” الماء البارد ” لأحمد ديبو – بقلم : يحيى الامير

فن وثقافة …..
قلم : يحيى الأمير
لا أكتب عن هذا الشاعر لمجرد الكتابة، أو لأنني عرفته شخصيا فيما مضى من الأيام ، أو لأي مصلحة أو غير ذلك، و لا عن كتابه الذي صدر منذ عدة سنوات، إنما أكتب لأن القارئ عموما و قارئ الشعر خصوصا يستحق أن يتعرف على شاعر غير تقليدي و على كلمات لم يعتد كثيرا عليها.
و أستعير هنا بعض المقاطع من مقالة ترجمتها عن الفرنسية للكاتب أدغار دافيديان بمناسبة صدور ديوان الشاعر بعنوان : ( الماء البارد لأحمد ديبو صوت الشاعر)
ففي تقديمه للكتاب يبدأ بوصفه بـ” كتاب صغير بموسيقى عذبة و عنيفة في الأن ذاته،حيث يمتلك الشعر العربي ألحان غريبة و نغمات فريدة و أصداء صوتية مثيرة و مرصعة أبدعها جواهري. و تمتلك هذه الكلمة المقذوفة كالطلسم القدرة على التفعيل و التذكير و السحر.”
و الكتاب ( الماء البارد) صغير فعلا (83 صفحة)، لكنه ليس يسيرا ” ببياض كثير و بمظهر يخدع برقته لأن الفعل في شكله المقتر نفسه يبدو بشكل ملحوظ رنانا و سحريا.” و عن رأيي الشخصي هو كتاب متجدد تكتشف فيه شيئا جديدا كلما قرأته.
ولد أحمد ديبو عام 1968 في سلمية سوريا …حائز على جائزة اتحاد الكتاب العرب عن قصيدته “هذيان الحب و الرماد” التي نشرت عام 1992، نشر ديوانه ” الماء البارد” الصادر عن دار النهار ببيروت عام 2000 و له بعض المقالات و الدراسات الأدبية المنشورة في الصحف و المجلات العربية.
تحت برودة هذا الماء “المحفوظ” بشكل سليم ( و ذلك كي نستقي من جديد صيغة مفرحة و عزيزة على قلب بروتون و ساغان!) ثمة غليان و انفجار بركان مشاعر مكبوتة بالكاد و التي تختفي من خلال شبكة الكلمات الملقاة إلى القارئ ببراعة.
يواصل الكاتب حديثه عن جدوى كتابة الشعر في عصر التكنولوجيا و ماذا يمكن لهذا الشاعر أن يقول في هذا العصر المجنون…
” تماما كل ما لا يستطيع العلم قوله و الذي لا تستطيع المشاعر و لا القلب أن يسكتوا عنه أو أن يكتموه. أولا هذه الصور الغريبة و هذه الأوزان المتمردة و هذا الاجتماع من الأفعال البراقة التي تخالط ذاكرتنا و عقولنا. البوح(العفيف أو الوقح )و الإعلان(الفج أو المتستر) الصادرين عن كائن ينسلخ عن (شياطينه)أو عن (ملائكته) و الذي يتحدث عن الحب و الرقة و الغياب و الفراغ و الانتظار، عن العلاقة مع الأخر، عن الحاجة إلى الحلم، عن استبداد البيئة،عن عبودية الرغبة ، عن الوحدة،عن التعطش إلى الحياة ، عن المسبحة التي انفرطت حبة حبة بمشيئة الإلهام المتشرد. نحتفظ بفقرات مبهرة كهذه: ” نُلقى كغابة في بئر” ، “السماء مغلقة ككرة” ،”أصمت لأريك صوتك” ، “أضعف من قطرة ندم” .
هذه القصائد التي كتبت ما بين القاهرة و سلمية و حلب و بيروت تبدو سرية و تارة محكمة الإغلاق، و من بعيد يوحي إلهامها العادي إلى صيغة روحية إلى حالة نفسية حزينة مصبوغة بسوداوية بخارية رومانسية بطريقة تمخر بألفاظ معاصرة. تنساب بلغة عربية متكبرة و تسكن موسيقية خاصة محاطة بهالة من النور المنطلق من هذه الأشعار، بجوهر غير قابل للحجز و لكن يحدث كما يظهر ذلك عند أنسي الحاج ( الذي يظهر واضحا احترامه له في الديوان) وجود اهتمامات باذخة حيث تتجلى ضرورات الجسد و معنى العلو من خلال الصخب أو غناء الكلمات…إنه كفاح دون شكر. ”
و كما يقول الكاتب : في الأولمب، و دون أي تردد، يجب أن يسمى هذا ” صوت الشاعر”.
أختم بقصيدة للشاعر سبق و أن ترجمتها و نشرتها في صحيفة لابويزيا الإيطالية عام 2017 مع ثقتي بأنها ستعجب القارئ و ستحثه على قراءة الديوان بأكمله
امرأة
” بكِ أدلٌّ عليكِ وبكِ أصلُ إليكِ”
البسطامي
عاليةً بصمتها كغيمةٍ
حين لم تجد ألفةً لكلماتنا
أصابعها وهي تُرتبُ صمتها خزامى.
غريبةٌ أبعد من دفء عينيها
عنبُ صوتها يفضحُ ما أطلّ من ألفةٍ/ وقت خروج قاماتنا المستيقظة من أوهامها.
غريبةٌ سبقت خطواتها إلينا.
أصابعها في قيظ العتمةِ،
لقطف كلمات الرُّوح.
الرَّتقُ ماانقطعَ من أحلامنا المسكوبةِ على الحصى والشّوك.
أيدينا في عَراءِ نظرتها ندوب.
دليلنا إليها غيمةٌ عابرةٌ.
ما أبدعها المرآةُ إذ تلوّن ظلّها
ما أبدعه الماء إذ يلوّن فرحها.
الغريبة بصمتها العالي
سرعان ما يسقط حلماً عابراً من عينيها.
عيناها وهي تبلّل قاماتنا
أنضج من حسرةٍ
وأبلغ من غيبوبة
و الظّلال بقي له أن تُباغت خطواتها.
بلمستها
تُؤنس أحلامنا.
الصوتُ.
حينما حلَّ ظلاً أمام عيوننا
لم نبصره .
بخطواتها توقدهُ دائماً.
المنسيّةُ
مرّت بخفةٍ في أحلامنا
لم تُظلّلنا.
العراء لم يكن إلا نومها.