دراسات …..
بقلم : د . عبد الوهاب القرش ..
“من يغلق عينيه دون النور يضير عينيه ولا يضير النور. ومن يغلق عقله وضميره دون الحق، يضير عقله وضميره ولا يضير الحق”.
مقولة د/نظمي لوقا
كل من ينظر إلى الألوان الزاهية المختلفة للمقارنة بينها يظهر له أن الألوان تنقسم إلى فئتين:فئة البياض وفئة السواد وما شاكله من الألوان المتاجنسة، أما اللون الأبيض فهو متباين كلياً عن الألوان الأخرى ومنفرد، وهو لون صاف نقي ناصع لا يشوبه شيء، وإذا علاه كدر أو صعده غبار أغبر وتغير عن ماهيته وتغير اسمه وصفته ولم يعد بياضاً، وانما هو لون آخر، فتجد في سائر اللغات أسماء مختلفة للألوان المتغيرة، وللبياض حساسية لا تحملها الألوان الأخرى، فقد تمتزج ألوان وتتشابه بحيث يعسر على المرء تبينها، أو تتخد ويتكون منها لون جدبد.
والبياض هو اللون الحقيقي الذي لا يشوبه شيء، ولذلك اختصت كلمة البياض في كل لغة للصفاء، والوضوح التام، وزوال اللبس، وانكشاف الحقيقة، وعدم التعكر كما تستعار كلمة البياض للنور والنور للبياض، وقد جاء في القرآن الكريم:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}(البقرة:187).واستعمل القرآن الكريم السواد للظلام والبياض للنور، والنور للحق والظلمات للكفر.
وأكثر القرآن الكريم من ذكر الفلق والغسق زاختلاف الليل والنهار، وشبه التناقض بينهما لتشخص الصراع بين قوى الظلام وقوة النور أو بمعنى أصح بين قوة الحق وقوة الباطل{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ}(الزمر:5)، وقال تعالى{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(الاسراء:81)فحيث أن النور لا يحتمل أن يشاب بظلمة أو البياض لا يحتمل التلوث بصبغة أخرى، لا يحتمل الحق وهو الشريعة السماوية أن يشاب بفكر وضعي نسيج خيال الإنسان.
والأمر الثاني الذي يتجلى في النور أنه كائن منفرد مستقل بذاته، والنور الحقيقي ليس كمثله شيء، أما النظريات والفلسفات الأخرى للحياة فهي متاجنسة متشابهة تتغير بتغير الزمان والمكان يقتبس بعضها من الآخر ، ولا يظهر زيفها إلا إذا قورنت بالحق، ولذلك تتحد قوى الظلمات المتصرعة فيما بينها لمحاربة الحق ولمحو النور الذي يبدد الظلام، وقد شخص القرآن هذا العداء للحق بقوله:{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ}(التوبة:32)، وقال{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(التوبة:33) فتشنرك قوى الشرك وقوى الكفر في مكافحة النور.
فالإسلام هو النور الوحيد{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}(آل عمران:19) وقوله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}(آل عمران:85) ، والإسلام هو الوجه المشرق للإنسانية فلا يحتمل أن يمزج به نظام أو فلسفة كما لا يجتمع نور وظلام وبياض وغير بياض، فالنور نور والظلام ظلام، والنور وحدة، والظلام تفرق، وتمزق، وتخبط، وقد بين الله تعالى ذلك لقوله تعالى:{ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(البقرة:256)، ويحذر الله عباده فيقول:{ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}(الأنعام:153).
إن الصفة الغالبة للحق لكونه نوراً كما وصفه الله في كتابه الكريم أن لا يكون مشوباً بشيء يخالف طبيعته، أو يذوق طعماً كريهاً بعد طعم لذيذ، فكل محاولة للخلط بين الفكر الإسلامي الأصيل والأفكار غير الإسلامية، والنظام الإسلامي المستند إلى القرآن والسنة وانظمة غربية أجنبية تؤدي إلى التمزق والبلبلة، كما حدث في كثير من البلدان الإسلامية اليوم.
تظهر استحالة مثل هذا الجمع بين الفكر الإسلامي والنظام الغربي للحياة، أو بين أجزاء النظام الغربي بالنظر إلى المبادئ والمقومات المتعارضة للنظامين، وهو تعارض لا يشبه تعارض، فعلى سبيل المثال – لا الحصر- يقول الله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(النور:19).وتجد على الجانب الآخر في المجتمع الغربي الذي يمنح الإنسان حرية الاستمتاع في الحياة، وإشباع الغرائز الطبيعية، أنه يتفنن في مواد التسلية والإغراء الجنسي باسم الفن والثقافة، والتقدم ،و حقوق المرأة، بحيث أنه لا يمكن إنشاء مجتمع نزيه عفيف.
مثال آخر يقول الله تعالى{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}(البقرة:276). والنظام المعاصر يقوم على أساس المادة والاستغلال، والنفع الذاتي، وتكديس المال، وإن أدى إلى شقاء الإنسان، فتقوم اقتصاديات الغرب على فوائد الربا، فلا يتصور أحد التجارة والاقتصاد إلا مقروناً بالربا.
يدعو الله جل في علاه الإنسان إلى إصلاح النفس، ورعاية حقوق الله، وحقوق الغباد في حياته، ويحث على تزكية النفس وتنقيتها فيقول الله تعالى{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا .وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}(الشمس:9 -10)..فقد جعل الله كل إنسان مسئولاً عن كل عمل يصدر منه في السر والعلن،قال تعالى{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(المدثر:38) وقوله تعالى{لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}(الكهف:49) فإذا أفلت الإنسان من عقوبة القانون في الدنيا فإنه لا يستطيع أن ينجو منها في الآخرة.
يعترف الإسلام بعالمية الإنسان، ويجعله مساوياً أمام القانون، فلا يوزع الإنسان على أساس القوميات واللغات والثقافات، والميول الفكرية، فلا فضل لأحد على الآخر إلا بالتقوى، والتقوى في الواقع هي الشعور بالمسئولية في السر والعلن، واتباع أوامر الله، والامتناع عن نواهيه.
أما النظام الغربي فهو يدور حول مصلحة مجموعة خاصة، تعتبر مصلحتها، مصلحة الدولة والمجتمع، ويخضع الشعب كله لفكر تلك المجموعة وتصورها للحياة، ولا يعرض القانون الوضعي لشيء إلا إذا كان متنافياً مع مصلحة الدولة.
ويتضح من هذه الأمثلة تعارض النظامين في الفكر، ونمط الحياة، وفي التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة لما يدعو إليه الإسلام، ويمكن أن تلاحظ ملامح النظام الإسلامي، ومعطياته للإنسان من كرامته، وشرفه، وتأمين حياته، وسامته وترابط مجتمعه، ونظام أسرته، والإيثار والمواساة في أفراد مجتمعه حيث طبق جزء من تعاليم الإسلام وهو أمر لا ينكره أحد.
وعلى الجانب الآخر يلاحظ في المجتمع الغربي تذمر، ولا وجود للسلام النفسي للفرد ، و تجد أسر مفككة ، ولا التزام بالحقوق الإنسانية، ولا توجد ثقة بين أفراد المجتمع، بل نجد صراع في كل جانب من جوانب الحياة في المجتمعات الغربية، فأهدرت كرامة كرامة الإنسان، فأصبح الإنسان مقهوراً تايعاً لغيره، وتابعاً للذائذ الحياة فيشقى للذة، ولا نهاية للذائذه، ولشقائه، وسائر الوسائل في المجتمعات الغربية مسخرة لتحقيق ذلك الهدف، فكيف الجمع بين النظامين المتعارضين؟ و كيف يتم التناسق بين أجزاء مضادة؟!!
يعد تناسق في الألوان والأشكال والظل من مستلزمات قدرة المصور أو الرسام لرسم صورة أو لوحة فنية تخص بفرد أو مجتمع، فإذا كان تصوير مشهد من مشاهد حياة فرد أو مجتمع محدود يعيش في نطاق محدود و فترة زمنية محدودة يتطلب هذا التناسق الدقيق ومعرفة الذات، فكم يتطلب إعداد صورة للمجتمع البشري العام من التناسق؟!!
تقوم سياسة التربية والتعليم بإعداد خطوط تعين صورة الجيل المقبل ، وتكون ملامحه ، وتعين أداوره وقدراته في مجال أوسع وأشمل من الحياة، فتقتضي قدرات هائلة وذوقاً عالياً، ودراسة دقيقة لطبيعة الإنسان وطموحه ومواهبه، ولكن شقاء العالم الإسلامي اليوم أن قادة الفكر الفكر والسياسة و علماء التخطيط والبناء، وخبراء التعليم والتربية يغفلون هذا التناسق لإهمالهم أو جهلهم بطبيعة الشعب المسلم وطموحه في حياته وأفكاره ومشاعره وتاريخه ، وذوقه، فكانت النتيجة أن الشعوب في الدول الإسلامية حائرة بين ما تؤمن به وبين ما تمارسه، وبين ما تسمع و وتلقن أثناء التربية المنزلية وبين ما تشاهد خارج المنزل.
إنها الحيرة بين نور حقيقي وبين بريق زائف ..بريق الحضارة الغربية التي تكاد تنهار في عقر دارها، فمثل المسلم اليوم بجراء هذا التناقض كمن يدعي من جانبين متعارضين أو كم يحاول أن يركب قطارين يسير كل منهما في اتجاه.
ولو شاهدنا ما يجري اليوم لوجدنا أن المسلم رغم إيمانه والنور الذي في قلبه يعيش في ظلام لأن ستائر كثيفة من الأفكار والفلسفات المستوردة المتنافية لنظام حياته الأصيل والفكر السماوي مرسلة وسابلة عليه، فكلما حاول أن يرفع عنه ستار أرسل عليه ستار جديد فيحيط به ظلام، ولكن الأستار سترفع ويتبدد الظلام بانتفاضة ظهرت بوادرها وستشرق شمس وهاجة من الشرق من جديد، لأن حضارة الغرب أذنت بالغروب، وذلك عندما تنهض الحضارة الإسلامية من ثُباتها، ويتحقق إنقلاب فكري وعملي في سائر مرافق{وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(الصف:8).
د/عبدالوهاب القرش