اراء حرة (:::)
بقلم : تميم منصور – فلسطين المحتلة (:::)
حالات الشذوذ والانحراف والتدهور الاجتماعي والنفسي كثيرة ، لكنها من النادر جداً أم تجتمع كلها في شخص واحد وأكثر ، وحسب رأيي أنه أصبح بالإمكان إضافة نوع جديد من الشذوذ ، وهو الشذوذ السياسي ، لكن الفرق بي الشذوذ السياسي وبقية أنواع الشذوذ التي وردت ، ان القائمة الأولى من هذا الشذوذ يمكن أن تصيب فرداً أو فئة صغيرة ، لكن الشذوذ السياسي فضرره جماعي أكثر منه فردي ، لأنه يمكن أن يتواجد داخل حركة أو حزب أو أي تنظيم آخر ، ولكن خطورته تكون مضاعفة مرات ومرات ، عندما يصيب دولة كاملة ، ويعشش داخل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية ومؤسساتها الثقافية والاقتصادية وحتى الرياضية منها ، كما هو الأمر بإسرائيل وامريكا حالياً ، وكما كان سابقاً في جنوب افريقيا عندما كانت خاضعة لنظام الابرتهايد ومستعمرة انغولا قبل استقلالها وغيرها .
ما يميز اسرائيل انها أصبحت مغايرة في كل شيء نسبة الى الدول الأخرى في العالم ، ولا نبالغ اذا قلنا حتى في مناخها ونباتاتها وطيورها ، لقد أصبحت اسرائيل كالبعير الأجرب ، بالإمكان اشتمام رائحتها من بعيد والنفور منها ، والغريب أن هذه الرائحة التي لا تفارق قياداتها السياسية تزيد من نشوتهم وسكرهم فيزداد انحرافهم وشذوذهم .
لا يوجد دولة في العالم تركز على الانتماء الديني والقومي والجغرافي والسياسي لدى مواطنيها أكثر من اسرائيل ، خاصة عندما يتعلق الأمر بإصدار بطاقة من البطاقات لمواطنيها ، والهدف من هذا التركيز على الشخصية الفردية ، ليس من أجل خدمة المواطن ، بل من أجل تحديد دوره وموقعه في المجتمع ، ومن أجل المقارنة والتمايز بين موطن وآخر ، لأن توفير المساواة المقرونة بالحرية الكاملة لهذا المواطن ، لا تولد معه بشكل تلقائي وطبيعي كما هو الأمر في الدول التي تتمتع بالديمقراطية المطلقة غير المشروطة .
ما يحدد حجم المساواة واتساع مساحاتها ليست قوانين الدولة الخاصة بذلك ، ما يحددها صورة ولون ونوع الانتماء الديني والقومي بكل صراحة ، ان خارطة توزيع الحقوق مليئة بالتضاريس ، ولونها يختلف بين كل مواطن وآخر أو فئة وأخرى ، أو مدينة وأخرى ، وطائفة وأخرى ، وقرية أخرى ، وربما حارة وأخرى كما هو الأمر في المدن المختلطة .
لم يبق دولة في العالم تعتبر نفسها متطورة وديمقراطية تلاحق وتحاسب مواطنيها وتحدد قيمتهم ومراكزهم في المجتمع حسب انتماءاتهم الدينية او القومية سوى اسرائيل ، ولا يوجد دولة تعتبر نفسها ديمقراطية ومتحضرة و تصر على تدوين اسم الطائفة ونوع القومية لمواطنيها للانتقام منهم سوى اسرائيل ، والعديد من الدول التي لا تعترف بأنها ديمقراطية ، كالسعودية ودويلات الخليج وغيرها ، الأسباب معروفة وهي أن اسرائيل لا تثق بقطاع كبير من مواطنيها ، خاصة العرب منهم فتضعهم دائماً تحت مجهر القوى الأمنية لملاحقتهم ومطاردتهم إذا لزم .
من المعروف أن فرنسا اعتبرت في الماضي القريب من كبار الدول الاستعمارية ، وانها لم تتنازل عن أية مستعمرة من مستعمراتها من ذاتها ، لكنها قررت الفصل بين الدين والدولة منذ قيام الثورة الفرنسية عام 1789 ، وحتى اليوم فإن وزارة الداخلية ترفض أن تقوم بتسجيل أو تحديد الانتماء الديني لهذا المواطن أو ذاك ، حتى لو كان هذا المواطن من أصل المهاجرين الذين قدموا الى فرنسا ، ليست هناك أية اشارة لنوع الديانة ، فيما اذا كان حامل البطاقة مسيحياً ، مسلماً ، يهودياً أو بوذياً .
أشارت الى هذه الحالة من جديد عضوة في البرلمان الفرنسي وتدعى ” كعاسة مسيّة ” عندما سألها صحفي اسرائيلي من صحيفة ” هآرتس ” ويدعى ” نيشان هوروفتش ” كم عدد الأعضاء المسلمين في البرلمان الفرنسي ، لقد دهشت من هذا السؤال ، لكنها صفعته في اجابتها عندما قالت له : أنا لا أعرف كم عدد الأعضاء المسلمين في البرلمان الفرنسي رغم انني عضوة فيه ، وأضافت هذا لا يهمني ، نحن لا نسأل المواطنين عن انتماءاتهم الدينية ، جميع أعضاء البرلمان هم فرنسيون ، والانتماء الديني شيئاً خاصة يتعلق بالفرد ، لا شأن لنا فيه ، وعندما يسألها الصحفي الاسرائيلي عن عدد المسلمين في فرنسا ، أجابته في الحال ، العدد لا يقلقنا لأن فرنسا دولة علمانية وهناك فصل قاطع بين الدين والدولة ، والدولة تمنح الحقوق للمواطنين ليس حسب انتماءاتهم الدينية أو حسب الانتماء القومي الأول كما أنه لا يوجد أية خانة خاصة بالانتماء الديني داخل الاستمارات الخاصة في حالات القيام بإحصاء كامل للسكان .
ربما تكون هذه الاجابة مثالية لا يتم تطبيقها على أرض الواقع ، لكن يبقى التمييز القومي في فرنسا وغيرها من الدول الديمقراطية في العالم بعيداً في واقعه وحجمه عما هو عليه في اسرائيل ، فإسرائيل منذ قيامها قامت على حساب قهر وتدمير شعب آخر ، وصممت أن يبقى شعارها استمرار للشعار الذي قامت عليه مملكة يهودا في يوم من الأيام ، هذا الشعار يقول ” بالخراب والدماء سقطت يهودا ، وسوف تعود فقط بقوة الحراب والدماء ” فإسرائيل دولة شاذة في كل شيء ، ومزيفة ولصوصية ، فقد نادت في وثيقة الاستقلال بشعارات المساواة بين كافة مواطني الدولة ، لكن هذه الشعارات لم تخرج من الناحية العملية وعلى ارض الواقع عن نطاق السطور والصفحات التي صيغت فيها .
هل يوجد دولة في العالم تضع ما يقارب من خُمس سكانها دائماً في زوايا الشك والاتهام ؟ هل يوجد حتى اليوم دولة في العالم تستخدم المواطنة سلاحاً لمحاربة وقهر مواطنيها ؟ المواطنة الاسرائيلية تلاحق المواطن العربي على الحواجز وفي المطار و في الموانىء والجامعات والمدارس ، والتمييز في الميزانيات للسلطات المحلية ،عدا عن باقي الوزارات التي تنظر الى العربي نظرة العدو وليس المواطن والشريك .
ما يميز الصلف الاسرائيلي وشذوذ الدولة السياسي أنها تتباهى بعنصريتها أمام شعبها وأمام جميع المنظمات الدولية وشعوب العالم ، آخر صورة من صور هذه المباهاة التقرير الذي نشرته صحيفة ” هآرتس ” في عددها الصادر يوم الثلاثاء الماضي ، وقد تم نشره من قبل وزارة المعارف كشفت من خلاله عن اسماء المدارس الثانوية المتفوقة في المجالين التربوي والتعليمي ، وقد اتضح ان عدد هذه المدارس 261 مدرسة ، تم توزيع هذه المدارس كما ورد في التقرير حسب انتماء طلابها وادارتها الدينية والقومية والطائفية ، فهناك مدارس يهودية تابعة للقطاع الديني ، وهناك مدارس علمانية ، وأخرى مسيحية ودرزية وبدوية ، وقد اتضح ان نسبة المدارس العربية المتفوقة بما فيها الدرزية والبدوية والمسيحية لم يصل الى 12% من المجموع الكلي للمدارس المذكورة ، ان هذه التجزئة الطائفية تعكس النوايا الحقيقية للمؤسسة الحاكمة في اسرائيل ، كما ان هذه التجزئة شوهت قدسية التربية والتعليم .
العالم قد يحكم على الشواذ جنسياً بعقاب وقوانين وحرمان ورفض في المجتمعات ، لكن اسرائيل بشذوذها السياسي عبر احتلالها ، واضطهادها واقامة مستوطناتها وعبر اضطهاد جزءاً من شعبها حيث تلاحقه وتتباهى بعنصريتها وقوانينها وتميزها ، وقائمة شذوذها طويلة وعريضة .. تكون هي ملكة الشواذ السياسي .