كتابات ومواد دينية ….
بقلم : د . عبد الوهاب القرش – مصر …
” إذا لم يكن الدِّينُ خُلقاً دمثا، ووجهاً طلقاً، وروحاً سمحة، وجواراً مريحاً، وسيرة جذابة، فماذا يكون؟!” الشيخ/ محمد الغزالي؛
اتهام الآخرين بالخروج عن منهج السلف، وإدخال آخرين بالتبعية والحزبية والموافقة، منهجية بدعية ليس عليها السلف الصالح، بل السلف على خلاف ذلك، فإنهم كانوا يخافون على أنفسهم من الغرور والعجب، فقد كانوا كثيري اللوم والبكاء وهضم النفس، وبعيدين عن كل ما يتعلق بتزكية النفس والعجب وحب الظهور..فكانوا يقولون:عن نفسي لست براض كيف لي أن اتكلم في الآخرين..!
لقد ظهرت هذه المنهجية البدعية في تسعينات القرن الماضي، تصنيفاً وتسقيطاً..! حتى طالت كبار العلماء، ولم يسلم منها أحد إلا أنفسهم ثم تعدت إلى تسقيط بعضهم بعضاً..!
لقد تأجج الصراع بين القيادات لتصدر السيادة السلفية، وتسابقوا لتأييد الحكام والدفاع عنهم، وتسقيط الجماعات الإسلامية العاملة في الساحة الدعوية، وكلها تدَّعي وصلاً لليلى .. وليلى لا تقرُّ لهم وصالا.!
كردة فعل على ظاهرة الغلو والتكفير والتي ظهرت في بطون السجون المصرية، واقبية التعذيب، في كثير من سجون الدول العربية، ثم نمت وترعرع في أفغانستان وكبرت واستفحلت في العراق ..!
إن هذه الظاهرة تمثل تزكية النفس والتآلي على الله والأمن من مكر وتعريض النفس لسنة الجزاء من جنس العمل..؟!
فرخت وانتشرت فأضحت بدعة مرضية لا تحسن الا الطعن والتسقيط..!..يقول الله تعالى{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}(النساء:49).
وقد أوغل قادة أدعياء السلفية في تدجين الناس وتركيعهم للطواغيت بحجة وجوب طاعة ولي الأمر غاضين الطرف عن حقيقة أن طاعة ولي الأمر مشروطة وليست مطلقة. فهم طوال اللسان في حقوق “ولاة الأمر” لكنهم صم بكم بشأن واجباته – بل شروط اختياره التي لا يتطرقون إليها لا من قريب ولا من بعيد.
الحق نقول: لا يوجد اليوم ، أحد من هذه التيارات يسير وفق منهج السلف الصالح بمفهومه الشمولي الذي يريده الله سبحانه وتعالى. فأكثر الناس ادعاءاً له ، والذين ينظر إليهم على أنهم أصحاب المنهج السلفي ، غاضون الطرف – بعمومهم – عن كثير من أسس العقيدة ومقتضيات التوحيد الذي يظنون أنه علامة فارقة تميزهم عن غيرهم من الفرق والمناهج..أكرر رأينا هنا عن الأعم الأغلب وليس الإطلاق، ومن شذ عن القاعدة فبين مسجون ومطارد ومكمم الفم.
السلف الصالح: عقيدتهم هي الإسلام الخالص الذي جاءنا به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وترك أمته عليه محجةً بيضاءَ ” ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك”. و السلفية الصحيحة نسبة إلى سلف الأمة الصالح، وتحديداً القرون الثلاثة الذين شهد لهم النبي عليه الصلاة والسلام بالخيرية بقوله: “خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم”.
فهي، إذن، ليست منسوبة إلى حزب من الأحزاب أو تيار من التيارات التي تنسب إلى أشخاص كالجامية أو السرورية أو المدخلية أو القطبية. وهي ليست تياراً أو منهجاً محدثاً يقابل المنهج الإخواني أو الصوفي أو الأشعري أو الإرجائي .. الخ، وإنما منهج أهل السنة والجماعة القائم على فهم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة بلا دخن أو تمييع.
العجيب أننا نسمع اليوم كثيراً من التسميات والعناوين على أنها “نسخ أو طبعات” من السلفية، كالسلفية الجهادية والسلفية العلمية والسلفية الحركية والسلفية الفقهية والسلفية الحديثية والسلفية المنهجية.. الخ. وهذه كلها أسماء محدثة ما أنزل الله بها من سلطان.
عقيدة السلف الصالح –رضي الله عنهم أجمعين – منظومة ربانية متكاملة متوازنة. فهي إيمان وعمل، جهاد ودعوة، دين ودولة، حقوق وواجبات، ذكر وفكر، انتماء وراية، خشوع في العبادات وخشونة في المعارك والملمات..أما حصر السلفية الصحيحة في “جهادية” أو “علمية” أو “دعوية” تبعيض وتبضيع لدين الله ورميه بالنقص وهو المعصوم المتكامل.
يحسب لهؤلاء حثهم على دعوة الناس على التوحيد الخالص والعقيدة الصافية واتباع الكتاب والسنة، لكنهم يغفلون مسائل كبرى خطيرة تخالف الكتاب والسنة مخالفة صريحة يدفع المسلمون ثمنها دماءً وأعراضاً ومسخ عقيدة وهوية؛ ومن هذه المسائل:
أولاً: مفهوم الأمة: فمفردة “الجماعة” في عبارة “أهل السنة والجماعة” تعني الأمة التي أرادها الله أن تكون خير أمة أخرجت للناس، وحدد لها مقومين لهذه الخيرية: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. لكن هذا المفهوم – بتوابعه – غائب أو مشوش لدى عموم مدعي السلفية هؤلاء. فهم محكومون بحدود سايكس- بيكو في تحديد معنى الأمة وليس بالمفهوم القرآني.
ومن أعراض هذا الفهم القاصر أن نجد من المشايخ المتسلفين من يتكلم – مثلاً – في آداب الجماع أو أسرار السعادة الأسرية أو دماء الحيض في نفس الوقت الذي تسيل فيه دماء إخوان له وتنتهك أعراض أخوات له في بلدان أخرى مجاورة، وكأن أمرهم لا يعنيهم!
وفيما يتعلق بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو عندهم يخص حدوداً جغرافية حددها المحتل الكافر – وقفوا عندها وليس عند حدود الله.. ويطبقونه على الفقراء دون الأمراء!
ثانياً: الولاء والبراء: كثير من العلماء يسهب في الحديث عن هذا المفهوم ويؤكد على ضرورة تولي المؤمن والبراءة من الكافر ضمن حدود المسجد ومع تلامذته أو مريديه؛ لكن هذا لا يشمل حاكمه وإن تولى الكافرين وظاهرهم على المسلمين!
ثالثاً: الحاكمية: هذا المفهوم مقتصر على الآخرة حسب عموم هؤلاء المشايخ، ولا دخل له بالدنيا، فللحاكم أن يحكم بما يشاء ولو أسخط الله وأرضى أعداءه، ويوالي من يشاء ويعادي من يشاء، ويرزق من يشاء إلى درجة التخمة وبذخ المليارات على اليخوت والطائرات والقصور الفارهة والقنوات الفضائية الماجنة، ويحرم من يشاء من حقه في مال الله ليعيش تحت الجسور أو في بيوت من صفيح – في بلاد تطفو على بحر من النفط! ولا ندري أين هذا من السلفية التي يزعمون؟!
رابعاً: الجهاد: ذروة سنام الإسلام، لكنه اليوم معطل إلى أجل غير مسمى ولأعذار هي أوهى من بيت العنكبوت، ولكنه قد يكون واجباً فجأة في زمان أو مكان ما.. حسب الظروف المناخية..!.
خامساً: الخلافة: أمرنا الله بإقامتها لأنها شرط لإقامة الدين وديمومة الأمة وتحقيق الحاكمية وتلبية واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى سبيل الله والجهاد وغيرها من الواجبات الشرعية التي ضاعت بضياعها.
سادساً: تطبيق شرع الله: يبالغ هؤلاء “المتسلفون” في الثناء على تطبيق شكلي وجزئي للشريعة ضمن رقعة جغرافية معينة دون باقي بلدان الأمة، ويظهرونها على أنها تحكم بالكتاب والسنة بامتياز، وكأن أرض الله الواسعة قد اختزلت ضمن هذه الحدود التي رسمها البريطانيون والفرنسيون بالأمس ليحكمها الأمريكيون اليوم!
سابعاً: واجب التبيين وعدم كتمان الحق: حمل الله علماء الأمة أمانة تبيان الحق للناس وعدم كتمانه: “.. لتبيننه للناس ولا تكتمونه”. فكم من الخفايا كتمت، وكم من خطب التلميع والتمييع ألقيت.. وكم من الفتاوى المتناقضة حسب أهواء الحكام صدرت!
يعتقد أتباع “السلفية الجهادية” أن حالة الذل والتمزق التي تعيشها الأمة هي نتيجة تركها الجهاد والركون إلى الدنيا، وأن استعادة الأمة لعزها ومجدها مرهون بحمل السلاح وقتال العدو.
هذا الكلام لا غبار عليه من حيث المبدأ؛ فلا شك أن الجهاد ذروة سنام الإسلام وتركه ضياع للأمة وذهاب لريحها، لكن المشكلة في طريقة تنفيذ هذا الفرض وسوء تطبيق مفهوم الولاء والبراء إلى درجة تضيع معها الخطوط الفاصلة بين المؤمن مستحق الولاء والكافر مستحق البراء. فكم من مسلم برئ قتل بالشبهة، وكم من حادث تفجير أساء للإسلام والمسلمين بدلاً من درء مفسدة أو جلب مصلحة!
النظرة الجزئية والسطحية لأتباع هذا التيار إلى الجهاد، وإغفال لوازمه ومقتضياته قبل “العمليات القتالية” وأثناءها وبعدها أضر بالمسلمين في كثير من البلدان، وولد حالة من الرفض والاستياء لدى عامة المسلمين بدأ بالتململ وانتهى بحمل السلاح ضدهم – في العراق مثلاً.
إنّ تشدد هذا الفكر في اقتصاره على الأعمال المسلحة التي قد لا تميز بين عدو وصديق – يقابله تساهل في تكفير أو قتل من يعارض فكرهم وسلوكهم – جعله عرضة للاختراق من قبل العدو.. ليكون أداة بيدهم ضدنا بدلاً من العكس.
وللإنصاف أقول: أصحاب هذا التيار الحقيقيون (وليس المخترقين) أشد الناس – برأيي- غيرة وشجاعة وإخلاصا لله، وما قاموا به من عمليات قتالية دفاعية في أكثر من بلد إسلامي لا ينكرها منصف، لكن النية ليست كافية من دون صحة العمل وموافقته للشرع الحنيف.
ما نعانيه اليوم من تبعات هذا الفكر نتيجة طبيعية لتجاهل الفكر السائد على أنه سلفي للأمور التي ذكرتها آنفا؛ فهو إفراط تيار سلفي نتج عن تفريط تيار سلفي آخر. فتخلي رموز ما يسمى بالتيار السلفي ” العلمي ” أو ” الفقهي ” عن واجباتهم الشرعية بشأن الموقف من أعداء الأمة وممن يواليهم من بني جلدتنا، وتفرجهم على جراح الأمة الثاعبة في شرق الأرض وغربها أنتج فكراً متطرفاً كردة فعل طبيعية من حيث السبب لكنها كارثية من حيث النتيجة. وبين انبطاح هذا الطرف وتطرف ذاك ضاعت الأمة وسقطت فريسة لأعدائها من روافض وصليبيين وصهاينة وبوذيين.
فلو كنا أمة ذات خلافة إسلامية وراية وهوية وشوكة لكان كل شيء على أصوله الشرعية بلا إفراط أو تفريط: الجهاد والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلاقة الأمة بغيرها من الأمم، وعلاقة الحاكم بالمحكوم… ولما شاع فينا التطرف الفتاك بهذا الكم والنوع.
هناك حالة كبت متراكم لدى شريحة من المسلمين ” الجهاديين ” ناتج عن تزايد حالات تقصير مستفحل من قبل أهل الحل والعقد السياسيين والدينيين تستوجب الإصلاح.. فتكالب الأعداء على الأمة وتلاعبهم بمصيرها، وتواطؤ بعض الحكام المسلمين معهم، ومداهنة الطبقة المؤثرة من علماء الدين لهم وسكوتهم على ظلمهم وتسترهم على خياناتهم.. كل هذه أسباب كافية لتوليد حالة رفض عارمة لدى الغيورين من المسلمين.
إن الواجبات الشرعية والأخلاقية التي تحتم إنكار هذه المنكرات والسعي لتغييرها تمثل حاجات أو دوافع تقابل بالقمع بدلاً من التنفيس عنها، فولدت انفعالات نفسية لم تجد ما يصرفها بطريقة مناسبة فتُرجمت على شكل تصرفات غير سوية. وهذه نتيجة طبيعية إذا ما أردنا تلافيها فلا بد من تلافي مسبباتها.
دعاة السلفية الحقيقيون الذين نريد لفكرهم أن يسود هم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والإمام أحمد بن حنبل وسلطان العلماء العز بن عبد السلام وغيرهم ممن قدموا السلفية على حقيقتها بجميع جوانبها دون انتقائية: علم ودعوة وجهاد وتبيان للحق وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وتحملوا في سبيل الحق ما تحملوا دون خنوع أو مداهنة.
في يومنا هذا ، الأمة الإسلامية في أشد الحاجة إلى شيخ إسلام حريص على شؤونها ويسهر على مصالحها كما كان يفعل الخامنئي مع أتباعه الشيعة في كل مكان، لا شيخ إسلام صامتٍ يتفرج على مذابحنا ، ولا ينطق إلا إذا سئل ، فيجيد الإجابة في أي مجال عدا السياسة ، وما يتعلق بها خوفاً من السلطان ومراعاة لارتباطه الانبطاحي المخزي بأعداء الأمة.
لا خلاص للأمة الإسلامية مما تعيشه اليوم من تشتت، وضعف وقتل وتشريد وانتهاك أعراض إلا بالرجوع إلى الله وتطبيق شرعه نهجاً شاملاً غير انتقائي أو مجتزأ . وما تحتاجه الأمة هو مشروع إسلامي عالمي يقوم على ثلاثة أبعاد:
“البعد العالمي”: أيْ “القرآني”؛ حتى لا يخلط بتقاليد الشرق الأوسط وماضيه، وللحيلولة دون انغلاقه على نفسه.
“البعده الروحي “: وهو بعد الحب الكامن فيه، الذي دافع عنه كبار الصوفية من ذي النون المصري، إلى ابن عربي؛ فقد دافعوا عنه ضد كل الشكليات والحرفيات الجافة.
“بعده الاجتماعي”: وذلك بالتخلص من الأنانية، واستبعاد المصالح المتضاربة، حتى تشتعل روح الإسلام الثورية، ولا يكون وسيلة لخدمة بلاط الأمراء.
باختصـــــار؛ إن الأمة الإسلامية في حاجة إلى نهضة تجديدية تحريرية خاصة بها، حتى تقوم من كبوتها التي صنعها العقل الاستبدادي المتعصب العقيم!!.
د/عبدالوهاب القرش