الرّمزيةّ والصّوفيَة في تجسيد كيانيّة العشق في قصيدة “خلايا الأربعة” للشّاعر الفلسطيني فراس حج محمد – بقلم : مادونا عسكر

اصدارات ونقد …..
مادونا عسكر/ لبنان ….
أولا: النّص
خلايا الأربعة
ثلاثةٌ وأربعُ نسوةٍ
فكيف يقتسمون ما زاد عن عدد الذّكور؟
لا بأس إن طمعوا في وجبة أخرى
على جسد جميل أبيضَ مثل الحرير مؤجّل لنهاية السّهرة؟
يتبادلون بمائهم بوردتها النّديّة
ويملؤون الكأس ثانية وثالثة ويخرقون المحبرةْ
ويخمدون على رماد محترقْ
ثلاثة وأربع نسوة غرقى بهذا اللّحم
منذ بداية الحضرةْ
يا ليتهم أكلوا على مهل خلايا الأربعة.
ثانيا: القراءة
يعتمد هذا النّص ببعديْه الأفقيّ والعموديّ على الرّمزية الّتي تخلص بالقارئ إلى عوالم الشّاعر الدّاخليّة العميقة. والمقصود بالرّمزيّة استخدام الشّاعر لمصطلحات تحتاج للتّفكيك كيما نتبيّن مقاصده أو نتلمّس بعضها.
يدلّ العنوان على حركة النّص الّذي تعمّد الشّاعر فراس حج محمد أن تكون مبهمة بعض الشّيء ليستفزّ القارئ إلى العلوّ والعمق في آن. (خلايا الأربعة). الخليّة جزء لا يتجزّأ من الحياة الإنسانيّة وينبغي أن تكون تامّة عاملة نشيطة كي لا ترهق الجسد، وبالتّالي فنحن أمام حركة نشيطة في كيان الشّاعر نفسه، بل حركة تامّة تؤمّن له السّعادة الكيانيّة. مع العلم أنّ (خلايا) منسوبة بالإضافة لـ (الأربعة) وليست للشّاعر. لكنّ ثمّة اتّحاداً بينه وبين هذا الرّقم الّذي له دلالة أرضية يدعمها الشّاعر بدلالة سماويّة (ثلاثة)، الرّقم الذي يرمز إلى العالم الإلهيّ (عالم الكمال). وهنا تتجلّى الحركة الأفقيّة باتّجاه العلوّ، والحركة العموديّة باتّجاه العمق.
(ثلاثةٌ وأربعُ نسوةٍ ) إذا اعتبرنا أنّ ثلاثة تعود إلى الذّكور مع أنّ الشّاعر لم يذكر هذا الأمر سنقع في الفخّ التّضليلي الّذي أراده الشّاعر. فثلاثة تساوي عالماً واحداً، ونجد أنفسنا أمام شخص واحد لا ثلاثة. وأمّا النّسوة الأربع فهي الخلايا الّتي ذكرها الشّاعر في العنوان. وهنا أيضاً سنكون أمام شخص واحد بدل الأربعة استناداً إلى الجملة التّالية (فكيف يقتسمون ما زاد عن عدد الذكور؟).
الاقتسام هنا معنويّ غير ماديّ، إذ يقصد الشّاعر كيفيّة اتّصال العلو الكامل بالعمق الأرضيّ. الخلايا الأربع تجتمع في جسد واحد، وهي ذاتها تحمل في داخلها ما هو إلهيّ. ولعلّ (الأربعة) ترمز ضمناً إلى جهات الأرض الأربعة، وبالتّالي ثمّة صراع بين السّماويّ والأرضيّ، أو بمعنى أتمّ جاذب إلى العلا وآخر إلى الأرض (لا بأس إن طمعوا في وجبة أخرى/ على جسد جميل أبيض مثل الحرير مؤجّل لنهاية السّهرة؟). الطّمع لا يسكن العلو، بل الأرض، وهو يرمز بشكل أو بآخر إلى الطّمع بالمزيد من الاحتراق والرّغبة. وأمّا الجسد الأبيض الجميل مثل الحرير فيرمز إلى العلو. فالكاتب يريد بالجسد الكيان كلّه وليس اللّحم والدّم. ما تؤكّده الجملة التّالية المتضادة مع الأولى (ثلاثة وأربع نسوة غرقى بهذا اللّحم). الوجبة الأخرى مؤجّلة إلى نهاية السّهرة أي إلى نهاية الحياة الواقعيّة بانتظار استكمال الحياة.
سيمرّ الشّاعر بمراحل متصاعدة حتّى يبلغ المقام الأرفع (يتبادلون بمائهم بوردتها النّديّة/ ويملؤون الكأس ثانية وثالثة ويخرقون المحبرةْ) وما ملء الأكؤس إلّا تعبير عن هذه الحالة التّصاعديّة حتى بلوغ تمام النّشوة وذروة الحالة العشقيّة.
لا تخلو هذه القصيدة من المعاني الأيروسيّة إلّا أنّها تتخطّى الحدود البيولوجيّة إلى معنى الرّغبة بالحبّ. وهنا يدخل معنى الرّغبة إلى قسمين: الأوّل جسديّ يرتقي إلى الرّوحيّ ليلتزما معاً في رحلة النّشوة الصّوفيّة. (ثلاثة وأربع نسوة غرقى بهذا اللّحم / منذ بداية الحضرةْ). والخلايا تعمل معاً في جسد واحد، وهنا تتجلّى الحركة الصّوفيّة وتتراءى لنا سكرة صوفيّة يدور فيها الكاتب حول ذاته الكيانيّة، أشبه بدرويش يدور في حلقات الرّقصة الصّوفية، رافعاً يداً نحو العلوّ وممدّداً أخرى نحو العمق. يرغب بالمزيد من الانتشاء والاتّحاد (يا ليتهم أكلوا على مهل خلايا الأربعة).

 

***********************
جنونُ الكائناتِ العفنة
فراس حج محمد
كلّ التفاصيل مملّة حتّى تلك التي لم تكن كذلك
الرسائل والقرّاء
والصباح الذي كان شهيّاً قبل أيّام صار مثل الحجارة
القراءة أيضاً والكتبْ
والأخبار الثقافيّة وحوارات الكتّاب والسياسيّين والصحفْ
وكلّ ما يمتّ إلى هذا العالم المحفوف بالساعات الطويلة
الاتصال مع الأصدقاء
شغب الأطفال
صبّ الشاي في الأكواب
النظر إلى النساء الجميلات أيضاً مملّ لا هدف له أو لهنّ
النظر إلى الجبل المسكون بالأشجار والأعشاب البريّة
والسماء الملطخة ببعض الغيوم العشوائيّة الشكل

القطّة التي استدعتها رائحة اللحم
مواؤها مزعج للغاية
لونها،
نظرتها إليّ وأنا أحاورها كي تنتظر قليلاً ريثما أحضر لها ما تيسّر من بقايا وجبة الغداء
نظرت إليّ بجفاءٍ واضح مليء باللّامبالاةْ
وأنا تركتها دون اهتمام ولم أعد لأطمئنّ عليها
لا شيء من حولنا له فائدة
الخواء وحده هو السيّد الحيّ الذي يتحكّم فينا
الملل يطردنا إلى خارج البيت إلى الفناء الخارجيّ
والشمس بحرارتها المشاغبة تدفعنا لندخل ثانيةً
ننسى الأمر ونعاود الكَرّة
وفي كلّ مرّة نقع في الدوّامة ذاتها

هواتفنا لا ترنّ إطلاقاً
الكهرباء تأتي كسولة في المصابيح
صفراء ميتة
تحقن عيوننا بكمّيّة ضئيلة جدّاً من الضوءْ
وخدمة الإنترنت تمطّ إشعاعاتها كامرأة كسيحة لا تحبّ الآخرين
لا فرق في الوقت إلّا عندما تنبهنا وجبات الطعام أنّنا يجب أن نقتات ثلاث مرّات يوميّاً
أصبح اليوم بساعاته الأربعة والعشرين كتلة من العجين الفاسد الطريّ

ماذا سنفعل غداً أو بعد غدٍ إذا استمرّ هذا الذي نحن فيهْ
وكلّ ما حولنا سوف تلتفّ ذرعاه حول أعناقنا ليقتلنا؟
هل تخيّلتم يوماً أن تكون البشريّة هاربة من العملْ
عاطلة عن الأملْ
ولا تنتظر إلّا الخلاص من المللْ؟
فلنمت إذاً لعلّ تلك الكائنات العفنة سترتاح من جنونها اليوميّ
كي لا نظلّ هكذا عاجزين نشعر باليأسِ
يأكلنا الخجلْ