعلام ووسائل التواصل, تطاردك بلا شيء في الشكل والمضمون.
في تلك المجتمعات الزائفة, يشعر العقل الجمعي أنه في الطريق الصحيح, في حين يدرك كل واحد أنه يسير إلى الهاوية بإرادته وبأدوات الآخرين.
في تلك المجتمعات,
الدين شكل,
والفن مضمون,
لا نجاة لتلك المجتمعات إلا بسيادة القدوات الحقيقية التي على أكتافها تبنى الأمم وتنطلق للمستقبل بثبات, أما الزائف, وهو في كل زمان ومكان ومن فجر التاريخ, ولكن لأنه زائف, فلا مكان له إلا التخفي والاختباء.
في الأمم الراقية القدوة قيمة تزاد رقيًا ورسوخًا بقدر ما تمد يدها لمجتمعها, تحمل عنه همومه وتدفعه للأمام ليتقدم على كل المستويات, حتي يجد له مكانًا في التاريخ عندما يسطر, ويُقال كانت هناك أمم راقية سادت فيها القيم, نذكر تلك الأمة بمن علا فيها من قدوات.
استقيموا يرحمنا ويرحمكم الله.
أ. د/ عبدالرازق مختار محمود
الأستاذ بجامعة أسيوط