جدارية على وجه الذاكرة- قصة : وليد رباح

القصة …
قصة : وليد رباح – نيوجرسي …
عندما ترسم سنابل القمح على قرص الشمس اغنية الوداع .. وتترنم عصافير البيادر بالزقزقة الحائرة .. وتظهر الشمس في الافق الاحمر ناعسة تحتاج للنوم .. تترنم أمي باغنية حزينة تذكر السنابل في حقلها الضائع .. وفي نهايتها ترشف بعض قطرات من القهوة المرة ثم تصمت .. ثم يرتفع صوتها مجددا حزينا ممزقا وهي تقول بصوت جهوري يزعجني : (يا ويل اللي طحينه انتعف بالشوك يصعب عليه لمه) ..و تصمت ثانية ; كأنما قد اصابها الخرس .. تنظر عيناها الى البعيد البعيد من خلال كوة صغيرة ممزقة في خيمة اضاءتها الشموع .. فها هي الجبال المرتفعة الى عنان الغيم تخطط لنوم عميق لا تصحو منه الا عندما تستمع الى زقزقة العصافير وهي تحث صغارها على النوم لان اليوم ما زال مبكرا .

كنا في بيتنا خمسة ..  وهنا في خيمتنا لم نزل خمسة .. في جوانبها ترفو امي ثوبا ممزقا لابي علق بالاسلاك الشائكة التي سور بها مارسنا الذي استولى عليه من اغتصبه قوة وجبرا .. وانتقل الثوب معنا الى حيث الخيمة ..  هناك ..كانت تقول لابي همسا .. لا تذهب الى الحقل يا علي .. فيه اناس غرباء .. ان ذهبت فلا تعدم طلقة تأتي الى رأسك فنفتقد الرغيف .. يقول لها بصوت مختنق .. فليكن .. تعبي منذ طفولتي حتى يفاعي تأكله ديدان الارض التي عششت في شوارعنا وازقتنا دون ان نشتري السكاكين التي يمكن ان تفجر البطون .. اسمع صوتها يأتي اليه هامسا .. ولكن هناك من يمتلك البنادق وهم يقتلون كل من يقترب من الارض .. يقول لها .. ما نفع البنادق القديمة امام السلاح الذي يجرح من يحدق فيه .. ثم يتدارك.. لكننا سوف نواجههم ولو بحدقة العين .. سنعيد الحقول ثانية ..

انظر الى وجه ابي وقد امتقع فأقول : لماذا يقتل هؤلاء الغرباء الناس ويستولون على الارض قسرا .. ينظر ابي الى وجهي الذي حف به النمش الشمسي ويقول بصوت خافت .. لانهم غرباء .. والغرباء دائما يأتون وفي ايديهم البنادق .. اقول له : فليأخذوا الارض .. نحن لا نريدها لقاء الدم .. تجحظ عينا ابي ويأتي الي بخطوات تخيفني ويصفعني على وجهي .. لا تقل هذا يا ابن الزنا .. ان كررتها ثانية ساقتلك .. لا افهم ما الذي اثاره .. غير ان امي جاءت واحضنتني وقالت بهمس : لا تقل هذا يا يمه .. انت ما زلت صغيرا  .. انت لا تعرف ان الارض قد جبلت بعرق الاف السنين وهو ينسرب الى ابدان من كانوا فيها يعزقونها وينتظرون المواسم القادمة . أصمت .. ثم ابكي .

في الخيمة كنت اقول لها : يا يمه .. خذيني الى حضنك الدافىء .. اني ارتجف بردا .. يا حبيبي .. الخيمة ضيقة .. كلنا نغطي اجسادنا بلحاف واحد .. يلتصق بعضنا بالبعض فيسحبه من في الاطراف فيصيب الزمهرير الباقي .. قلت لك مرات ومرات .. دعيني انام في الوسط .. تقولين .. ان الوسط لاختك التي ما زالت طفلة طرية العود .. ولكن يا يمه .. لماذا تستأثرين انت وأبي بالاطراف .. للحفاظ عليكما من اللصوص يا ولدي .. وهل يسرق اللصوص الولدان .. اصمت يا يمه ونم .. انت كثير الاسئلة .. حسنا .. في الليلة المقبلة سأنام في حضن ابي .. فهو لا يزجرني .. اتنسى انه لطمك يوما .. لكنه استرضاني .. اعطاني بعض المليمات فاشتريت عرنوسا من الذرة ..

يصحو ابي من نومه القلق فيزجرني .. انت مثل اولاد الحرام .. لا ينامون ولا يتركون الناس تنام .. هللا اطبقت فمك فنأخذ بعض قسط من الراحة .. يا ابي اني ارتجف من البرد .. اذن تعال الى حضني فادفؤك .. حسنا .. تنقلت فاذا باللحاف يعلق بقدمى فينثره على بعد من الاجساد النائمه .. صرخ الجميع بصوت واحد .. ما الذي تفعله .. قد متنا من البرد .. يستقبلني ابي باسما رغم النعاس الذي ارتسم في عينيه .. تعال الي يا ولدي .. سادفؤك ..

تسرب الضوء عبر قماش الخيمة .. ادركت ان الصباح قد ظهرت تباشيره .. وجدت العرق ينساب من جسدي فنظرت الى اخوتي فاذا بنا ثلاثة .. حدثت نفسي : اذن هذا هو السر الذي شعرت فيه بالدفء فاللحاف غدا لنا سويا .. ابي غائب كما هي امي .. الصمت يلف المكان سوى بعض غثاء من ماعز جارنا عبد الله .. نهضت الى باب الخيمة ونظرت حولي .. كان الجو باردا جدا فلم اطق الوقوف لفترة طويلة .. عدت بعدها وانغرس جسدي تحت اللحاف .. بعد لآي سمعت خطوات خارج الخيمة فنهضت سريعا .. كانت امي تحمل على كاهلها بعض الحطب .. ولجت الى الخيمة وعبر الكانون الذي كان يعطينا بعض الدفء اشعلت عود الثقاب فاذا بالنار تتوهج .. نهض اخي وظلت الصغيرة نائمة .. تجمعنا حول النار نمد ايدينا قرب الكانون .. فكرت .. لماذا نمد ايدينا قرب النار مع ان اجسادنا باردة .. هل يتسرب الدفء من اليدين الى الجسم فيعطيه الدفء .. اعتقد لا .. لكنها العادة .. اذ لا يوجد في جسد الانسان عندما يصيبه البرد سوى يديه .. هل يعقل ان يمد رجلية مثلا .. هذا عوضا عن معركة سوف تحدث بين الاسرة .. لان ضيق المكان لا يسمح لنا بمد ارجلنا .. قالت امي وهي تنكث النار بعود صلب .. لا تخرجا من الخيمة .. زمهرير الصباح سوف يصيبكما بالزكام .. عندما تخبو النار سوف اذهب لاقضي غرضا وسأعود سريعا .. قلت لها : هل تغيبين طويلا .. قالت .. ساعة او دون ذلك .. قلت هل ساعة تعني بزوغ الشمس كي نتدفأ .. قالت : ساعة تعني مثلما نذهب الى المدينة مشيا على اقدامنا فنصل بعد ساعه .. ادركت ان سؤالي كان غبيا .. ضحكت عن اسنان مهترئة وقالت .. انت الوحيد الذي يسأل دائما .. لماذا لا تريحنا وتستريح .. قال اخي الذي يكبرني بسنتين .. ان لعنته تصيبني في كل ليلة .. يسرق اللحاف عن جسدي فيصيبني الزكام .. قلت له : على رسلك .. لقد رأيتك مكشوف الجسد ليلة اول من امس فغطيتك .. وجلست في زاوية الخيمة وقد وضعت على جسدي سروال ابي العتيق الذي رفته امي حتى اتدفأ .

قالت امي قبل ان تغادر .. هناك رغيفان وشيئا من (المرجرين) اهدتهما لنا وكالة الغوث .. كلا رغيفا واتركا الباقي لنا عندما نعود .. قلت .. وهل يكفي رغيفان لاسرة تعدادها خمسة .. قالت : اصمت والا ناولتك بالكندره .. ضحكت وقلت : ولكن الكندرة اصلا مهترئة .. فاذا ما استخدمتيها فان عقدها سوف ينفرط وتبقى اقدام ابي حافية لا ينتعل سوى شوك الطريق .. تنبهت وقالت : يا ويلي .. هل ذهب ابوكما حافيا .. نظرنا الى وجوه بعضنا .. كان الليل قد لفظ انفاسه الاخيرة .. وبدأت الشمس تشرق من وراء الجبال العالية .

عندما بدأ الدفء يلف اجسادنا مهرنا قماش الخيمة كل بكفه واصابعه الخمسة .. كان في زاوية الخيمة بعض  طلاء في علبة وجدها ابي على مزبلة المدينة .. اصبحت العابنا يوميا ان نمهر الخيمة من داخلها ببعض الطلاء .. يأتي ابي فلا يحدثنا ولا نحدثه .. ينظر الى الطلاء ويبتسم .. اما امي فكانت تعترض على ما نفعل .. يقول لها ابي .. دعيهم .. ان اصابعهم الصغيرة تعطي سماكة لقماش الخيمة .. فيأتينا بعض دفء ..

في يوم ضحكت لنا الشمس واعطتنا بعضا من دفئها .. اخذتني امي الى السوق وقد افترشت بعضا من حبيبات القمح كانت تلمها من وراء الحصادين في الصيف وادخرتها للحاجة .. دقت السنابل بمدقة استعارتها من الجيران فاصبحت السنابل قمحا يتحلب الريق لبعضه بعد ان يقلى على النار الحطبية .. فرشتها .. على شرشف واخذت تنادي من يشتري .. وفي لحظة جاء عسكري قمىء لكي يقوم بملاحقة الباعة حتى لا يسفه وجه المدينة .. لم تنتبه امي اذ كنا في مقدمة من يبيعون .. قام بالدوس على حبوب القمح فانتثر معظمها في الرمل فبكت امي وصرخت انا .. قالت له امي خاف الله .. انه قوتنا .. قال : ان لم تغلقي فمك سآخذك الى مركز الشرطة وهناك نشبعك ضربا .. اذهبي من هنا .. انتم حثالة .. ماذا لو مر بنا سائح ونظر الى بضاعتكم التي تشوه وجه الطريق .. ثم غادر بعد ان داس حبيبات القمح بقدميه . وعند مغادرته بدأت امي تلم حبيبات القمح واحدة اثر الاخرى وتضعها في كيس قماشي .

عدنا الى الخيمة فاذا ابي وحيدا .. اخي الكبير يلعب ( طابة الشرائط) مع بعض الاطفال .. اختي تبني بيتا من الرمل خارج الخيمة .. ولجت امي الى الخيمة .. اما انا فقد نصحت اختي الصغيرة ان تدلق بعض الماءعلى الرمل فيتحول الى طين يمكن ان يثبت عندما تبني بيتها .. هرعت من ساعتها الى (الزير) الذي يحوي بعض الماء وجاءت بكأس منه ثم دلقتها على الرمل واخذت تجبله بيديها .. سمعت ابي يحاورامي في الخيمة قائلا .. لماذا لم تشتك ذلك الشرطي الى المخفر .. قالت .. يا رجل .. من يرسله هو المخفر ولا يتصرف الشرطي الا بناء على اوامر منهم .. قال : اذن ماذا نأكل .. ليس في جيبي حتى ( نكلة ) كي اتصرف .. قالت .. ان الله لا يضيعنا .. سأذهب الى بعض الجيران علهم يقرضوننا عشرة قروش يمكن ان نتعشى بها .. وهكذا دلفنا جميعا الى الخيمة بعد ان اخذ الظلام يرسل سدوله الى الافق .

تأخرت امي كثيرا بعد ان ذهبت الى الجيران .. غابت اكثر من ساعة .. وعندما عادت كان في يديها بعض  ارغفة طابونية وقالت لابي فرحه .. لم اجد من جيران المخيم من يمتلك مالا .. وقد نفحتني جارة بعيدة ببضع ارغفة نأكل بعضها ونترك الباقي للغد .. نظر اليها ابي بعينين كليلتين .. حسنا .. سأذهب غدا الى المدينة علني اجد عملا يمكن ان يدر علينا بعض النقود .

جاء ابي عند المساء وقد انفرجت اساريره .. قال لامي .. ابشري .. لقد وجدت عملا في شركة للباصات في مدينة نابلس .. اني انطر السيارات التي يأتي بها السائقون بعد رحلتهم من نابلس الى مدينة القدس بانتظار الغد كي تتوجه للقدس ثانية .. فرحت امي .. وفرحنا جميعا .. واخذنا نحن الصغار نرقص على ارض الخيمة فجلب الرقص لنا بعض الدفء ..
في الايام التي تلت .. كان ابي يحضر لنا كثيرا من الفواكه .. سألته امي : يا علي .. هل تسرق هذه الفواكه .. قال لها مكشرا .. يا امرأة : هل تعرفينني سارقا .. ان الفواكه تأتيني من السواقين الذين يأخذون من الفلاحين بدل النقود تفاحا وعنبا وخوخا .. اذا اردت ان تأكلي فهي امامك .. وان لم تريدي فدعيهم لاطفالك .. وهكذا بدأت الحياة تضحك لنا من جديد ..
سارت بنا الحياة خببا فبدأت احوالنا تتحسن .. وفي غضون ذلك ..قال ابي للصغار .. اسمعوا .. انا لم اتحصل على علم تنتفعون به .. منذ الغد سآخذكم الى مدرسة المخيم كي تصبحوا رجالا تنتفع العائلة بهم .. وهكذا بدأنا.. وظللنا في مدرسة المخيم حتى وصلنا الى نهاية هذه القصة ..