فضاءات عربية …. في ذمة الله
بقلم: بكر السباتين – الاردن …. فلسطين …
توفي يوم الرابع من ابريل الشاعر الفلسطيني الكبير عز الدين المناصرة، وقد ارتقت روحه إلى باريها عن أربعة وسبعين عاماً.
الراحل كان صاحب مسيرة شعرية غنية، وهو يعد من شعراء المقاومة الفلسطينية الكبار.. كان شاعراً ومفكراً وناقداً وأكاديمياً فلسطينياً، من مواليد بلدة بني نعيم في الحادي عشر من أبريل عام 1946، في محافظة الخليل.
تنقل المناصرة بين عدة بلدان قبل أن تحط به الرحال في الجزائر عام 1983، حيث عمل كأستاذ للأدب في جامعة قسنطينة ثم جامعة تلمسان. انتقل في مطلع التسعينيات إلى الأردن حيث أسس قسم اللغة العربية في جامعة القدس المفتوحة (قبل أن ينتقل مقرها إلى فلسطين) وبعدها صار مديراً لكلية العلوم التربوية التابعة لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) وجامعة فيلادلفيا حيث حصل على رتبة الأستاذية (بروفيسور) عام 2005. حصل على ثماني جوائز في الأدب من ضمنها: جائزة الدولة الأردنية التقديرية في حقل الشعر عام 1995، وجائزة القدس عام 2011.
صدرت له اثنتا عشرة مجموعة شعرية، وسبعة كتب نقدية وفكرية.
اقترن اسمه بالثورة والمقاومة الفلسطينية في بيروت، وأطلق عليه برفقة محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، (الأربعة الكبار) في الشعر الفلسطيني. من جهته، الناقد الفلسطيني، إحسان عباس، كان قد وصفه كأحد رواد الحركة الشعرية الحديثة في الوطن العربي.
غنى مارسيل خليفة له قصيدتين، هما:
(جفرا) التي مطلعها:
” أرسلتْ لي داليةً.. وحجارةً كريمة
مَنْ لم يعرفْ جفرا .. فليدفن رأْسَهْ
من لم يعشق جفرا.. فليشنق نَفْسَهْ
فليشرب كأس السُمِّ العاري يذوي , يهوي.. ويموتْ
جفرا جاءت لزيارة بيروت ْ
هل قتلوا جفرا عند الحاجز, هل صلبوها في تابوت ؟؟ !!”
وقصيدة (بالاخضر كفناه بالأحمر كفناه)،
ومطلعها:
“كفّناه بالأحمر كفّناه
بالأبيض كفّناه
بالأسود كفّناه
لا الريح تحاسبنا إن أخطأنا
لا الرمل الأصفر
لا الموج ينادينا إن خطف النوم أعيننا
والورد إحمرّ يا دمَهُ النازف
إن كنت عذاباً يومياً لا تصفرّ”
كان الراحل الكبير مرهف الحس وعلى تماس مع تفاصيل الوجع الفلسطيني، ويعبر عن نبض اللاجي الفلسطيني في المخيم أو خلف متاريس القتال.. فكانت قصيدة “بالاخضر كفناه بالأحمر كفناه” خير مثال على ذلك، وكان يروي تفاصيلها في كل المناسبات وكنت حاضراً في إحداها. وقد استلهم المناصرة هذه القصيدة من معاناة الفلسطينيين حينما كان في بيروت أثناء حصارها عام 1982 وكان زميله بالسكن فدائي أردني من قرية حوّارة بمحافظة اربد .. لم يكن يعرف الشاعر المناصرة عن هذا الفدائي سوى أن اسمه الحركي “زياد القاسم” وظل مجهولاً بالنسبة إليه إلى أن استشهد زياد في احدى المعارك البطولية ضد العدو الصهيوني في بيروت التي خالط فيها الموتُ الحياةً، وصهيلُ المقاتلينَ أنينَ المتعبين.. وانتشرت غربان الخوف فوقَ أطلالِ بيوتٍ أُبيد أصحابُها أو تحولوا إلى لاجئين.. ومن شدة القصف المتواصل على بيروت لم يستطع رفاقه دفن الشهيد إلا بعد ثلاثة أيام عندما هدأ القصف، وفي أثناء مراسم الدفن تصادف وجود ام فلسطينية “ختيارة” كانت حاضرة لمراسم التشييع وقالت بلهجتها العامية البسيطة وكأنها تندب بيروت بمشاعر خالطها الحزن والكبرياء: “سبحان الله جرحه لسة أخضر ” أي أن جرحه ما زال ينزف.. فلامست العبارة شغاف قلب الشاعر الإنسان اللاجئ؛ ليعتصر قلبه ألماً.. ودارت في رأسه كأنها العاصفة، لتنفجر فيما بعد قريحة الشاعر المناصرة ليكتب بعدها قصيدته الشهيرة “بالأخضر كفناه بالأحمر كفناه”. ودوّى صهيلُ صوته عالياً حتى وصلت مسامع الموسيقار مارسيل خليفه فتفاعل مع الكلمات التي قربته من روح بطل القصة، الشهيد قاسم، فلحن القصيدة و غناها بصدق، عام 1984 في ملعب الصفا في بيروت أمام مائة ألف متفرج؛ لتنتشر بعد ذلك في الآفاق.
حمّل الراحل عز الدين المناصرة نفسه مسؤولية البحث عن أهل الشهيد زياد الشطناوي في منطقة حوارة في اربد ونقل لذويه ولأمه التي كانت تزورهم دائماً في بيروت خبر استشهاد ابنها زياد..
رحل الشاعر الكبير عز الدين المناصرة وفي قلبه غصة، فقد كان يعلم بأن الاحتلال الإسرائيلي لن يلبي طلبه بدفنه في قريته السليبة (بني نعيم)، وهذا ما حصل بالفعل فذاك هو ديدن الاحتلال الذي يغتصب أرضاً ليست له.
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، واجمعه اللهم في الفردوس الأعلى مع الشهداء والصديقين.. ونعزي بهذه المناسبة ذويه وكل محبيه من المثقفين الشرفاء في وطننا العربي الكبير.
5 أبريل 2021