الثقب الأسود (3) !أفضل وسيلة لتحقيق أحلامك هي ان تستيقظ”* بقلم : مهند النابلسي

فن وثقافة ……
بقلم : مهند النابلسي – الاردن ….
فكر في “فتاة الحاسوب” ، كان فيها شيء من الجاذبية الساحقة كالثقب الأسود ، أشعرته برغبة في ان يحيا في مجالها ، احس وكأنها تسربت خلسة الى مشاعره ، فانهكته وجعلته يبحث عن مكان سري في اعماقه يختلي فيه ! ليبحث عن وجوده الحقيقي ، فقد شعر انه في وضع زائف …فقد اوقعته تلك الحسناء في حالة فريدة من ” فقدان الجاذبية” …فأصبح كرواد الفضاء داخل سجن مركبتهم، يتطايرون هنا وهناك ، وأصابه الرعب من فكرة ان تتدلى حياته الى لا حياة على الاطلاق تقريبا !
غادر المبنى ، وركب سيارته ورأسه يدور من صداع شديد ، ولكن الهواء النقي البارد قليلا المندفع بلطف عبر نافذة السيارة أنعشه ، وفتح المذياع ليسمع اغنية قديمة جميلة ذات حنين عتيق ذكرته بطفولته وامه وابيه واخوته ، ولمعت في ذهنه ذكريات حديقة تعج بالورود والزهور وفيها بركة صغيرة تسبح فيها أسماك صغيرة ملونة ، وتذكر روائح الياسمين ، وبرق في ذهنه المكدود حنين جارف لزمن جميل مضى كله براءة وجمال وطهارة …نام عميقا بدون احلام ، لقد افتقد حتى الحلم الذي كان يعتقد بأنه سيفسر له ما حدث .
ولكن ما أن دخل مكتبه في صبيحة اليوم التالي ، حتى قرر ان لا يفت ما حدث في عضده ، وعليه أن يتمالك اعصابه وان يواجه العالم بأقصى قدر من الثقة بالنفس : الآن لا مزيد من الخوف ، لا مزيد من الرعدة وانقباض البطن ، لا شيء الا الثقة الهادئة . ثم فضل ان لا يفكر بشيء مرتبط بما حدث حتى يستعيد توازنه ، وسره أن يعبق المكان على نحو بهيج برائحة سيجار معطر وقهوة طازجة (وان كان لا يدخن !)…واستوحى من ذلك ومن ذكريات طفولته طاقة مؤقتة عززت ثقته بنفسه مرة ثانية ، ثم لاحظ او هكذا بدا له أن المسطرة الفولاذية لم تكن “منحنية” كما توقع !
رن جرس الهاتف على مكتبه ، وكان رئيسه على الخط :
*هل تستطيع أن تأتي لمكتبي لأعرفك على مساعدتك الجديدة !
بدأت نبضات قلبه بالتسارع ، وما ان دخل المكتب حتى حتى اصيب بالذهول من وقع المفاجاة :
*اعرفك على مساعدتك الجديدة …المهندسة نورا …خبيرة البرمجة التي ساهمت سابقا بتطوير الحاسوب الضوئي ، لقد طورت عدة برامج رائعة ، انها بالحق مكسب لشركتنا !
كان مديره يتحدث بطريقة تقريرية بحيث تفقد الكلمات وظيفتها الدلالية …واستطرد بنفس الاسلوب :
*أعتقد انكما ستعملان معا بشكل جيد ومتوافق…
لكنه لم يعد يصغي ، كان ذهوله وارتباكه باديا ، وهي تنظر اليه بنفس الابتسامة التي لم ينساها بعد ، انها نفس الفتاة التي شاهدها بالامس على شاشة الحاسوب وحدثته عن التقمص وتحريك الأشياء عن بعد ، نفس عقد الزمرد !  لقد ظهرت الآن بشكل آدمي تفيض حيوية ، كان جمالها يأخذ بالألباب ، وأثارت احاسيسه بنظراتها المعبرة و بشذى عطرها الباريسي  الذي غزا كيانه …لقد حركت تلك الجميلة مراكز البهجة الروحية في “لاوعيه”…وتخيل لوهلة شواطىء بحرية منعشة واريج غابات خريفية ، وتضمن سيناريو “حلم اليقظة” حصانا جميلا ينطلق الى دغل ساحر ، واستفسر بغرابة :هل هذه هي لحظات السعادة المركزة في الحياة ؟ ام انه الوهم بالسعادة !
أفاق من حلمه  مرهقا ، وفرح لأنه خرج من متاهة حلم سريالي مركب ، واندهش من قدرات العقل البشري الكامنة وطريقة تركيبه للأحداث ، واعتقد أن حلمه ربما يشبه شريط سينمائي رائع ، وفرح لمخزون الخيال المتدفق ، ثم تفاءل من قصة “فتاة الحاسوب” ، واستغرب من وجود حلم داخل حلم ! ثم جر قدميه للحمام ، فتأمل وجها متجهم وغير حليق ، فأصابه ذعر مؤقت وبدا له وكأنه يشيخ بتسارع ، وتذكر ان يجب أن يستعجل بالذهاب لعمله المتواضع كمدخل بيانات ! تذكر الاحباطات التي تواجهه في حياته وعمله ، متمنيا لو يعود مرة ثانية للنوم والحلم هروبا من الواقع ، وقد قرأ مرة أن الواقع لا يكون مثيرا الا لثلاثة انماط من الناس : الطفل والساذج والشاعر ، مستدركا عبثية الحياة نفسها وقد تذكر مقولة حكيمة “افدح سخريات الحياة ان لا يخرج احد منها حيا” !
مهند النابلسي