الرجل الذي ثقب قرص الشمس – قلم : وليد رباح – صوت العروبة

أراء حرة – فن وثقافة – القصة
بقلم : وليد رباح – صوت العروبة
توفي (ابو نعمان) أخيراً وترك خلفه ثروة كبيرة لم يستطع شيخ القبيله تقديرها .. فقد فتشت كل محتوياته ومقتتيانه فعثر على التالي … سبعة دنانير اردنية ومثلها دولارات امريكية .. خاتم ذهبي مغشوش قبل انه ذهب فاكتشف الصائغ انه من ذهب امريكي لا ينفع او يشفع ..اشتراه يوم كان ابو نعمان موظفا (كبيراً) في الولايات المتحدة يعمل في مطعم للمكدانوس ويأكل اخر النهار مما يتركه الزبون المرفه . ثمانيه مخلوطون بعضهم صبيانا والبعض الآخر من البنات. زوجة هدها التعب وطبعت على جبينها صفرة الموت قبل ان تتوكل على الله وتدخل الى القبر طواعية وعن سبق اصرار وتعمد .
وفتش الشيخ الذي تولى عمليه الدفن والغسل والقراءة في ملابس أبي نعمان فوجد بطاقه تدل على ان المتوفى قد امضى في امريكا ثمانية وعشرين عاماً بالتمام والكمال امضاها في امريكا في اعمال (البر والتقوى) والجلوس على المقاهي ولوك سيرة الناس بعد انتهاء ورديته في المكدانوس كما وجد بطاقه اخرى فيها اسماء كل اللذين عرفهم (ابو نعمان) ابتداءا من ماريا وانتهاءا بسوزان التي تحجبت اخيرا وادعت انها قد اسلمت وجهها لله رب العالمين ونسيت قطارات سكة الحديد التي اهترات قضبانها من السير عليها حافيه يوم كانت صبيه . وقبلت توبتها على اعتبار ان الاسلام أن كان صادقا يجب ما قبله .
كما كان ابو نعمان (ذئب الغابه) عندما يموت احد افراد الجاليه فيحكي للناس قصصا حدثت واخرى لم تحدث عن الميت الذي دهب الى القبر وترك خلفه سيرة عطرة او غير عطرة . فقد جلس الشيخ مع مجموعه المعزين ليتحدث كل منهم عن ابي نعمان وما صنعه في امريكا من بطولات رائعة سجلها التاريخ باحرف من رماد .
يقول الشيخ : يا ناس لا تجوز على الميت غير الرحمه فيقول ابو الهماهم : على الطلاق ان ابا نعمان كان ولدا يافعا ايام شبابه ولم يترك قنديلا دون زيت الأ عمره ولا ورقة بيضاء إلا خربش فيها وعليها ولا ارضا بورا إلا زرعها من فسيل دريته .. فرد اخر من المعزيين .. كل ذلك ليس مهما المهم .. ماذا خلف الرجل هل اشترى عمارة في وادي الجوز بمدينه القدس ام هل رفع الى السماء عمارة في القاهره او في غوطة دمشق .. هل استطاع اقناع امريكي واحد بعداله القضيه العربيه على مساحة الوطن هل ؟ هل ؟
امضى ابو نعمان ثمانيه وعشرين عاما في امريكا يعيش على اعصابه بذهب الى عمله في المساء ويعود في الصباح ثم ينام منذ الصباح وحتى موعد عمله .. ولا ينسى في كل ذلك ان يذهب الى المقهى لكي يتحدث مع اقرانه عن مثالب افراد الجاليه والاخبار التي تنتقل مع الريح الى كل بيت وكل شارع .. وبعد ذلك يعد نفسه للذهاب الى عمله للمرة الثانية وهكذا دواليك ..
لم يكن ابو نعمان يعلم عن اولاده شيئا .. كانت ابنة الحلال التي تعلو وجهها صفرة الموت هي المكلفة بالتربيه والطبيخ والغسيل والجري خلف المدارس والمعلمين والمعلمات وحماية اطفالها من عاديات الزمن كل ذلك لان زوجها يريد لقمة هنيئه الى اطفاله وزوجته مع عدم نسيان الذكريات الجميلة التي كان يحشدها في ذاكرته كلما مرت شقراء مغناج تتلوى في بنطالها الضيق كأنها قطعه من جهنم .. فهي جميلة في الواجهه .. ولكنه يعرف اسرار القوم .. اذ كلما تعمقت في داخل الثياب فاحت رائحة العفن .. الله الله يا زمن ماذا فعلت يا ابا نعمان طيلة ثمانية وعشرين عاما .. جاء عازبا الى امريكا فتزوج امريكية ثم اسبانيه ثم لاونديه وعندما حصل على الجرين كارد ذهب الى بلدته الاصلية وتزوج من عربيه .. تلك التي رأت معه نجوم الظهر قبل ان يرحل الى العالم الآخر مودعا بمثل ما استقبل به يوم جاْء يخطبها عندما كان شاباً.
ثمانية وعشرون عاماً جاءت النقود وذهبت ثم ذهبت ثانية وجاءت .. وكل ما كسبه من الدنيا تربيه اطفال اصبحوا رجالا .. بعضهم تاه في خضم الحياة الامريكية والبعض الاخر عرف طريقه .. ولكنه هو نفسه بعد ان رباهم واعطاهم ما لم يعطه ابوه الذي مات في بلدته وحيدا دون ان يزوره اولاده لأن الحياة الامريكية تقول إنه اذا مات من مات فليذهب الى قبره إمناً .. ولا صحة للابناء التي تقول إن الولاء في العائله يمكن ان يجعل الابن الذي ولد في امريكا ان يسافر الى بلده لكي يرى اباه الميت قبل ان يدفن .. فهذه عادات قديمه لا يجوز الاحتفاظ بها .
ثمانية اضف اليها (العشرين) فعل الرجل ما لم يفعله إنسان اخر .. ولكنه في النهاية لم يجد سوى قطنة استخدمها احد قبله في مسح اذنيه حتى لا تخرج رائحته العطنة الى الناس .. كان ملء السمع والبصر .. ولكنه مات .. تصوروا لقد مات وشبع موتاً
هذه صفحته ..ا هي بيضاء من غير سوء .. لم يقم ابو نعمان بفعل شيء للآخرين إلا لنفسه جاب الدنيا طولاً وعرضاً في (امريكا) ولكن في النهاية دفن في حفرة عميقه وكريهه لا ينفذ اليها الهواء .. ولم تنفعه انثناءات سوزان ولا رقه ايميليا ولا لمسات اولجا الطريه .. ولم تنفعه كل مسابح الدنيا التي كان يستوردها من الحجاز ليذكر الله قبل ان يبدأ بشل عرض فلان او تقبيح علان .. لم تنفعه كل الدولارات التي جمعها ووضعها في سرواله خشية ان تكتشفها زوجته فتقيم الدنيا ولا تقعدها على رأسه .. ولم تنفعه لا اطلالتك سيتي ولا لاس فيجاس ولا مدينه باترسون او المين ستريت .
مات ابو نعمان ودفن معه كل اسرار الدنيا .. ولكن السر الذي لم يكشفه احد ولم يستطيع احد ان يتفوه به .. ان ابا نعمان الذي مات بعد ان امضي ثمانية وعشرين عاما قام بملء ارادته دون ضغط او اكراه من احد بوضع اصبعه في عين الشمس واستطاع ان يثقبها .. تصوروا .. لقد ثقب قرص الشمس .. اتعرفون لماذا ؟؟
لانه عاش ومات ولم يدر به احد جاء الى أمريكا لكي يبني ثروة كبيره ويذهب متفخشرا الى قريته وهو يحمل في جيب قميصه الشفاف رزمه من الدولارات لكي يريها لمن لم يسعفهم الحظ الى ان يحضروا الى جنه الخلد في امريكا .. ولكنه عندما عاد في مرة سابقه .. ووجد ان الناس هناك يحملون ايضا دولارات خضراء في جيوبهم فاقت ما يحمله .. وهكذا عاد من زيارته يخفي حنين .. ولم تنفعه الا غربته عن الوطن ثمانية وعشرون عاماً كامله بتمامها …
فإلى الرجل الذي ثقب قرص الشمس الف سلام والى حياته المضخمه بكل انواع الطيب والاحداث المهمه الف رحمة .. والى نفسه الطريه التي فاقت طراوة القبر مليون ورده … ولقد فكرت كثيرا ونحن على قبره لأقول له لماذا لم تذهب الى بلدك يا ابا نعمان قبل ان تغافلك الايام فلا ترى من حياتك الا رنين القرش ولمعه الدولار وشاهد القبر الذي يتحدث عن نفسه في برودة وعتمة عندما يمر ابناؤك من امام المقبرة ليقولوا .. هنا يرقد الرجل .. الذي ثقب قرص الشمس .