الرابط : فن وثقافة :
طلال قديح * الرياض :
..ولأننا نعيش هذه الأيام ذكرى أليمة ، وواقعاً مرّاً، وحوادث متلاحقة ليس لها آخر..ولأن هذه الذكرى هي سبب بلوانا ، وسبب كل مصائبنا ونكبتنا المتمثلة في اغتصاب فلسطين وقيام دولة إسرائيل ، هذا الكيان الدخيل الذي زُرع في قلب الأمة العربية ليظل هذا القلب ينزف باستمرار وبلا توقف..إنها مكيدة استعمارية ونتاج وعد بلفور المشؤوم.
ولأن هذا الوعد الذي يُعدُّ بحق أبشع جريمة لا بحق فلسطين والعرب فحسب بل بحق الإنسانية جمعاء ، مما شكل بادرة سيئة لاغتصاب الحقوق من أصحابها الشرعيين ومنحها لأناس آخرين غرباء ..وهذا منطق الغاب الذي يحكم سياسة الغرب الاستعمارية.. المنطق الأعوج الذي يعطي فيه من لا يملك لمن لا يستحق..!!
ولأن وعد بلفور ظل وسيظل منقوشا في الذاكرة العربية والإسلامية والعالم الحر، أجدُني مدفوعاً وبقوة لنشر قصيدة عصماء للشاعر القروي رشيد سليم الخوري ابن لبنان البار والعربي الأصيل المخلص لعروبته..ومما شجعني على البحث عن القصيدة كاملة أنني سمعتها من الشاعرالقروي في أمسية شعرية أقيمت في قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة بيروت العربية تحت عنوان ” مواقف وقصائد ” عام 1964م حينما كنت طالباً بالجامعة، وأذكر أن الحضور كان كثيراً جداً حتى غصت به الجامعة..واستُقبل القروي استقبالاً حافلاٍ وضجت القاعة وقوفاً بالتصفيق الحاد مما يدل على ما يتمتع به من مكانة ومحبة لدى الجماهير العربية، لا لشيء إلا لأنه صوت الأمة المعبر بصدق عن آمالها وآلامها، يعيش قضاياها ويتفاعل معها بكل أحاسيسه ومشاعره.
إن لغته العربية الفصيحة ، وجودة إلقائه لشعره مع تمثله المعنى ، وصوته الجهوري، كل هذا ألزم الحضور بالإصغاء والالتفات إليه يتلقفون شعره الحماسي بشوق بالغ، فضلا عن أنه معروف بحبّه لكل ما هو عربي وهذا ما عرفته منه شخصياً، إذ كان لي شرف لقائه مرات عدة إحداها في بيته بالبربارة حيث زرناه كوفد جامعي لدعوته للأمسية الشعرية ولن ننسى حفاوته بنا وقبوله الدعوة معتزاً بها..
وهأنذا أورد هذه القصيدة العصماء كاملة لما تعبر به من معان تبين أفكاره ومواقفه العظيمة: إنها قصيدة تفيض حباً للعرب وحنيناً لأمجادهم،وعشقاً لتاريخهم ، وحثاً على استعادة دورهم الحضاري العريق..
الحق منك ومن وعودك أكبر فاحسب حساب الحق يا متجبّرُ
تعد الوعود وتقتضي إنجازها مهج العباد، خسئت يا مستعمرُ
لو كنت من أهل المكارم لم تكن من جيب غيرك محسناً يا بلفرُ
عد من تشاء بما تشاء فإنما دعواه خاسرة ووعدك أخسرُ
فلقد نفوز ونحن أضعف أمة وتؤوب مغلوباً وأنت الأقدرُ
فلكم وقى متواضعاً إطراقه وكبا بفضل ردائه المتكبرُ
يا مصدر الكذب الذي ما بعده كذبٌ ،تعالى الحق عما تنشرُ
تجني على وطن المسيح مدمراً وتذيع أنك في البلاد معمّرُ
أما “ليوضاس ” اللعين وآله إلا فلسطين الشهيدة مهجرُ
لكم التجارة بالرهينة والربا لا أن تبيعوا العالمين وتشتروا!!
مستعبدُ الإنسان عبدٌ للأذى ما أجدر الأحرار أن يتحرروا!!
بمكارم الأخلاق قبل العلم سُد يا أيها المتقدّم المتأخّرُ
هُنّا عليك لطيبة عربية خِلناك مبتسماً وأنت مُكشّرُ
إن الكريم لقد يكذب خُبره في الماكرين فكيف حين يُخبّرُ
أما وقد خلع المرائي ثوبَه فليخلعنّ الغمدَ منه المِبترُ
وليلبسنّ الأرجوان غلالة تُطوى على هام الرجال وتُنشرُ
ولتعركنّ الظالمين سنابكٌ حتى يحجّبهم دمٌ لا عِثيَر
يا عُربُ، والثاراتُ قد خُلقت لكم اليوم تفتخر العلا أن تثأروا
يدعوك شعبك يا صلاح الدين قم تأبى المروءة أن تنام ويسهروا
نسي الصليبيون ما علّمتهم قبل الرحيل،فعُد إليهم يذكروا
” ريكردسٌ”أدرى بسيفك منهمُ فليسألوه لعله لا ينكرُ
يا ربة الدأماء مهما تكثري عدد السفين فعند ربك أكثرُ
قد بعت مجد الإنجليز لتربحي مال اليهود ، نعم هذا المتجرُ!
كرليل في قيد النخاسة راسفٌ يبكي النبوغَ وشكسبير وولترُ
لا تستقلّي في الخصومة عدّنا فالعدلُ خلف أخي الظّلامة عسكرُ
هددت بالأسطول أرواح العدى إن كنت منذرةً ففوقك منذرُ
هذا الفضاء وهذه أفلاكهُ فُلكٌ عليك من القضاء تُسيّرُ
إن تأمني خطر البحار فإنما دمعُ الأرامل واليتامى أخطرُ
تطوي دوارعك الخضمّ وربما طويت بدمعة ثاكل تتحدّرُ
لا يخدعنّ بنيك أنّا أمةٌ صبرت، فليس بميّت من يصبرُ
تتغير الأجرام في أفلاكها وصفاتنا الغراء لا تتغيرُ
فإذا أناخ بنا الزمانُ فإنما عَرَضٌ أُزيل ولم يمسَّ الجوهرُ
نرعى عهودك ما رعيت عهودنا فإذا خفرت ذمامنا قد نخفرُ
وإذا عقلت فكلُ رمحٍ سعفةٌ وإذا جهلت فكل غصن خنجرُ
فلكم تفجّر من مواضينا دمٌ ولكم تدفّق من ندانا الكوثرُ
للسلم نحن كما علمتِ وللوغى منا المسيح أتى ، ومنا عنترُ
أهلاً بسيدة البحار ومرحباً أضنى الجزيرة للعناق تحسُّرُ
هي متحفٌ فيه الشعوب تنضدت طبقاً على طبقٍ وكانت تُنثرُ
حنّت إلى السكسون فيه عناصر ليكمّل الآثار هذا العنصرُ
فتوسدت بصفاحها صفّاقها فهنا الممالك من قديم تُقبرُ
مدت رُتيلاء الشآم شباكها ولكم تململ بينهن غضنفرُ
صدئ الزمان ولا تزال خيوطها تُغرى بلُمعتها الملوك فتؤسرُ
كم من قياصرة سباهم حسنُها لم يعجب الفيحاءَ منهم قيصرُ
الشامُ باقيةٌ وهم تحت الثرى قد شابهوا أنصابَهم فتحجّروا
كان الشاعر القروي مسكوناً بحب العرب والعروبة ، وأنا بدوري مسكون بحب هذا الشاعر العظيم الذي كان وسيظل شعره ملهماً الأجيال حماسة تنمي فيهم حب الوطن والدفاع عنه ضد الطامعين.
•كاتب ومفكر فلسطينيٍ